بقلم أحمد درملي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
حلمت بالأمس بأكل الموز والتفاح… ثم استيقظت بابتسامة عريضة على وجهي، لكن تلك الفرحة العابرة سرعان ما تحولت إلى خيبة أمل عندما أدركت أنني ما زلت هنا في شمال غزة بمعدة فارغة وسط الإبادة الجماعية.
هذه ليست المرة الأولى التي نواجه فيها مجاعة في غزة، فمنذ 7 أكتوبر، فرض الجيش الإسرائيلي قيوداً صارمة على دخول المواد الغذائية الأساسية إلى غزة، كما قام بقصف متاجر المواد الغذائية والمخابز بهدف تجويعنا حتى الموت.
أشعلنا شمعة بدون كعكة وغنينا “عيد ميلاد سعيد” على أزيز الطائرات الإسرائيلية بدون طيار، فسألته أخته: “ماذا تتمنى في عيد ميلادك؟”، فقال: “أحلم بأكل شطيرة همبرغر!”
اضطررنا للبحث عن بدائل للدقيق الأبيض، الذي أصبح غير متوفر أو باهظ الثمن، واستخدمنا العلف الحيواني وعندما نفد، بدأنا نأكل أوراق الشجر والعشب لملئ بطوننا الفارغة، حتى أصبح معظم أفراد عائلتي والأشخاص الذين أعرفهم في غزة وخاصة الأطفال، يعانون من أمراض مثل اليرقان والتهاب الكبد بسبب سوء التغذية والجفاف.
في لحظة ما، سمحت إسرائيل بتدفق طفيف للمساعدات الإنسانية، وهو ما بدا وكأنه راحة صغيرة لأجسادنا الضعيفة، ولكنه لم يدم طويلاً فقد تبعته تدابير أقوى لمنع دخول الغذاء إلى غزة!
مثل عائلات كثيرة، قمنا في أكتوبر بتخزين كل ما يمكن أن نجده من الخضروات والتوابل والأغذية المعلبة، وهي مواد لا تفسد بدون التبريد فلم يعد لدينا كهرباء منذ بدء الحرب، لكن إمداداتنا نفدت بعد بضعة أسابيع، وبدأ الناس في البحث عن الطعام في المنازل التي لم تعد مأهولة أو حتى بين الأنقاض، ولكن تلك الإمدادات نفدت بسرعة أيضاً.
لا تزال بعض الأسواق تحتوي على مواد غذائية للشراء، لكن الناس قد أفلسوا بعد 9 أشهر من الحرب، فأنا مثلاً قد أنفقت كل مدخراتي بل واستدنت، حتى وصل الحال بالكثير من الناس لبيع أثاثهم أو ممتلكات أخرى لشراء الطعام أو الدقيق أو الدواء!
هل نضحك أم نبكي؟
مع أواخر يونيو، كان قد مضى أكثر من 4 أشهر على حصول عائلتي على آخر إمدادات من الخضار الطازجة أو اللحوم أو أي أطعمة صحية أخرى، فنحن نعيش على الدقيق وعدد محدود من السلع المعلبة والبقوليات، فهي الأطعمة الوحيدة المسموح بدخولها إلى غزة عبر شاحنات المساعدات الإنسانية المنتظرة على الحدود.
نحن مضطرون لأكل نفس أنواع الطعام كل يوم، وغالباً ما يبكي أطفال العائلة لأنهم يرفضون تناول نفس الوجبات الرتيبة رغم جهود أختي لإضفاء نكهة مميزة على الوصفات، فقد بكت ابنة أخي، تيا، البالغة من العمر 4 سنوات، لأنها أرادت البطيخ بعد رؤيتها في الرسوم المتحركة، فكذبنا عليها وأخبرناها أن البطيخ ليس صحياً فقط لكي نوقف دموعها، وقد علمتنا تلك الحادثة أن لا نضع أمام الأطفال كرتوناً يعرض طعاماً!
لقد اعتاد الناس في غزة أن يكونوا كرماء ومستعدين دائماً لاستضافة الآخرين وإطعامهم، ولكن الآن يعاني الجميع من الجوع الشديد وليس لديهم ما يمكن أن يجودوا به
إنه لأمر مفجع أن نرى الأطفال يعانون من الجوع، ونحن عاجزون عن تقديم المساعدة، فحمود، ابن أخي قد أتم 5 سنوات قبل أيام، وقد قررنا أن نحتفل رغم كل شيء، فأشعلنا شمعة بدون كعكة وغنينا “عيد ميلاد سعيد” على أزيز الطائرات الإسرائيلية بدون طيار، فسألته أخته: “ماذا تتمنى في عيد ميلادك؟”، فقال: “أحلم بأكل شطيرة همبرغر!”.
في تلك اللحظة، لم نعرف هل كان علينا أن نضحك أم نبكي، فلم أتخيل أبداً أن يأتي يوم يصبح فيه تناول الطعام بمثابة أمنية عيد ميلاد!
ولو توقفنا عند المساعدات الإنسانية الشحيحة التي وصلت إلى الشمال، فلا يتم توزيعها بالتساوي، فقد تلقت عائلتي المساعدات مرتين أو ثلاث مرات منذ بداية الحرب، في حين تلقتها عائلات أخرى أكثر من 20 مرة، حتى أن اناساً في حاجة حقيقية للمساعدات لم يتلقوا أي شيء، لذلك قمت بإعادة توزيع بعض مساعداتنا عليهم، فنظام توزيع المساعدات في حالة فوضى!
المشكلة الأخرى هي أن المساعدات الغذائية، التي تأتي من بلدان مختلفة، تتفاوت في الجودة، فالكثير من الأطعمة المعلبة تكون منتهية الصلاحية وتبقى في الشاحنات تحت أشعة الشمس الحارقة لفترة طويلة قبل تسليمها لذلك تصل فاسدة.
سأخبركم عن قصتي مع المعكرونة في الحرب، فأنا أحبها وكنت آكلها طوال الوقت، ولكن في الآونة الأخيرة عندما قامت أختي بطهي بعض منها، كان شكلها غريباً، كما لو أنها تم طهيها ثم إعادة طهيها، فسألتني أختي عن طعمها، نظرت إليها ولكني لم أقل شيئاً ثم ضحكنا معاً على مبدأ شر البلية ما يضحك، فلم يكن لدينا خيار سوى تناولها.
الموت جوعا أسوأ بكثير من الموت بالقنابل، لأنك بجوعك وجوع أطفالك الذي لا تستطيع إيقافه، تشعر أنك تموت ألف مرة، نحن نشعر بالاكتئاب والإحباط والغضب، لكن لا يمكننا الاستسلام، فليس لدينا خيار وسوف نقاوم حتى النهاية
حاولنا أنا وأبناء عمومتي زراعة النباتات، مثل البطاطس والطماطم، على سطح منزلنا، لكن ذلك فشل بسبب نقص المياه، كما أننا اضطررنا مرتين إلى الفرار من منزلنا بشكل غير متوقع عندما غزت القوات الإسرائيلية الحي الذي نعيش فيه فماتت النباتات.
“نسيت كيف أطبخ”
بعد أشهر من عدم تناول الطعام الجيد، فقد الجميع في شمال غزة بعض الوزن، فقد فقدت أنا مثلاً 15 كيلوغراماً منذ بداية الحرب، وكنت نشيطاً في السابق، لكن ساقاي الهزيلتان الآن لا تستطيعان حمل جسدي، كما أن بشرتي أصبحت شاحبة وأشعر بالدوار وألم مستمر في عظامي ومعدتي.
أختي ديانا، التي كانت تحب الطبخ وتعد أطباقاً شهية للعائلة قبل هذه الحرب، تعاني أيضاً من آلام في المعدة بسبب اضطرارها إلى تناول أطعمة منتهية الصلاحية، وأذكر أنها قالت لي بيأس: “أشعر أنني نسيت كيف أطبخ ولن أتمكن من الطبخ مرة أخرى”!
إن ما يجعل الجوع الشديد أسوأ من القصف هو أن كل شيء خلال هذه الحرب يتطلب المزيد من الجهد والطاقة، مثل جمع الحطب من المنازل المدمرة أو جلب المياه من على بعد أميال مع أجسادنا التي أصبحت ضعيفة للغاية.
أذهب كل يوم إلى المتاجر والأكشاك على أمل العثور على أي طعام لأشتريه، لكنني عادةً ما أعود خالي الوفاض، وأذكر في رحلة قمت بها مؤخراً أنني كنت محظوظاً عندما وجدت رجلاً يبيع البيض مقابل 4 دولارات للبيضة الواحدة فاشتريت 7 بيضات كانت متبقية عنده، ورغم أنها لم تكن تكفي حتى لوجبة واحدة لعائلتي، لكنها جعلت الأطفال يقفزون من السعادة، صرخت ابنة أخي، باسمة، البالغة من العمر 6 سنوات عندما رأتها في يدي: “أريد أن آكلها كلها”.
لقد اعتاد الناس في غزة أن يكونوا كرماء ومستعدين دائماً لاستضافة الآخرين وإطعامهم، ولكن الآن يعاني الجميع من الجوع الشديد وليس لديهم ما يمكن أن يجودوا به.
في عيد الأضحى، طرق أحد الأصدقاء بابنا ومعه كيس أبيض يحتوي على أوقية من اللحم، فقد كان ذكياً بما يكفي لوضعه داخل 3 أكياس حتى لا يراها أحد في الشارع، وتخيلوا أن مشكلة أمي كانت كيف تطبخها دون أن يشمها أحد، فطبختها على السطح مع إبقاء الغطاء على القدر.
الموت جوعا أسوأ بكثير من الموت بالقنابل، لأنك بجوعك وجوع أطفالك الذي لا تستطيع إيقافه، تشعر أنك تموت ألف مرة، نحن نشعر بالاكتئاب والإحباط والغضب، لكن لا يمكننا الاستسلام، فليس لدينا خيار وسوف نقاوم حتى النهاية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)