الحكومة البريطانية الجديدة… بين “الواقعية” والجبن والفشل في أول اختبار أخلاقي لها!

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة وتحرير مريم الحمد

يكفي النظر إلى أول أسبوعين في عهد حكومة حزب العمال الجديدة لاستنتاج كيف يعتزم كير ستارمر إدارة السياسة الخارجية لبريطانيا.

قبل الانتخابات، كان وزير خارجية حكومة الظل آنذاك، ديفيد لامي، قد عرض رؤيته لدور بريطانيا على الساحة الدولية، رافعاً شعار “الواقعية التقدمية” التي كان يقصد بها “السعي وراء المثل العليا دون أوهام حول ما يمكن تحقيقه”.

فما هي المُثُل التقدمية التي يرى ستارمر ولامي اتباعها “بشكل واقعي”؟!

بدأت الحكومة عهدها بصورة مشرقة حين تم تسريب خبر لصحيفة الغارديان مفاده أن المملكة المتحدة سوف تتخلى عن اعتراضها القانوني على طلب المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة. 

تزامنت هذه الخطوة مع تعيين ريتشارد هيرمر في منصب المدعي العام، وهو أحد المحامين الذين وقعوا على رسالة في مايو 2023 تدعو وزير الخارجية السابق، جيمس كليفرلي، إلى المشاركة في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول التبعات القانونية لتصرفات إسرائيل في الأراضي المحتلة وبيت المقدس في تحركات بدأت تبشر بالخير.

يذكر أنه بعد اعتراض حكومة المحافظين السابقة على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بإسرائيل، كان لامي قد أدلى أمام البرلمان بكلمة قال فيها أنه ليس من حق الحكومة البريطانية تحديد ما إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية لها اختصاص أم لا. 

قال لامي آنذاك: “لقد كان حزب العمال واضحاً طوال هذا الصراع بالتأكيد على أنه يجب احترام القانون الدولي، ويجب احترام استقلال المحاكم الدولية، ويجب أن تخضع جميع الأطراف للمساءلة، ويجب على إسرائيل الآن الامتثال للأوامر الواردة في حكم محكمة العدل الدولية بالكامل”.

هل يعد صمت ستارمر ولامي على مجزرة المواصي، ورضوخهما الواضح للضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل حول المحكمة الجنائية الدولية “واقعية” كما يدعيان؟! أنا أعتقد أن هناك كلمة أدق لوصف موقفهما وهي الجبن

السؤال هنا، ماذا عن الآن بعد أن وصل حزب العمال إلى السلطة؟ هل يحترم ستارمر ولامي المحاكم الدولية؟! لم يطل الوقت حتى خفت التفاؤل على أية حال.

أول اختبار أخلاقي

في غضون أيام، كشف محامي حقوق الإنسان، جيفري روبرتسون، الذي منح ستارمر وظيفته الأولى كمحامي، أن واشنطن كانت تمارس ضغوطاً على ستارمر للتراجع، وكتب روبرتسون أن هذه القضية ستكون “أول اختبار أخلاقي” لرئاسة ستارمر للوزراء. 

قبل أكثر من أسبوع، سافر كل من ستارمر ولامي إلى الولايات المتحدة لحضور قمة الناتو فيما وصفه البعض بأنه لقاء لتلقي التعليمات من واشنطن التي كررت موقفها بمواصلة الاعتراض على أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها اختصاص فيما يتعلق بإسرائيل.

أما رحلة لامي التالية، فقد كانت إلى إسرائيل، وهنا اندهش الكثيرون من مصافحته لنتنياهو، الذي جاء في توقيت سيء جداً، وبعد ساعات فقط من غارة جوية على منطقة المواصي في خان يونس جنوبي غزة، والتي قُتل فيها أكثر من 90 فلسطينياً!

لم يعلق لامي على المجزرة ولا بكلمة واحدة، رغم رد رئيس الوزراء ستارمر السريع على الغارة الروسية على مستشفى للأطفال في كييف في نفس الأسبوع.

بعد يوم من لقاء لامي مع نتنياهو، ذكرت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن وزير الخارجية البريطاني قد أعطى إسرائيل ضمانات بأن المملكة المتحدة سوف تواصل اعتراضها على الطلب الذي أثارته حكومة المحافظين، فيما نفت وزارة الخارجية البريطانية التوصل إلى أي قرار.

إنه الجبن وليس الواقعية!

هل يعد صمت ستارمر ولامي على مجزرة المواصي، ورضوخهما الواضح للضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل حول المحكمة الجنائية الدولية “واقعية” كما يدعيان؟! أنا أعتقد أن هناك كلمة أدق لوصف موقفهما وهي الجبن.

ليس من المستغرب أن يتبع ستارمر المسار الذي سلكته كل حكومة بريطانية في هذا الصراع، لكن المفاجئ هو أن نجده يفعل ذلك في هذه الأوقات الاستثنائية!

لم يحدث من قبل أن شنت إسرائيل حرباً على غزة استمرت 9 أشهر، ولم يحدث من قبل أن قُتل ما يصل إلى 40 ألف شخص بشكل مباشر، بل ربما 3 أضعاف هذا العدد بشكل غير مباشر، كما ذكرت مجلة لانسيت الطبية ولم يحدث من قبل أن كانت إسرائيل في قفص الاتهام أمام اثنتين من أعلى المحاكم الدولية.

إن تزويد إسرائيل بالأسلحة تحت أي ظرف من الظروف وفي أي وقت هو أمر مستنكر مشكوك به، ولكن القيام بذلك في هذه الظروف يمكن أن يصل إلى حد التواطؤ في جرائم الحرب والإبادة الجماعية.

لقد كان متوقعاً أيضاً أن يقوم لامي بإعادة التمويل البريطاني للأونروا بقيمة بلغت 35 مليون جنيه استرليني أي 45 مليون دولار، حيث أن التمويل قد تم قطعه من قبل الحكومة السابقة على استعجال دون التحقق، بعد أن زعمت إسرائيل أن أعضاء في الأونروا شاركوا في هجوم 7 أكتوبر، فلم تقدم إسرائيل أي دليل على ذلك.

لقد قامت مجموعة أصدقاء إسرائيل داخل حزب العمال بتأييد مواصلة التمويل ولكن مع تغيير ولاية الأونروا، باعتبار أن شكلها الحالي يعني العمل على عودة معظم اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل، بدلاً من إقامة دولة فلسطينية مستقبلية في الضفة الغربية وغزة المحتلين.

جاء قي نص بيان المجموعة: “على المدى المتوسط، يجب على المملكة المتحدة أن تعمل في الأمم المتحدة مع حلفائنا من أجل إنشاء إطار يعتبر الأونروا بمثابة مرحلة انتقالية، يرافق ذلك عملية حازمة تؤدي إلى نقل تفويض موارد الأونروا وخدماتها إلى إعادة تنشيط السلطة الفلسطينية وإلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”.

هذا هو جوهر ما أراد نتنياهو تحقيقه، فرغبته في التخلص من الأونروا لا علاقة لها بحماس، حيث أن الأونروا هي وكالة الأمم المتحدة الوحيدة التي تعترف باللاجئين الفلسطينيين وأحفادهم، وبالتالي إذا اختفت الأونروا، تختفي معها مشكلة اللاجئين!

هل ينبغي لبريطانيا، المسؤولة تاريخياً عن أول أزمة كبرى للاجئين الفلسطينيين عام 1948، أن تتبع إسرائيل في هذا المسار؟ 

لقد زعمت مجموعة أصدقاء إسرائيل أن التخلص من الأونروا ونقل مدارسها ومعلميها إلى السلطة الفلسطينية من شأنه أن يعزز السلطة الفلسطينية والدولة الفلسطينية المستقبلية، ولكن ذلك مثير للسخرية، ففي الوقت الذي وعد فيه ستارمر بأن حكومته سوف تكرس نفسها لإنشاء دولة فلسطينية، رفض الكنيست حل الدولتين بأغلبية ساحقة.

وما الذي يمكن أن يكون أكثر بؤساً من الاستمرار في سياسة تعلمون أنه لا يمكن أبداً أن يطبقها أي زعيم إسرائيلي؟!

حملة تشويه وشيطنة

من أكثر الأمور التي يتم إدانة حزب العمال بها هي رد فعل حزب العمال على الرفض الواضح الذي تلقاه من طرف الجالية المسلمة في بريطانيا، والتي كانت قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، أكبر كتلة تصويت له.

تجدر الإشارة إلى أنه يمكن أن يكون لأي حزب سياسي رد فعل واحد من خيارين تجاه الناخبين الذين يقررون عدم التصويت لصالحه، فيمكنه إما الاعتراف بحقهم في الاحتجاج لتسجيل عدم رضاهم عن أداء نوابهم، أو يمكنه تجاهل هؤلاء الناخبين واللجوء إلى آخرين مثل المحافظين الساخطين.

هذان هما الخياران الوحيدان إذا كان حزب العمال يؤمن بالديمقراطية، كما يزعم، ولكن ما لا يستطيع حزب العمال فعله هو السعي إلى تجريم ونزع الشرعية عن هذا التصويت الاحتجاجي بادعاء أن التصويت ضد أعضاء البرلمان الحاليين من حزب العمال كان بمثابة “حملة سامة” للتنمر على الناخبين العاديين لدفعهم لرفض نائبهم الحالي.

إذا كان هناك من يحتاج إلى درس في الديمقراطية، فهم أعضاء البرلمان من حزب العمال الذين صوتوا ضد وقف إطلاق النار الفوري والدائم

علاوة على ذلك، فإن ما لا يستطيع الحزب أن يفعله هو تعيين مجالس إسلامية وهمية تتحدث باسم مجتمع ليس له رأي في اختيارها، لأنه إذا سلك حزب العمال هذا المسار الاستبدادي، فإن الغضب والسخط في ذلك المجتمع سوف ينمو مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب.

هذا هو المسار الذي يبدو أعضاء عماليين مثل جون أشوورث وروبا حق وليزا ناندي وويس ستريتنج وجيس فيليبس وخالد محمود قد سلكوه، فيما بدا وكأنه حملة منسقة ، لأن كل هؤلاء النواب العماليين الحاليين منهم والسابقين يقولون نفس الشيء وفي نفس الوقت.

من جانبها، فقد عقدت وزيرة الداخلية، إيفيت كوبر، اجتماعاً لـ “فريق عمل للدفاع عن الديمقراطية” من أجل مناقشة مسألة الترهيب في الانتخابات، تشمل إجراء مراجعة “سريعة” للحملة الانتخابية، وقد كنت أعتبرها دائماً شخصاً محترماً ومدروساً، وليس نسخة من وزيرة الداخلية السابقة سويلا بريفرمان. 

أما أعلى أصوات الخاسرين ندباً فهو أشوورث، الذي ادعى أنه تمت الإطاحة به بسبب “كذبة” مفادها أن يديه ملطختان بالدماء لأنه صوت ضد وقف إطلاق النار في غزة، ودليله نزاع مصور واجه فيه الناشط ماجد فريمان السياسي العمالي، الذي اتهم فيما بعد بتشجيع الإرهاب ودعم منظمة محظورة، فقد ادعى أشوورث في منشور على موقع اكس أن فريمان كان “ناشطاً مناصراً لعضو البرلمان الجديد في دائرة ليستر ساوث، شوكات آدم”، ثم حذف المنشور بعد تلقيه تحذيراً من المحامين الذين ينوبون عن آدم.

درس في الديمقراطية

ما فعله أشوورث ليس مثالاً جيداً بالتأكيد على حملة رسمية لتشويه سمعة الناخبين الذين تجرأوا على عدم التصويت لحزب العمال كحكومة، فإن للناخبين، سواء كانوا مسلمين أم لا، كل الحق في التصويت بعيداً عن النواب الذين لا يمثلونهم في أي قضية يرونها حاسمة، خاصة مع وصف نواب هذه الحملة العسكرية الوحشية بأنها “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”!

إذا كان هناك من يحتاج إلى درس في الديمقراطية، فهم أعضاء البرلمان من حزب العمال الذين صوتوا ضد وقف إطلاق النار الفوري والدائم، فالناخبون المسلمون وغيرهم من المؤيدين لفلسطين لا يقومون  “بترويع” النواب، هم فقط يحاسبونهم على تصويتهم في البرلمان!

لو كان شخص مثل أشوورث يتمتع بعقل سياسي، كما يقول، فكان ينبغي له الترتيب للقاء عضو البرلمان الجديد ومحاولة التعلم منه عما يجري في غزة، كما يجب على أشوورث أن يفعل الشيء نفسه في كل مسجد في ليستر، فهذا سيكون أكثر حكمة من السعي إلى تشويه صورة الطرف الذي انتصر عليه في صندوق الاقتراع!

في مفارقة عجيبة نراها في مختلف أنحاء أوروبا، يلجأ المدافعون عن الديمقراطية الليبرالية إلى وسائل غير ليبرالية، فكل ما يفعلونه هو تأجيج نيران العنصرية المعادية للمسلمين ولا يتورعون عن التعبير عن ذلك

ليس هؤلاء النواب العماليون هم الضحايا، فالضحايا الحقيقيون هم في غزة الذين تم تمزيقهم إرباً في المناطق التي ادعى الإسرائيليون أنها آمنة، وبأسلحة تدعم بها بريطانيا إسرائيل!

يقف اليوم كل فلسطيني في غزة أطول من أي عضو في حكومة ستارمر أو أي برلمان آخر صوت مراراً وتكراراً ضد وقف دائم لإطلاق النار، فمثل فرنسا وألمانيا، تسير بريطانيا على طريق تجريم المعارضة السياسية رغم سلميتها، رغم أن هذا الرد الاستبدادي قد فشل في كل مرة تمت تجربته. 

لقد حاول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تقسيم المسلمين الفرنسيين إلى “مسلمين صالحين” و”مسلمين سيئين”، ولكنه دفع ثمناً باهظاً لهذه السياسة في الانتخابات الأخيرة.

لقد تمت تجربة هذه السياسة نفسها في النمسا أيضاً، حيث قاموا في مرحلة ما من مراحل حملتهم ضد جماعة الإخوان المسلمين، وضع لافتات على الطرق لتحذير سائقي السيارات مما أسموه المساجد الخطرة، كما تمت تجربتها في ألمانيا، حيث أصبح إعلان الدعم لإسرائيل جزءاً من قوانين الحصول على الجنسية!

في مفارقة عجيبة نراها في مختلف أنحاء أوروبا، يلجأ المدافعون عن الديمقراطية الليبرالية إلى وسائل غير ليبرالية، فكل ما يفعلونه هو تأجيج نيران العنصرية المعادية للمسلمين ولا يتورعون عن التعبير عن ذلك، فلا عجب أن يتوافد زعيم حزب الإصلاح اليميني المتطرف في المملكة المتحدة، نايجل فاراج، ورئيسة الوزراء السابقة، ليز تروس، على مؤتمر الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة حيث يتم تتويج ترامب ملكاً!

عواقب وخيمة

بات من الواضح أنه يجري الآن تشكيل تحالف دولي لليمين المتطرف، وفي هذا السياق، فلا عجب من وصف نائب ترامب، جي دي فانس، لبريطانيا بأنها “أول دولة إسلامية تمتلك أسلحة نووية”، وهو تصريح رفضته حكومة حزب العمال، لأن هذا هو حقل الألغام الذي يقودنا إليه ستارمر وكوبر، تماماً كما قاد ماكرون فرنسا إليه. 

لدى فانس وجهات نظر أخرى أيضاً حول إسرائيل، ففي مقابلة مع فوكس نيوز، أكد على أن الولايات المتحدة، في ظل ولاية ترامب الثانية، سوف تساعد إسرائيل في إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، ليس الدفع من أجل وقف إطلاق النار بل إنهاء الحرب، وأنه عندما تكتمل هذه المهمة، فسوف يتم الدفع بتحالف الدول العربية السنية وإسرائيل ضد إيران.

هذه هي أميركا التي تنتظرنا في الشرق الأوسط، وهذا سوف يكون له عواقب وخيمة، أولها، أنه من غير المرجح أن تتمكن إسرائيل من هزيمة حماس عسكرياً.

العاقبة الثانية هي أن العكس تماماً هو ما قد يحدث بين الشيعة والسنة في لبنان وسوريا والعراق، فسوف يجتمعون معاً للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، فالزعماء السنة في الدول التي يتحدث عنها فانس يدركون ذلك، ولكن فانس ما زال يشعر الآن بأنه صوت المستقبل.

من خلال تحدي جو بايدن في وقف الحرب على غزة، سوف يكون نتنياهو قد نجح في تنفيذ تكتيكاته، فكل ما يريده هو كسب الوقت حتى موعد الانتخابات، خاصة وأن معسكر بايدن منقسم، ويمكنك أن ترى  سيطرة حملة ترامب على الأجواء بعد محاولة الاغتيال التي كادت أن تصيب لولا الإرادة الإلهية.

كان الله في عون فلسطين في ولاية ترامب الثانية، وكان الله في عون بريطانيا في ظل حكومة ستارمر العمالية التي تقود بريطانيا وكأنها يد من أيدي اليمين المتطرف!

عندما كان زعيم المعارضة، كان هناك الكثير مما يمكن اتهام ستارمر به، ولكن أسوأ خطاياه كرئيس للوزراء هي فتح أبواب الجحيم السياسية، والتي بدأها باستدعاء الشرطة لقمع المعارضة المؤيدة للفلسطينيين في بريطانيا.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة