تستخدم السلطات الفرنسية قانون “الاعتذار عن الإرهاب” كسيف تسلطه على رقاب النقاد والمفكرين الداعمين للقضية الفلسطينية، في تغيير لقواعد حريات الجمهورية التي أرستها مبادئ شارل ديغول، وفيما يراه قانونيون ومفكرون دليلاً على رياح التغيير التي تهب على البلاد.
فقد أمضى فرانسوا بورغات، الخبير الفرنسي البارز في الإسلام السياسي والناشط المؤيد لفلسطين، في التاسع من تموز/يوليو، ثماني ساعات قيد الاحتجاز لدى الشرطة في مركز إيكس أون بروفانس في جنوب فرنسا.
واعتُقِل بورغات، الذي يتمتع بخبرة واسعة في مجاله، بموجب قانون “الاعتذار عن الإرهاب” التي تنطوي على اتهامه بالدفاع عن أعمال إرهابية أو تصويرها بشكل إيجابي.
ورفعت الشكوى المنظمة اليهودية الأوروبية، وهي منظمة فرنسية غير حكومية تضم نحو 60 محامياً متطوعاً يناهضون معاداة السامية ومعاداة الصهيونية.
وتم توجيه الاتهام لبورغات بإعادة نشر بيان صادر عن حركة حماس الفلسطينية على منصة X في كانون الثاني/يناير الماضي، حيث دحض البيان مزاعم ارتكاب مقاتلي حماس للعنف الجنسي ضد الإسرائيليين خلال هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، التي روحت لها صحيفة نيويورك تايمز.
وبعد ردود الفعل العنيفة التي أثارتها إعادة تغريدته، نشر بورغات، وهو مدير أبحاث سابق في المركز الوطني للبحث العلمي، أنه “يكن احتراماً وتقديراً لقادة حماس أكبر بكثير مما يكنه لقادة دولة إسرائيل”.
وبعد أيام قليلة من استجوابه من قبل الشرطة، قال بورغات، المتقاعد الآن، أن وجهة نظره بشأن الإرهاب تتوافق “مع وجهة نظر الجنرال ديغول”.
وكان شارل ديغول، رئيس فرنسا الأسبق ومرسي قواعد الجمهورية الحديثة قد أعلن في تشرين الثاني/نوفمبر 1967: “نعتبر إسرائيل في الأراضي التي استولت عليها احتلالاً من شأنه أن ينطوي حتماً على القمع والاضطهاد والطرد، ولهذا تتشكل مقاومة لهذا الاحتلال تصنفها إسرائيل بدورها على أنها إرهاب”.
وذكر بورغات أنه كان يعلم منذ فترة طويلة أنه سيقع “في مرمى نيران العديد من الجمعيات الصهيونية الفرنسية الإسرائيلية، لكنني فوجئت بأن هذا الكابوس الذي كان شيئاً من الهزل قد انقلب إلى حقيقة”.
ووفقاً لرفيق شكات، محامي بورغات فإنه يجب على الادعاء مراجعة الحقائق التي سوغت جلسة الاستماع لتقرير ما إذا كان عليه تأييد الاتهام أو إسقاطه.
وتابع شكات: “هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها التحقيق مع أستاذ جامعي بسبب إبداء رأيه السياسي حول صراع خارجي”، ووصف ذلك بأنه “هجوم على حرية البحث”.
وفي عريضة نُشرت في الثاني عشر من تموز/يوليو، عبرت مجموعة من الأكاديميين عن قلقهم إزاء احتجاز الشرطة لبورجات.
وجاء في العريضة: “حتى وقت قريب، كانت مؤسسات مثل الجمعية الوطنية، ومجلس الشيوخ، والقيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، وحتى محكمة مكافحة الإرهاب في باريس، تسعى للحصول على خبرة فرانسوا بورجات في المسائل المتعلقة بالإرهاب”.
وأضافوا: “تحويل بوغارت من خبير إلى مشتبه به يدل على الرياح السيئة التي تهب في فرنسا ضد الحقوق والحريات، وخاصة ضد حريات البحث والتعبير”.
وأعرب عالم الاجتماع هشام بن عيسى، أحد الموقعين على العريضة، عن مخاوفه من تغول هذا الاتجاه على حريات التعبير في فرنسا.
وقال: “يجب أن نكون يقظين للغاية لأن الحرية الأكاديمية تقول الكثير عن الحالة الديمقراطية للمجتمع، وقدرته على قبول التناقضات والاختلافات، حتى الأكثر تطرفاً من بينها”.
وتابع: “التاريخ علمنا أن المجتمع عندما ينتقل إلى نظام أكثر استبدادية، فإنه يهاجم بسرعة الأوساط الأكاديمية وخاصة العلوم الاجتماعية، والتي ليست علوماً مثل غيرها لأن مهمتها هي إنتاج خطابات نقدية حول المجتمع”.
تهديد الحريات
وبحسب بن عيسى، فإن التهديد للحريات الأكاديمية بدأ في الظهور قبل السابع من أكتوبر بوقت طويل، وكان مدفوعاً بـ “نظريات لا أساس لها من الصحة مثل اليقظة واليسار الإسلامي”.
وتعرضت حركة اليقظة، التي تدين التمييز ضد الأقليات، لانتقادات من اليمين واليمين المتطرف بدعوى الطائفية وعدم التسامح المزعومين.
وفي الوقت نفسه، تم استخدام مصطلح “اليسار الإسلامي” لاتهام الأيديولوجيات اليسارية بالتواطؤ مع الدوائر الإسلامية.
وفي عام 2021، صرح وزير التعليم العالي آنذاك، فريدريك فيدال، أن اليسار الإسلامي “يفسد” المجتمع ودعا إلى تحقيق وطني في الظاهرة داخل الأوساط الأكاديمية الفرنسية.
“لا يتعلق الأمر فقط بفرانسوا بورغات أو الباحثين بشكل عام، بل يتعلق بالحالة الديمقراطية للمجتمع، وبالتالي إمكانية أو عدم إمكانية تمتع كل مواطن بحرية التعبير” – هشام بن عيسى، عالم اجتماع.
وبالنسبة لبن عيسى، فإن “تلويث النقاش الجمعي بخطاب اليمين المتطرف” يمثل خطراً على حرية التعبير بشكل عام.
وأشار الأكاديميون الموقعون على عريضة دعم بورغات إلى أن القضية المرفوعة ضده هي جزء من نمط أوسع من التحقيقات التي تستهدف “عشرات الناشطين والطلاب وقادة النقابات والسياسيين”.
ووفقاً لموقع التحقيقات ميديابارت فقد تم إطلاق ما يقرب من 400 تحقيق بشأن الشكاوى المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر 2023، ولا تزال غالبية الحالات قيد المعالجة.
وكما هو الحال مع بورغات، قدمت المنظمة اليهودية الأوروبية بعض شكاوى ضد كتاب ونقاد آخرين في فرنسا مثل الفكاهي غيوم موريس وزعيمة حزب فرنسا الأبية اليساري ماتيلد بانو وعضوة حزبها المنتخبة في البرلمان الأوروبي ريما حسن، والأمين العام للكونفدرالية الفرنسية العامة للشغل جون بول ديليسكو.
وأدانت العديد من المنظمات “تجريم” التضامن مع الفلسطينيين، قائلة إنه “من غير المقبول أن يتم الخلط بين التضامن مع فلسطين ودعم الإرهاب أو معاداة السامية لتشويه سمعة النقابات والجمعيات والأحزاب السياسية المناهضة للعنصرية”.
وقال بن عيسى: “اليوم، يعرضك الإبلاغ عن المخالفات لمخاطر كبيرة، فبالكاد بتنا نجرؤ على تذكر أنه كان هناك وقت يتم فيه إظهار الدعم لفلسطين، وخاصة من قبل اليسار”.
وبعد هجمات تشرين الأول/أكتوبر وبداية عدوان الاحتلال على غزة، حظر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين المظاهرات المؤيدة لفلسطين، لكن المحكمة العليا ألغت هذا القرار بعد خمسة أيام من صدوره.
وفي الوقت نفسه، أصدر وزير العدل إريك دوبوند موريتي تعميماً يوجه فيه المدعين العامين بملاحقة “التصريحات العامة المشيدة بالهجمات التي تشنها المنظمات الفلسطينية “باعتبارها مقاومة مشروعة لإسرائيل”.
وحث الوزير المدعين العامين على ضمان “رد جنائي حازم وسريع” في مواجهة معاداة السامية و”التبرير للإرهاب”.
وبالمثل، أرسلت وزيرة التعليم العالي سيلفي ريتيلو رسالة إلى رؤساء الجامعات تأمرهم فيها بمعاقبة “الأفعال والتصريحات” التي تندرج ضمن جرائم “التبرير للإرهاب أو التحريض على الكراهية أو العنف”، ويشمل التوجيه العقوبة بالسجن لمدة تصل إلى سبع سنوات
وكانت جريمة “الدفاع عن الإرهاب”، التي تم تقديمها في فرنسا ضمن قانون الصحافة لعام 1881، مقيدة في البداية إلى أن تم إدراجها بموجب تعديل في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 في قانون العقوبات.
ومنذ ذلك الحين، تسمح المادة 421-2-5 من قانون العقوبات بفرض عقوبات تصل إلى خمس سنوات في السجن وغرامة قدرها 75000 يورو (81654 دولاراً)، مع فرض عقوبات على الجرائم عبر الإنترنت تصل إلى سبع سنوات وغرامة قدرها 100000 يورو.
وعلى الرغم من أن المادة الجديدة صُممت لمكافحة الأنشطة المتعلقة بالإرهاب مثل التجنيد عبر الإنترنت، إلا أن الممارسة كانت مختلفة تماماً، كما أوضح شكات، وقد أدانت منظمات حقوق الإنسان الزيادة في الملاحقات القضائية غير المرتبطة بالإرهاب.
ففي عام 2018 قالت هيومن رايتس ووتش: “يمكن أن يخلق هذا النهج بيئة يخشى فيها الناس التشكيك في الآراء السائدة أو تحديها، أو التعبير عن وجهات نظر غير شعبية أو حتى إطلاق النكات المثيرة للجدل”.
“هناك باستمرار قوانين جديدة بشأن الإرهاب توسع نطاق المحظورات، هذه النصوص ذات الخطوط العريضة الغامضة تقمع وتشير إلى المعارضين والباحثين والناشطين والنقابيين وما إلى ذلك باعتبارهم مجرمين”. – ناتالي تيهيو، رئيسة رابطة حقوق الإنسان
وأضافت المنظمة أن: “المفارقة تكمن في أن الحماس لهذه الملاحقات القضائية هو في جزء منه رد فعل على الهجوم على شارلي إبدو في كانون الثاني/يناير 2015، وهي المطبوعة التي أصبحت رمزاً لحرية التعبير لأنها أصرت على حقها في أن تكون غير محترمة وغير حساسة، ويبدو أن المحكمة الدستورية الفرنسية لم تنتبه إلى ذلك”.
ومنذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، شهدت فرنسا ارتفاعاً في وتيرة الملاحقات القضائية التي تستهدف الأفراد والمنظمات المؤيدة لفلسطين.
وأعرب شكات عن قلقه من أن مصير هذه القضايا “يعتمد على فهم المدعين العامين والقضاة لمصطلح “الإرهاب”، الذي لا يوجد له تعريف قانوني مستقر”.
وانتقدت ناتالي تيهيو، رئيسة رابطة حقوق الإنسان، جريمة “تمجيد الإرهاب” واعتبرتها أداة لقمع حرية التعبير واستهداف أولئك الذين يدعمون الفلسطينيين في فرنسا واعتبارهم من الجانحين.
وأشارت تيهيو أيضاً إلى أن المدعين العامين الذين يشرفون على الاحتجاز لدى الشرطة يخضعون لنفوذ وزارة العدل وقد يتلقون توجيهات لمتابعة هذه القضايا.