بقلم أحمد القاروط
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
خلال الشهر الماضي، أعلنت كل من إسبانيا وأيرلندا والنرويج اعترافها رسمياً بفلسطين كدولة، لتنضم بذلك إلى أكثر من 140 دولة عضواً في الأمم المتحدة تعترف بها من الأساس.
لقي هذا الاعتراف الترحاب باعتباره خطوة إيجابية إلى الأمام، خاصة وأن المحكمة الجنائية الدولية تدرس إصدار أوامر اعتقال بحق قادة الاحتلال لتورطهم في جرائم حرب في فلسطين.
المسؤولون الفلسطينيون رحبوا بدورهم بالخطوة التي اتخذتها الدول الثلاث وحثوا الدول الأخرى على اتباع نفس المسار، ومن الناحية القانونية، فإن من شأن إقامة الفلسطينيين لدولتهم أن يمكنها من الانضمام إلى العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والتجارة.
ورغم أن الاعترافات الأخيرة ليست سوى خطوة جدي نحو الاعتراف الكامل بفلسطين من جانب الأمم المتحدة، إلا أنها لقيت إدانة الاحتلال الذي ناقش اتخاذ تدابير تصعيدية ضد الدول المعنية، متهماً إياها بدعم الإرهاب.
اقترح المسؤولون في دولة الاحتلال تدابير عقابية بحق الفلسطينيين، في حين تدرس الولايات المتحدة فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لمحاولتها إصدار مذكرات اعتقال ضد اثنين من قادة الاحتلال.
فقد طالب وزير المالية في دولة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بقطع الدعم المالي عن السلطة الفلسطينية وبناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، كما دعا إلى إلغاء جميع تصاريح كبار الشخصيات (VIP) التي يحملها كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية، والتي تسهل سفرهم وعلاقاتهم التجارية.
وفي حين ترسخ الاعترافات الدولية الحقوق القانونية والدبلوماسية بالدولة الفلسطينية، فإن العقوبات المالية المحتملة التي يفرضها الاحتلال على السلطة الفلسطينية قد يكون ذا تأثير كارثي على آفاق بقائها وعلى سبل عيش الفلسطينيين، كما حذر المسؤولون الغربيون.
لقد أدت القيود التي فرضتها دولة الاحتلال على دخول 200 ألف عامل فلسطيني إلى للعمل لديها بعد أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى الحد من وصولهم إلى مصادر العمل.
”الخيار النووي”
حاولت دولة الاحتلال فصل البنوك الفلسطينية في القدس عن شبكتها من خلال تعطيل اتصالها بالإنترنت، وقد تمت معالجة القضية بسرعة، وتم استعادة الاتصال في غضون ساعات قليلة.
هذه الحادثة لا تؤكد فقط على خطورة التهديد بالحرب المالية ضد الفلسطينيين، بل وأيضاً على الحاجة الملحة للفلسطينيين إلى السعي لتحقيق الاستقلال المالي عن دولة الاحتلال.
إن “الخيار النووي” الذي اقترحه سموتريتش بعدم تجديد الإعفاء الحيوي من شأنه أن يزيل الحماية التي تتمتع بها بنوك الاحتلال من الملاحقة القانونية جراء حفاظها على العلاقات مع البنوك الفلسطينية، حيث يسهل هذا الإعفاء سداد ثمن الخدمات والواردات الفلسطينية، بما في ذلك الكهرباء والمياه والغذاء.
ومن المقرر أن ينتهي الإعفاء في الأول من تموز/يوليو ويمكن تجديده سنوياً، وهو يسمح لبنوك الاحتلال بمعالجة المدفوعات الدولية نيابة عن البنوك الفلسطينية، ومن شأن خطوة كهذه من جانب تل أبيب أن تزعزع استقرار البنوك الفلسطينية المحلية، حيث قد يسارع العملاء إلى سحب أموالهم خوفاً من مصادرتها من قبل الاحتلال.
إن من شأن هذا القرار أن يمكن الإسرائيليين من المطالبة بتعويضات من الاحتياطيات الفلسطينية المحتفظ بها في خزائنهم، مما قد يؤدي إلى مصادرة الأصول الفلسطينية، وقد حذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين إسرائيل من قطع علاقات بنوكها مع البنوك الفلسطينية لتجنب العواقب الوخيمة جداً على الاقتصاد الفلسطيني.
لقد سمح سموتريتش للتو بمصادرة 35 مليون دولار من أموال السلطة الفلسطينية المحتفظ بها في البنوك الإسرائيلية وإعطائها لـ 28 عائلة إسرائيلية يعتبرها من “ضحايا الإرهاب”.
وينهي القرار إعفاءً سابقاً بالغ الأهمية استخدمته الحكومة لمنح السلطة الفلسطينية لمنع المطالبات بالتعويض المالي المترتب على أحداث الصراع، حيث إن تغيير سياسة الاحتلال يعرض بقاء السلطة الفلسطينية للخطر ويضع الفلسطينيين في وجه حرب مالية فعالة، مما يفتح الأبواب لمزيد من مصادرة الأصول في المستقبل القريب.
لا تملك فلسطين عملة خاصة بها وتعتمد على في التداول على الشيكل الإسرائيلي، وبالتالي، فإن سلطة النقد الفلسطينية، التي تعمل كبنك مركزي بحكم الأمر الواقع، تعتمد على بنك إسرائيل للوصول إلى الاحتياطيات والخدمات المالية.
ومن غير الإعفاء، لن تتمكن الشركات الإسرائيلية والأجنبية التي لها علاقات تجارية مع السلطة الفلسطينية من إيداع أو تلقي المدفوعات من البنوك الفلسطينية، مما يعرضها لخطر الانهيار.
وللتغلب استراتيجياً على مثل هذه القيود، ينبغي للفلسطينيين أن يسعوا إلى التعامل مباشرة مع العالم، الأمر الذي يقومه الاحتلال خشية التأثيرات السلبية مثل انكماش القاعدة النقدية للشيكل، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى خفض قيمة العملة وإضافة الضغوط إلى اقتصاد الاحتلال المتذبذب أساساً.
وللحصول على الاستقلال المالي، ينبغي لفلسطين أن تدرس عدة خيارات، فيمكنها مثلاً أن تنقل خدماتها المصرفية مؤقتاً إلى الخارج للالتفاف على السيطرة المادية للبنوك الإسرائيلية على احتياطياتها، وربط أنظمة الدفع الخاصة بها بشكل مستقل بشبكات الدفع العالمية، فبعد الحرب العالمية الثانية، احتفظت العديد من البلدان باحتياطياتها في الخارج، في سلوك مازال متبعاً من قبل بعض البلدان حتى اليوم
وفيما قد تختلف الدوافع، فمن الأهمية بمكان أن يفكر الفلسطينيون في نقل احتياطياتهم إلى الخارج، ولو مؤقتاً، لضمان أمن أموالهم وتسهيل المعاملات مع العالم، ولتجنب الممارسات المالية العقابية المستمرة للاحتلال.
ابتكارات مالية
يمكن للاتحاد الأوروبي أو الدول العربية، مثل الإمارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية، أن تبرم اتفاقاً مؤقتاً مع السلطة الفلسطينية لإدارة هذه الترتيبات إلى أن يتضاءل خطر المصادرة والملاحقة القضائية من قبل الاحتلال.
وعلى سبيل المثال، يمكن لفلسطين التفاوض مع البنك المركزي الأوروبي لتقديم خدمات الحراسة للاحتياطيات الفلسطينية.
ويمكنها أيضاً أن تسعى للحصول على تراخيص للبنوك الفلسطينية لتقديم خدمات مصرفية خارجية من الاتحاد الأوروبي، باستخدام أنظمة الدفع الخاصة به.
ومن شأن مثل تلك الإجراءات أن تساعد في منع الاحتلال من ممارسة السيطرة الكاملة على المال الفلسطينية، وبالتالي تحسين الموقف التفاوضي الفلسطيني في أي محادثات سلام مستقبلية مع الاحتلال، كما أنها ستمنح الاتحاد الأوروبي نفوذاً للتأثير على الاحتلال للاعتراف بالحقوق النقدية الفلسطينية.
وبدلاً من ذلك، يمكن لفلسطين أن توقع اتفاقاً مع الدول العربية لاستخدام شبكات الدفع الخاصة بها بدلاً من إسرائيل، وقد طلبت المملكة العربية السعودية بالفعل من دولة الاحتلال الاعتراف بعملة فلسطينية كبادرة حسن نية نحو السلام، ويمكن للرياض أن تستغل نفوذها الدولي لحماية استقلال وسلامة مثل هذه العملة.
إن هذا من شأنه أن يمكّن فلسطين من التمتع بحرية حركة رأس المال على المستوى الدولي، والاستفادة من المبادرات المالية التي تسعى إليها البنوك المركزية ورجال الأعمال في هذه البلدان، مثل استخدام العملات الرقمية والعملات المشفرة للبنوك المركزية.
ولكن هذه الأنظمة المالية قد تواجه عقوبات أمريكية، مما يعيق فعاليتها، وقد يتم توجيهها كسلاح ضد الفلسطينيين إذا لم تحظ بدعم سياسي قوي، لذلك، يمكن لفلسطين أن تفكر أيضاً في الشراكة مع دول البريكس، التي هي أقل عرضة لتهديد العقوبات الأمريكية وقد تستخدم فلسطين كأرض اختبار لأنظمة مثل Brics Pay، التي تهدف إلى تقديم خيارات غير متأثرة بالولايات المتحدة.
وفي ظل استمرار تحدي الاحتلال للقانون الدولي فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية، فإن من المرجح أن تفرض المزيد من الدول عقوبات وقيوداً تجارية عليها، وقد بدأت تركيا وإيران هذا الشهر في فرض أنظمة عقوبات تجارية، وفرضت الصين وإسبانيا بعض القيود التجارية غير الرسمية.
ويمكن أن تتوسع مثل هذه التدابير لتشمل العقوبات المالية على إسرائيل، والتي يمكن استخدامها كوسيلة ضغط عليها لاحترام الاستقلال المالي لفلسطين وحق فلسطين في الوصول إلى الشبكات المالية العالمية لتأمين الغذاء والإمدادات الأساسية.
ويمكن للدول العربية أيضاً أن تستخدم نفوذها في النظام المالي الدولي لتعزيز الروابط النقدية الفلسطينية، إما من خلال المفاوضات أو من خلال تدابير أكثر استباقية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)