بقلم جيس سالومون
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لأكثر من ثمانية أشهر، أسفر عدوان الاحتلال المدعوم من الولايات المتحدة على غزة عن استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين، كما دمر مباني غزة وبنيتها الأساسية إلى الحد الذي جعل ملاحظة ذلك ممكناً من الفضاء.
لقد دُفنت تحت الأنقاض وبجانب المفقودين، الذين تغمرهم المواد السامة والذخائر غير المنفجرة، كل الذرائع التي تبقت للولايات المتحدة كدولة تحترم التزاماتها بموجب القانون الدولي وبشكل خاص منع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها.
وليس من باب المجازفة القول أن القانون الدولي لا يطبق على قدم المساواة، فنحن نعلم أن النظام الدولي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية يقوم على قواعد تحقيق مصلحة المنتصرين في تلك الحرب.
لقد مثلت الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تتمتع بحق النقض صورة للعالم في عام 1946، من كوفئ ومن عوقب، مع الاحتفاظ ببعض الاعتبارات للتمثيل الإقليمي (مثل الصين).
ومع ذلك، فمن المروع حقاً أن نرى هذا التوزيع مكشوفاً إلى هذا الحد، حيث صار الأمر أشبه بنشر صاحب عمل إعلاناً يقول فيه: “أوظف رجالاً يلعبون معي لعبة الجولف وأشخاصاً يجب أن أوظفهم لأنني مدين لشخص ما بمعروف”، تخيل أن يأتي أحد الحراس ليقول: “الناس الجذابون والأثرياء والمشاهير فقط أما الآخرون، فأنتم تفسدون الأجواء”.
نحن نعلم أن الناس يعاملون بشكل مختلف، وأن الاستثناءات تُستَخدَم للأقوياء، ولكن بشكل عام، يتم الحفاظ على سلامة المظهر، فكل شخص لديه فرصة، إن لم تكن عادلة، فهي فرصة.
في مقابلة أجريت مؤخراً، قال المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان لكريستيان أمانبور من شبكة سي إن إن: “لقد تحدث معي بعض القادة المنتخبين وكانوا صريحين للغاية، فقد قال لي أحد كبار القادة: هذه المحكمة أُسست من أجل أفريقيا والبلطجية مثل بوتن”.
أجرى خان هذه المقابلة في أعقاب إعلانه أنه يسعى إلى إصدار أوامر اعتقال لثلاثة من قادة حماس، إلى جانب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استهداف حليف للولايات المتحدة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ويبدو أن هذا كل ما كان مطلوباً لكي يقال الجزء الهادئ من الأمر بصوت مرتفع.
دائماً كنت أفترض أن الولايات المتحدة ستحاول الحفاظ على مستوى معين من الإنكار المعقول فيما يتعلق بالتطبيق المتساوي للقانون الدولي، وأنها ستحترم أحكام المحاكم الدولية مع تجنب اختصاصها، ولو فقط لأن التزامها المعلن بتعزيز وحماية حقوق الإنسان وسيادة القانون والمبادئ الديمقراطية يلعب دوراً مهماً في تبرير سياستها الخارجية التدخلية.
ويبدو أن الاستثنائية الأميركية، كما تنطبق على العلاقات الدولية، تتطلب التظاهر ولو كان ضعيفاً بأن الولايات المتحدة هي في نهاية المطاف قوة من أجل الخير في العالم على الرغم من إخفاقاتها،
“هذا ثمن باهظ للغاية يجب دفعه لحليف يأخذ أموالك ولا يبدو أنه يحترمك”.
ببساطة، إذا كانت دولة مارقة تتصرف خارج القانون وتستخدم قوتها الهائلة لتقويض النظام لسبب واحد فقط هو مصلحتها الذاتية (ومصالح حلفائها)، فماذا تبقى لنا؟ ماذا سيحدث إذن للنظام الدولي القائم على القواعد؟
يبدو هذا وكأنه تنازل كبير لحليف متهم بشكل منطقي بالإبادة الجماعية، ولا يوجد أي إنكار معقول يمكن الرجوع إليه عندما نرى جميعاً الجرائم التي يرتكبها الاحتلال، عندما نرى الأسلحة والأموال التي تواصل الولايات المتحدة إرسالها، والخطوط الحمراء التي تم رسمها ثم تجاوزها.
لا يوجد أي إنكار معقول يمكن الرجوع إليه عندما يشهد الناس في جميع أنحاء العالم المعاناة التي لا يمكن تصورها للفلسطينيين في غزة كل يوم لأكثر من ثمانية أشهر.
لا يوجد أي إنكار عندما يكون الرأي المتفق عليه بين الخبراء القانونيين والجماعات الإنسانية الدولية هو أن الاحتلال يرتكب إبادة جماعية، لقد أمرت محكمة العدل الدولية مراراً وتكراراً باتخاذ تدابير مؤقتة ضد الاحتلال، مشيرة إلى الحاجة الملحة لحماية الفلسطينيين في غزة من خطر الإبادة الجماعية المحتمل.
قصص خيالية إسرائيلية
ومع ذلك، يقف المتحدثون باسم الرئيس الأمريكي جو بايدن على منصة البيت الأبيض يوماً بعد يوم، ويشاركون ما يبدو وكأنه قصص خيالية إسرائيلية، حيث يطرح عليهم المراسلون أسئلة جادة ومحددة.
في عالم إدارة بايدن الخيالي، يقولون لنا أن إسرائيل تحقق في كل الفظائع الموثقة التي ارتُكبت ضد المدنيين في غزة وأنه يمكن الوثوق بها للقيام بذلك.
يشمل هذا بالتأكيد الفظائع بحق الأطفال، وعمال الإغاثة، والأطباء، والصحفيين، وسائقي سيارات الإسعاف، والمرضى المقيدين بأكياس بلاستيكية مع المحاليل الوريدية التي لا تزال في أذرعهم والذين تم استخراج جثثهم من مقابر جماعية.
لا يهم أن الاحتلال لم يجرِ أي تحقيق من هذا القبيل بشكل شرعي، لم يحققوا حتى (على الأقل صورياً) فيما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
في هذا العالم، قيل لنا إن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها ولاية قضائية، لأنه يمكن الوثوق بالقضاء المستقل في إسرائيل لمحاسبة قادتها على جرائم الفظائع.
قيل لنا ذلك وكأننا لا نشاهد جميعاً نتنياهو يترأس إبادة جماعية لتجنب المساءلة الشخصية عن جرائم أقل بكثير (جداً)، وكأن هذه الحكومة، قبل مقاطعتها في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم تكن تعمل بشكل خاص على انتزاع السلطة القضائية المستقلة لمراجعة تصرفاتها.
في الواقع، كان المثال الحقيقي الوحيد للمساءلة الذي رأيناه هو قرار دولة الاحتلال الأخير بالتخلص التدريجي من استخدامها لمرفق احتجاز سدي تيمان.
وقد جاء هذا بسبب تقرير لشبكة سي إن إن أوضح الاستخدام المتطرف للتعذيب ضد المعتقلين المحتجزين دون تهمة أو محاكمة أو الوصول إلى الصليب الأحمر، بما في ذلك ربطهم بالكراسي الكهربائية ووضع قضبان معدنية الساخنة في فتحة الشرج.
فضح النفاق
إنه ليس حتى تلاعباً بالآخرين، إن مؤتمرات البيت الأبيض الصحفية هذه أشبه بمقاطع أداء مظلمة وعبثية للغاية.
هل تتذكرون وزير الإعلام العراقي أثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003؟ كان يتحدث إلى الكاميرات، وينكر وجود أي دبابات أميركية في بغداد، بينما كان من الممكن رؤيتها وسماع صوتها يقترب من خلفه، لقد أصبح الأمر شبيهاً بذلك، ولكن بشكل أكثر تكراراً، وبأقل قدر من الكاريزما والفكاهة.
لقد كشفت غزة، والقضية الفلسطينية بالعموم عن نفاق الحكومات الغربية بطرق يصعب تخيلها، لقد شهدنا القمع المناهض للديمقراطية للاحتجاجات السلمية، والحريات الأكاديمية والفنية والقائمة السوداء المكارثية للأشخاص الذين يدافعون عن تحرير فلسطين.
هناك احتمال حقيقي للغاية أن يُعاد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا في تشرين الثاني/نوفمبر، وإذا لم يشارك الشباب في التصويت لصالح بايدن بسبب دعمه الكامل لهذه الإبادة الجماعية (ولأن الحزب الديمقراطي اختار عدم استبداله)، وإذا حدث ذلك، فقد ينتهي الأمر بالديمقراطية الأمريكية نفسها مدفونة تحت الأنقاض.
مرة أخرى، أعتقد أنه من الجدير التأكيد على ذلك: هذا ثمن باهظ للغاية يجب دفعه لحليف يأخذ أموالك ولا يبدو أنه يحترمك.
ربما بالنظر إلى الخلف، سيُنظر إلى غزة على أنها كانت بمثابة بداية نهاية الاستثنائية الأمريكية، وفي مكانها، سنرى إعادة ترتيب تضع الجنوب العالمي والشمال العالمي على قدم المساواة.
لا يعني أي من هذا أن المثل العليا التي تدعي الاستثنائية الأمريكية بناءً عليها مثل الديمقراطية والحرية والمساواة لا تزال جديرة بالاهتمام، لكن ملاحقتها ليست مبرراً للإعفاء من تطبيق وعواقب القانون الدولي.
في عالم ما بعد الاستثنائية هذا، ربما يتم الاستغناء أخيراً عن التظاهر، وربما نستطيع جميعاً أن نعترف أخيراً بأن الولايات المتحدة هي في الواقع أكبر بلطجية في العالم.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)