بقلم ضحى عبد الجواد
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في كتابه “مصر تحت حكم السيسي: أمة على حافة الهاوية”، يروي ماجد مندور تفاصيل التغيرات البنيوية الاقتصادية والقانونية والسياسية التي حدثت منذ تولى السيسي السلطة بعد انقلاب 2013 ويدرس طبيعة النظام العسكري ويقدم حجتين رئيسيتين.
تعارض حجة مندور الأولى الافتراض العلمي القائل بأن انتفاضة 2011 خلقت واقعاً ثورياً دون نتائج ثورية، حيث يزعم مندور أن الثورة أسفرت بالفعل عن نتيجة ثورية، وإن لم تكن هي النتيجة المتوخاة، فقد أدت إلى تكثيف غير مسبوق لعسكرة الدولة، وهو ما يمثل انحرافاً كبيراً عن الإرث العسكري لجمال عبد الناصر.
أما الحجة الثانية فتشير إلى أنه على الرغم من ترسيخ نظام السيسي لأقدامه في الحكم، إلا أنه يبقى عرضة للتغيير بسبب الضغوط الاقتصادية لا السياسية.
واستناداً إلى تصنيف صمويل فينر (2002) للأنظمة العسكرية، يصنف مندور حكم السيسي باعتباره نظاماً عسكرياً مباشراً، على عكس الأنظمة المزدوجة/غير المباشرة لأنور السادات وحسني مبارك، حيث تستكشف الفصول الأربعة الأولى الخصائص المميزة لنظام السيسي العسكري.
يتتبع الفصل الأول التطور السياسي للدولة ومكانة المؤسسة العسكرية حتى مذبحة رابعة عام 2013، مع التركيز على خطابها الأيديولوجي للهيمنة، فيما يناقش الفصل الثاني عسكرة فروع الدولة المختلفة، أما الفصل الثالث فيتناول استخدام العنف للقمع العام، بينما يدرس الفصل الرابع عسكرة المجال الاقتصادي وصعود الرأسمالية العسكرية العدوانية.
ويسلط مندور في كل فصل الضوء على كيفية تكثيف نظام السيسي قبضته العسكرية على المجالين العام والاقتصادي مقارنة بسابقيه منذ عام 1952، وفي الفصل الأخير، يستكشف آفاق النظام الحالي في المستقبل وإمكانية التحول الديمقراطي.
تأملات
تكمن المساهمة النظرية الرئيسية للكتاب في تطبيقه لتصنيف فاينر في جميع الفصول، حيث يعتبر فحص مندور للأسس الأيديولوجية لنظام السيسي والأدوات القانونية والاقتصادية للعسكرة متعة للقراء المهتمين بالسياسة المصرية الحديثة. غير أن التحليل النظري للكتاب هو الذي يفشل فيه.
ففي حين أن تفسير المؤلف لسبب ملاءمة نظام السيسي لفئة الحكم العسكري المباشر التي وضعها فاينر جيد الحجة، فإن استخدامه لمفهوم أنطونيو غرامشي للثورة السلبية كركيزة نظرية ثانية لم يتم استكشافه بشكل كافٍ وغامض إلى حد ما.
ويعترف مندور بأن العناصر الرئيسية لتعريف غرامشي لا تناسب النظام المصري الحالي، مثل الاعتماد على نخبة غير حاكمة للقيادة ووجود مجتمع غير مهيمن، مما يثير تساؤلات حول مدى ملاءمة مفهوم غرامشي للمناقشة.
وعلى الرغم من إدراك هذا القيد، يخلص مندور إلى أن الانقلاب جلب تغييرات جذرية يقودها النخبة دون مشاركة شعبية وهي النقطة التي يمكن دعمها بشكل أفضل من خلال الأدبيات الموجودة حول الاستبداد والحكم العسكري في الشرق الأوسط، بدلاً من مفهوم الثورة السلبية.
وفي بعض مواضعه، يشير الكتاب إلى أعمال علمية رئيسية أخرى، مثل تعريف غرامشي للدولة وكتاب تيموثي ميتشل “حكم الخبراء” حول طبيعة الرأسمالية، غير أن هذه الأفكار تظل محدودة ولا تزال غير مستكشفة تقريباً، كما يمكن نسب غياب المناقشات النظرية الموسعة إلى طبيعة الكتاب الصحفية ودافعه إلى مخاطبة القراء غير المتخصصين.
ويظهر القسم التأملي الأكثر أهمية في الكتاب في الفصل الأخير، حيث يحدد مندور ثلاثة سيناريوهات محتملة لنظام السيسي، ويتجاوز هذا القسم السرد الوصفي المجرد لسياسات الدولة إلى خوض تأملات تحليلية حول آفاق التحول الديمقراطي في مصر.
ويأتي هنا دور حجة مندور فيما يتصل بضعف النظام بسبب رأسماليته العسكرية، وهو المفهوم الذي يصف بذكاء سيطرة المؤسسة العسكرية النيوليبرالية على الاقتصاد.
يتناول هذا الفصل أربعة أسئلة محورية هي كيف سيتغير النظام؟ وهل سينهار في موجة من إراقة الدماء الجماعية، على غرار سيناريو ليبيا؟ وهل سيتحلل تدريجياً حتى لا يعود قادراً على الصمود أمام الضغوط الشعبية ثم ينهار؟ أم أنه سيصلح نفسه، ويتطور إلى نظام حكم مزدوج عسكري مدني، مما قد يحقق الاستقرار على المدى الطويل؟
يفترض مندور أن الإصلاح الذي تقوده النخبة غير مرجح بسبب العسكرة العميقة للدولة تحت حكم السيسي، والتي أسفرت عن حقائق سياسية واقتصادية غير قابلة للتغيير، كما أن المصلحة الراسخة للمؤسسة العسكرية في الحفاظ على الوضع الراهن وغياب المعارضة المنظمة عززت هذا النظام كواقع سياسي يمكن أن يستمر بعد حكم السيسي.
وبناء على ذلك، يحدد مندور سيناريوهين محتملين فقط للتغيير هما صدمة خارجية، مثل حرب إقليمية أو التدهور الداخلي، الذي قد يكون ناجماً عن ضغوط خارجية مماثلة لانتفاضة 2011.
سيناريوهان
وعلى الرغم من أن تحليل مندور مقنع، إلا أنه يهمل العديد من القضايا الحرجة، فالسيناريوهان المقترحان، ورغم اختلافهما، إلا أنهما مترابطان من حيث التهديد الخارجي القائم للنظام، مما يؤدي إلى الإصلاح من أعلى إلى أسفل، وفي كلا السيناريوهين، يتجاهل تحليله تأثير الترتيبات الأمنية الإقليمية التي قامت بعد الربيع العربي.
كما أنه لا يدرس بشكل كاف الأدوات الإقليمية العابرة للحدود الوطنية للمراقبة والقمع التي ظهرت بعد عام 2011 بين الدول العربية، والمصممة لدعم الاستبداد وقمع الإسلام السياسي، والتحليل لا يتناول تضاؤل فعالية الاحتجاج كآلية للتغيير في العالم العربي، مما يجعل انتفاضة أخرى تبدو بعيدة المنال.
وعلاوة على ذلك، فإن التحديات التي تواجه الإصلاح الذي تقوده النخبة لا تأخذ في الاعتبار بالكامل احتمالات الفصائلية النخبوية، وهو السيناريو المحتمل حتى في أكثر الأنظمة قمعاً، أو عودة الإسلاميين كقوة سياسية منظمة محتملة وهي عودة لا تتعلق فقط بجماعة الإخوان المسلمين، بل وأيضاً بمجموعة واسعة من الجماعات السلفية، بل وحتى العودة السطحية للإسلاميين قد تكفي لتقديم قوة موازنة.
وقد يكون الإصلاح الذي تقوده النخبة ممكناً من خلال أفراد عسكريين حريصين على إنشاء واجهة مدنية وتحييد الشخصيات العسكرية المنافسة من خلال تسهيل العودة الزخرفية للإسلاميين، ومن المؤسف أن هذا الجزء من الكتاب يقف بمفرده دون شرح كاف من الأدبيات الأوسع نطاقاً حول الاستبداد والعلاقات المدنية العسكرية.
وتعرض منهجية الكتاب عيباً آخر، ففي حين يعتمد على مجموعة غنية من وسائل الإعلام والمصادر الأولية، فإن المؤلف لا يتطرق إلى أسلوبه في تحليل البيانات ولا إلى معايير إدراج واستبعاد هذه المصادر في مقدمة الكتاب، وهذا الإغفال يؤثر بشكل كبير على صرامة الكتاب العلمية.
ورغم ذلك، يقدم كتاب مندور صورة تفصيلية لتشريح النظام العسكري للسيسي، ويشكل أساساً لاستكشافات نظرية مستقبلية في التحولات الديمقراطية وإمكانيات الإصلاح في مصر.
وبكل الأحوال، فإن الكتاب يعتبر نصاً أساسياً للباحثين في الشرق الأوسط الذين يسعون إلى دراسات حالة غنية حول العلاقات العسكرية المدنية.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)