بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لم تتجاوز إسرائيل “الخطوط الحمراء” التي ادعاها بايدن في غزة فحسب، فمع المذبحة التي ارتكبتها إسرائيل في مخيم النصيرات للاجئين مؤخراً، قامت إسرائيل بجرف تلك الخطوط وعبر إدارة بايدن نفسها!
لقد أدت عملية عسكرية إسرائيلية لاستعادة 4 إسرائيليين احتجزتهم حماس منذ هجومها على إسرائيل في 7 أكتوبر، إلى مقتل أكثر من 270 فلسطينياً، كثير منهم من النساء والأطفال، حتى أن العدد الحقيقي للوفيات قد لا يُعرف أبدًا، فلا تزال أعداد لا حصر لها من الرجال والنساء والأطفال تحت الأنقاض بسبب القصف، والبعض الآخر تحول إلى أشلاء، فيما ترك آخرون ليختنقوا من الحصار والجفاف إذا لم يتم انتشالهم في الوقت المناسب.
أما مئات آخرون أصيبوا فهم يعانون من إصابات مؤلمة في وضع لم يعد فيه هناك أي مرافق طبية تقريباً بعد تدمير إسرائيل للمستشفيات واختطافها الجماعي للعاملين الطبيين الفلسطينيين، كما أنه لا توجد أدوية لعلاج الضحايا، نظراً لفرض إسرائيل حصاراً على المساعدات منذ أشهر.
إسرائيل من خلال قيامها بإخفاء جنودها في شاحنة مساعدات، قد جرت جهود الإغاثة، الطريقة الوحيدة لإنهاء المجاعة في غزة، إلى قلب ساحة المعركة، والآن لدى حماس كل الأسباب للخوف من أن عمال الإغاثة ليسوا كما يبدون. وأنهم في الحقيقة أدوات لإرهاب الدولة الإسرائيلية!
على الجانب الآخر، احتفل الإسرائيليون والمنظمات اليهودية الأميركية بالمذبحة التي حدثت بعد إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، الذين كان من الممكن أن يعودوا إلى ديارهم قبل أشهر لو كانت إسرائيل مستعدة للاتفاق على وقف إطلاق النار، حيث أظهرت مقاطع الفيديو إسرائيليين يرقصون في الشارع.
وفقاً لتقارير، فإن العملية الدموية الإسرائيلية في وسط غزة ربما تكون قد أدت إلى مقتل 3 أسرى آخرين، من المحتمل أن يكون أحدهم مواطناً أمريكياً.
ومن المفارقات التي نشرتها صحيفة هآرتس، ما ورد على لسان لويس هار، الرهينة الذي تم إطلاق سراحه في فبراير، حين صرح: “كان خوفنا الأكبر هو طائرات الجيش الإسرائيلي والقلق من قصف المبنى الذي كنا فيه، لم نكن قلقين من أنهم (في إشارة إلى حماس) سيفعلون بنا شيئاً فجأة، لم نعترض على أي شيء ولذلك لم أكن خائفاً من أن يقتلوني”.
نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، وصفه لعملية السبت بأنها “واحدة من أكثر العمليات البطولية والاستثنائية التي شهدتها على مدار 47 عاماً من الخدمة في مؤسسة الدفاع الإسرائيلية”.
وفي المقابل، يسعى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية حالياً إلى إصدار أمر اعتقال بحق غالانت، وكذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وتشمل الاتهامات الجهود المبذولة لإبادة شعب غزة من خلال التجويع المخطط له.
إرهاب الدولة
لقد دأبت إسرائيل على تدمير قوانين الحرب الراسخة منذ أكثر من 8 أشهر، فقد قتل ما لا يقل عن 37 ألف فلسطيني حتى الآن في غزة، في وضع لم يعد فيه هناك قدرة على إحصاء العدد الحقيقي للضحايا في الأسابيع الأخيرة في أعقاب التدمير الإسرائيلي المتواصل لمؤسسات القطاع والبنية التحتية.
علاوة على ذلك، فقد قامت إسرائيل بهندسة مجاعة تعمل، بعيداً عن الأنظار، على تجويع سكان غزة تدريجياً حتى الموت!
تجدر الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية كانت قد قدمت إسرائيل للمحاكمة بتهمة الإبادة الجماعية في يناير الماضي، وقبل شهر، أمرت بوقف فوري للهجوم الإسرائيلي على مدينة رفح جنوب قطاع غزة، ومع ذلك، فلم ترد إسرائيل على كلا الحكمين القضائيين إلا بمزيد من عمليات القتل!
لقد ركز التقرير الرئيسي لبي بي سي على احتفالات عائلات الأسرى المحررين، وتعامل مع المذبحة التي تعرض لها الفلسطينيون كفكرة لاحقة، معتبراً أن عدد القتلى “متنازع عليه”!
في هذا السياق، تأتي جريمة النصيرات كمثال آخر يدل على شعور إسرائيل بالقدرة على الإفلات من العقاب، حيث تضمنت عملية الإنقاذ جريمة حرب صارخة أخرى، حيث استخدمت إسرائيل شاحنة مساعدات إنسانية، من المفترض أنها تحمل مواد الإغاثة لسكان غزة، كغطاء لعمليتها العسكرية، وهذه جريمة تعرف في القانون الدولي بجريمة الغدر.
من جهة أخرى، فإن إسرائيل تمنع إسرائيل المساعدات عن غزة منذ أشهر كجزء من سياسة تجويع السكان، كما قامت باستهداف عمال الإغاثة، حيث قتل أكثر من 250 منهم منذ أكتوبر، وبشكل أكثر تحديداً، فإن إسرائيل تشن حرباً على الأونروا، وتزعم دون تقديم أي دليل أن وكالة المعونة الرئيسية التابعة للأمم المتحدة في غزة متورطة في العمليات “الإرهابية” التي تقوم بها حماس.
إضافة إلى ذلك، فإن إسرائيل من خلال قيامها بإخفاء جنودها في شاحنة مساعدات، قد جرت جهود الإغاثة، الطريقة الوحيدة لإنهاء المجاعة في غزة، إلى قلب ساحة المعركة، والآن لدى حماس كل الأسباب للخوف من أن عمال الإغاثة ليسوا كما يبدون. وأنهم في الحقيقة أدوات لإرهاب الدولة الإسرائيلية!
دافع شرير
في ظل هذه الظروف، كان ربما من المتوقع أن تسارع إدارة بايدن إلى إدانة تصرفات إسرائيل والنأي بنفسها عن المجزرة، ولكن بدلاً من ذلك، كان جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن، حريصاً على نسب الفضل إليه في المذبحة الجماعية التي أسماها “العملية الجريئة”.
اعترف سوليفان في مقابلة مع شبكة سي إن إن، بأن الولايات المتحدة عرضت المساعدة في عملية الإنقاذ، رغم أنه رفض توضيح كيفية ذلك، حيث قال: “تقدم الولايات المتحدة الدعم لإسرائيل منذ عدة أشهر في جهودها للمساعدة في تحديد مواقع الرهائن في غزة ودعم الجهود الرامية إلى تأمين إنقاذهم أو انتشالهم”.
أثارت تعليقات سوليفان الشكوك القائمة بأن مثل هذه المساعدة تمتد إلى ما هو أبعد من توفير المعلومات الاستخبارية وإمدادات ثابتة من القنابل التي أسقطتها إسرائيل على قطاع غزة، فقد كشف مسؤول لدى إدارة بايدن لموقع أكسيوس، أن جنوداً أمريكيين ينتمون إلى ما يسمى بوحدة الرهائن الأمريكيين شاركوا في عملية الإنقاذ التي راح ضحيتها مدنيون فلسطينيون.
يضاف إلى ذلك الرصيف العائم الأمريكي الذي ظهر في لقطات كخلفية لطائرات الهليكوبتر المشاركة في الهجوم، حيث تم بناء الرصيف ظاهرياً قبالة ساحل غزة بتكلفة باهظة، حوالي 320 مليون دولار، وعلى مدى شهرين لتجاوز الحظر الذي تفرضه إسرائيل على المساعدات البرية، في طريقة وصفت بأنها لم تكن فقط غير عملية وغير فعالة لتوصيل المساعدات فحسب، بل من المحتمل أن تكون هناك دوافع خفية وشائنة وراء بنائها.
وقد عزز هذا الادعاء موقع الرصيف في منتصف ساحل غزة، في نقطة تقسم القطاع إلى قسمين، مما أدى إلى إنشاء ممر بري أصبح وكأنه فعلياً حدود جديدة يمكن لإسرائيل من خلالها شن غارات على وسط غزة مثل ما حدث في النصيرات، مما يؤكد كلام النقاد، فلم يعد الرصيف بمثابة طريق للمساعدات إلا بالكاد منذ وصول الشحنات الأولى في منتصف مايو.
لقد أدى استخدام الرصيف كرأس جسر لعملية أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 270 فلسطينياً، إلى جر واشنطن بشكل أعمق إلى التواطؤ مع ما وصفته المحكمة الدولية بـ “الإبادة الجماعية المعقولة”، وهذا يعني أيضاً أن إدارة بايدن تنضم إلى إسرائيل مرة أخرى، بعد سحب تمويلها للأونروا، في تشويه سمعة عملية المساعدات في غزة بشكل مباشر في وقت تحتاج فيه غزة إلى المساعدات بشدة.
كان هذا هو السياق لفهم إعلان برنامج الأغذية العالمي بعد العملية عن وقف استخدام الرصيف لتوصيل المساعدات، بسبب مخاوف “السلامة”!
مجزرة ناجحة!
كما هي الحال دائماً، بالنسبة لوسائل الإعلام والساسة الغربيين الذين وقفوا بحزم ضد وقف إطلاق النار رغم أنه كان من الممكن أن يضع حداً لمعاناة الأسرى الإسرائيليين قبل أشهر، فإن حياة الفلسطينيين لا قيمة لها بالمعنى الحرفي للكلمة.
من جانبه، فقد رأى المستشار الألماني، أولاف شولتز، أنه من المناسب وصف مقتل أكثر من 270 فلسطينياً أثناء إطلاق سراح الإسرائيليين الأربعة بأنه “علامة أمل مهمة”، بينما أعرب رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك عن “ارتياحه الكبير”.
ماذا لو تخيلنا العكس؟ وأننا نصف بعبارات إيجابية مماثلة عملية نفذتها حماس وأسفرت عن مقتل 270 إسرائيلياً لتحرير حفنة من المئات من العاملين في المجال الطبي الذين اختطفتهم إسرائيل من غزة في الأشهر الأخيرة والمعروف أنهم محتجزون في منشأة للتعذيب؟!
لقد أشادت وسائل الإعلام بالعملية باعتبارها “ناجحة” و”جريئة”، حتى وصفتها صحيفة “لندن تايمز” بأنها “ضربة جراحية”، وكأن قتل وتشويه حوالي ألف فلسطيني والاستمرار في جرائم الحرب لا ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار.
لقد ركز التقرير الرئيسي لبي بي سي على احتفالات عائلات الأسرى المحررين، وتعامل مع المذبحة التي تعرض لها الفلسطينيون كفكرة لاحقة، معتبراً أن عدد القتلى “متنازع عليه”!
هنا يظهر “الرصيف الإنساني” الأمريكي الذي تم تم استخدامه في مذبحة النصيرات، فقد يصبح قريباً “رصيفاً إنسانياً” يتم من خلاله تطهير الفلسطينيين في غزة ونقلهم من منطقة الموت التي هندستها إسرائيل!
الحقيقة المهمة هنا هي أن عملية “الإنقاذ” الوحشية كانت لتصبح غير ضرورية على الإطلاق لو لم يكن نتنياهو عازماً على التراجع عن التفاوض بشأن إطلاق سراح الأسرى، وبالتالي تجنب السجن بتهم الفساد، مع نية الولايات المتحدة للتسامح بشكل كامل مع مماطلته.
إضافة إلى ذلك، فسوف يكون من الصعب للغاية تكرار مثل هذه العملية، كما أشار المراسل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هاريل، حيث ستتعلم حماس الدروس من خلال حراسة الأسرى المتبقين بشكل أوثق، وعلى الأرجح تحت الأرض في أنفاقها، موضحاً أن عودة الأسرى المتبقين “لن تتم على الأرجح إلا في إطار صفقة تتطلب تنازلات كبيرة”.
استغلال القتل
استقال بيني غانتس، السياسي الذي ساعد في الإشراف على المذبحة الإسرائيلية خلال 8 أشهر في غزة داخل حكومة نتنياهو الحربية، ويوصف على نطاق واسع بأنه “معتدل” في الغرب، من الحكومة بعد العملية.
رغم الخلاف الذي يدور ظاهرياً حول كيفية تخليص إسرائيل نفسها من غزة خلال الأشهر المقبلة باعتباره سبب الاستقالة، إلا أن التفسير الأكثر ترجيحاً هو أن غانتس يرغب في النأي بنفسه عن نتنياهو في الوقت الذي يواجه فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي اعتقالاً محتملاً بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتحضير للانتخابات المقبلة ليأخذ غانتس مكانه.
أمريكياً، يعتبر البنتاغون وإدارة بايدن أن غانتس هو رجلهم، فإخراجه من الحكومة قد يمنحهم نفوذاً إضافياً على نتنياهو في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر والتي سيحاول فيها دونالد ترامب جاهداً التقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي.
لا شك أن التركيز على السياسة الإسرائيلية، حول تواطؤ الولايات المتحدة في مذبحة النصيرات – يوفر إلهاءً مرحباً به أيضاً، فبينما يقوم وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بجولة في المنطقة فسوف يرغب في أن يُرى وهو يحشد الدعم لخطة وقف إطلاق النار التي من المفترض أن تؤدي إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وهي خطة سيعقد نتنياهو العزم مرة أخرى على إحباطها.
وعليه، فإنه من المرجح أن لا تؤدي جهود بلينكن إلى شيء، خاصة بعد التورط الواضح لإدارة بايدن في قتل مئات الفلسطينيين، الأمر الذي جعل ادعاء واشنطن بأنها “وسيط نزيه” يبدو في نظر الجميع، باستثناء الطبقة السياسية والإعلامية الغربية المطيعة، أكثر إثارة للسخرية من قبل!
وهنا يطرح السؤال الحقيقي حول ما إذا كانت إخفاقات بلينكن الدبلوماسية المتسلسلة في إنهاء المذبحة في غزة هي خطأ أم ميزة؟ فقد تم الكشف عن التناقض الصارخ في موقف واشنطن تجاه غزة خلال مؤتمر صحفي مع المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر قبل أيام، عندما أشار إلى أن هدف إسرائيل والولايات المتحدة يتلخص في إقناع حماس بحل نفسها، عبر شكل من أشكال الاستسلام على الأرجح، مقابل وقف إطلاق النار.
قال ميلر أن حماس لديها حافز للاستسلام “لأنهم لا يريدون أن يروا استمرار الصراع، واستمرار موت الشعب الفلسطيني، إنهم لا يريدون رؤية الحرب في غزة”، وهو كلام شكل مفاجأة حتى بالنسبة للصحافة الغربية المذعنة عادة، بتلميح ميلر إلى أن القتل الجماعي للفلسطينيين، مثل ما حدث في مخيم النصيرات، كان ينظر إليها في واشنطن على أنها وسيلة ضغط يمكن ممارستها على حماس.
بطبيعة الحال، فقد كان التناقض الظاهري على الأرجح مجرد جهد إضافي من واشنطن لحرف الأنظار عن الهدف الحقيقي، وهو شراء المزيد من الوقت لإسرائيل للقيام بما هي متقدمة جداً في القيام به أصلاً، وهو سحق غزة وجعلها غير صالحة للسكن إلى الأبد، حتى يجد سكانها أنفسهم في مواجهة معضلة بين البقاء والموت أو الرحيل بأي وسيلة كانت.
وهنا يظهر “الرصيف الإنساني” الأمريكي الذي تم تم استخدامه في مذبحة النصيرات، فقد يصبح قريباً “رصيفاً إنسانياً” يتم من خلاله تطهير الفلسطينيين في غزة ونقلهم من منطقة الموت التي هندستها إسرائيل!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)