بقلم لينا السعافين
ترجمة وتحرير مريم الحمد
“بعد 300 يوم من التغطية المتواصلة مع صديقي ورفيقي إسماعيل الغول، رأيته بلا رأس”، هذه كانت كلمات مراسل الجزيرة أنس الشريف والألم محفور بعمق في وجهه بعد 10 أشهر من تغطية الجرائم البشعة التي ارتكبتها إسرائيل ضد شعبه بسبب الإبادة الجماعية الوحشية في غزة.
لقد تم استهداف زملائه، المراسل إسماعيل الغول ومصور الكاميرا رامي الريفي، من قبل طائرة إسرائيلية بدون طيار رغم أنهما كانا يرتديان معداتهما الصحفية ويستقلان سيارة تحمل علامة واضحة على أنها وسيلة إعلام إخبارية.
“إن الإبادة الجماعية مستمرة، وكذلك تغطيتنا، سوف نبقى على الأرض مستعدين لتقديم الأخبار ولن نتوقف مهما أرهقت أجسادنا أو أنهكت أرواحنا، فنحن مستمرون في إيصال الحقيقة” الصحفي الشهيد إسماعيل الغول
مع قتلهما، وصل عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ 7 أكتوبر إلى 165 صحفياً، بحسب الارقام التي أعلن عنها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ومع ذلك بالكاد أحدث ذلك الرقم ضجة في وسائل الإعلام العالمية، فالصحفيون الغربيون، الذين يصنع الكثير منهم حياته المهنية بتغطية قصصنا بانتهازية وعنصرية، لا يحرموننا بذلك من الحق في الرواية فحسب بل يلتزمون الصمت بشكل مثير للاشمئزاز.
لو قارنت هذا بالتغطية المسعورة التي أعقبت إطلاق سراح مراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، من أحد السجون الروسية قبل أيام، لوجدت أن الصحفيين الفلسطينيين اللذين تم قطع رأسيهما لم يحظى اغتيالهما ولا بنقطة اهتمام في وسائل الإعلام الغربية مقارنة بمراسل وول ستريت جورنال!
من ناحية أخرى، فإن ضعف التعاطف مع الصحفيين الفلسطينيين من قبل المنظمات الدولية كان أمراً مثيراً للقلق أيضاً، خاصة مع وجود بيانات ضعيفة تعبر عن “القلق” أو التكرار الذي لا نهاية له لمقولة “الصحافة ليست جريمة”، بدلاً من اتخاذ إجراءات حقيقية لحماية أولئك الذين يخاطرون بحياتهم من أجل تقديم تقارير من غزة.
يعد البيان الصادر عن لجنة حماية الصحفيين رداً على مقتل الغول والريفي مثالاً كلاسيكياً، حيث تم الإعلان فيه عن “الفزع” ودعا إسرائيل بلغة ضعيفة إلى “تفسير سبب مقتل صحفيين من قناة الجزيرة فيما يبدو أنه تكون ضربة مباشرة” على حد وصف البيان.
عنصرية وتجريد من الإنسانية
في تعليقها على مقتل الصحفيين، أشارت الصحفية ليلى العريان إلى أن الأساس المنطقي الوحيد لمطالبة إسرائيل بـ “تفسير” بشأن قتل الصحفيين الذين يقومون بعملهم هو افتراض أن الفلسطينيين مذنبون ويجب عليهم إثبات براءتهم حتى في الموت، في حين أن إسرائيل تُتهم مراراً وتكراراً بالذنب ولكن ذلك يظل موضع شك!
يشير التواطئ الصامت للصحفيين الدوليين إلى أنهم ينظرون إلى نظرائهم الفلسطينيين على أنهم كائنات أدنى منهم، أي كائنات أقل شأناً ولا تستحق الحياة، فمن خلال تجريدهم من الإنسانية، يُصبح الصحفيون الفلسطينيون غير جديرين بالثقة لتغطية الجرائم وأعمال العنف التي تمارس عليهم من قبل قوة عسكرية متعصبة تدعمها وتساعدها معظم الدول الغربية!
يقدمون لأنفسهم بأننا كفلسطينيين عاطفيون وقريبون جداً من القصة ولذلك لا يمكن أن يؤخذ منا على محمل الجد، وهو ما واجهته على الصعيد الشخصي من أحكام عنصرية من قبل العديد من المحررين الذين عملت معهم في غرف الأخبار، وقد كنت أرى كيف أن العمل وإن كان غير مدروس من قبل المراسلين البريطانيين والأمريكيين البيض كان مقياساً للمصداقية التحريرية دون أدنى شك!
لقد شك في أن إسماعيل الغول كان مثالاً للنزاهة الصحفية، فقد قام الشاب البالغ من العمر 27 عاماً بواجباته دون أن يسمح أبداً لخسارته الشخصية وتضحياته المؤلمة أن تؤثر على عمله، فقد قُتل شقيقه خالد في شهر مارس أثناء الغارة الإسرائيلية على مستشفى الشفاء، كما أنه اضطر للانفصال عن زوجته وابنته الصغيرة، اللتين نزحتا إلى جنوب غزة في أواخر العام الماضي، وزد عليه أنه فقد والده المصاب بالسرطان.
رغم كل ذلك، كانت لهجته محسوبة دائماً ولم يقدم أكثر من نظرة عتاب لجمهوره وهو ينظر إلى الكاميرا ويروي قصة تلو الأخرى من قطاع غزة المحاصر
في مارس الماضي، تم اعتقال الغول لفترة وجيزة خلال الغارة التي شنها الجيش الإسرائيلي على مستشفى الشفاء وتدميرها لاحقاً، وبعد أكثر من شهر، نشر الغول توبيخاً خفيفاً على وسائل التواصل الاجتماعي، انتقد فيه غياب الحماية والتحرك من قبل المؤسسات الإعلامية الدولية فيما يتعلق بالاعتقالات والانتهاكات التي تعرض لها الصحفيون خلال المداهمة.
كتب الغول: “لم تتواصل معي أي مؤسسة معنية بحماية الصحفيين، محلياً أو دولياً لتوثيق ظروف الاعتقال ومن تم اعتقاله، فهل هذه هي قيمة الصحفي؟ هل أصبحنا مجرد أرقام في سجلات هذه المؤسسات؟ وهل أصبحت أسماء وهمية ليس لها أي مضمون حقيقي لحمايتنا؟”.
التزام لا يتزعزع نحو نقل الحقيقة
الصحفيون في قطاع غزة أبطال، فهم يتحملون الجحيم من أجل القيام بعملهم، كما أنهم أظهروا التزاماً لا يتزعزع بمهنة أدارت ظهرها لهم، رغم الجوع وانهيار نظام الرعاية الصحية ونقص الكهرباء.
تحت تهديد إسرائيل بقتل أفراد عائلاتهم، يتفادى الصحفيون الفلسطينيون الصواريخ والرصاص التي توفرها الولايات المتحدة، فخوذاتهم الصحفية وستراتهم الواقية من الرصاص تشكل بذاتها أهدافاً لآلة القتل الإسرائيلية، فعلى حد وصف مراسل آخر للجزيرة في غزة، هاني محمود: “السترات التي نرتديها لا تحمينا”.
يأخذ الصحفيون الفلسطينيون عملهم على محمل الجد، ففي هذا العالم الظالم، يقولون الحقيقة مقابل السلطة المتحكمة في حرب الروايات التي تعتبرهم غير مستحقين للحياة، وهذا ما أوضحته الصحفية نسرين مالك حين كتبت في صحيفة الغارديان مؤخراً عن “السياسة الميتة”، التي صاغها المؤرخ أشيل مبيمبي، والتي تشير إلى تحكم السلطة فيمن يستحق الموت أو الحياة، مما يؤدي إلى خلق “عوالم الموت”، حيث يتعرض عدد كبير من السكان لظروف معيشية تجعلهم فعلياً أمواتاً أحياء.
تخيلوا أن هؤلاء الأموات الأحياء هم الذين يتم تحويلهم إلى برابرة، بينما تدعو الإسرائيليين بـ “أبناء النور”
إن قول الحقيقة في وجه السلطة هو أساس الصحافة، وهو أمر يبدو أن العديد من محترفيها قد نسوه أو تجاهلوه عمداً مقابل تحقيق أهداف مهنية، فبينما كان أزيز الطائرات الإسرائيلية يملأ السماء، وصف شقيق إسماعيل، جهاد الغول، أخاه الشهيد في مقابلة تلفزيونية قال فيها: “كان ناقلاً للحقيقة وبطلاً صامداً في شمال غزة حتى استشهاده”، وعندما سئل عن رسالته للعالم، تساءل ساخراً: “أي عالم؟ من الذي سوف يتأثر بالمجازر المستمرة؟ لقد كان إسماعيل مدنياً يرتدي سترة صحفية في سيارة إعلامية يعرف الجميع أنها تابعة للجزيرة ومع ذلك تم استهدافه، فعن أي عالم تتحدث؟”.
إن القتل المستمر للصحفيين الفلسطينيين لن يردع أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة، فهم يفهمون عدوهم جيداً، ورغم الصعاب، إلا أنهم قد نشأوا على اعتبار أنفسهم يستحقون الحياة رغم النقد اللاذع المستمر ضدهم، فقتل الغول والريفي ليس إلا الأحدث في قائمة طويلة من الصحفيين الذين قُتلوا لمجرد نقلهم الحقائق المؤلمة عن الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية.
بعد دفن رفيقيه، قال أنس الشريف: “لن نتوقف لحظة واحدة عن نقل معاناة شعبنا وجرائم الاحتلال الإسرائيلي، سوف نواصل تغطيتنا رغم استهدافنا والهجمات الصاروخية المستمرة وغياب الحماية الدولية”.
في أحد منشوراته الأخيرة على موقع اكس، كتب الغول: “إن الإبادة الجماعية مستمرة، وكذلك تغطيتنا، سوف نبقى على الأرض مستعدين لتقديم الأخبار ولن نتوقف مهما أرهقت أجسادنا أو أنهكت أرواحنا، فنحن مستمرون في إيصال الحقيقة”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)