بقلم أحمد ضياء
شاهدت، مثل غيري، فيلم «فرحة» عبر منصة «نتفليكس» بعد أن صادفتني منشورات على «فايسبوك» تستغيث بالناس أن يشاهدوا الفيلم لأن الصهاينة يحاولون منعه ولأن هناك حملات منظمة على الشبكات المختلفة للحط من تقييمه. ولكني مع الدقائق الأولى للفيلم أدركت أني وقعت في فخ استجداء تجاري.
كان أحد المسرحيين في لبنان كلما أنتج هو أو أحد أصدقائه مسرحية أمطر كل معارفه بوابل من الرسائل يقول فيها إن الرقابة تريد أن تمنع مسرحيته وأننا يجب أن نملأ قاعة المسرح عن آخرها لكي نردع الرقيب عن منع المسرحية، ثم نجد أنفسنا أمام مسرحية عادية. في عصر منصات البث عبر الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ هذا الأسلوب الدعائي-الاستجدائي بعداً جديداً.
لا شك طبعاً في أن مثل هذه الحملات الصهيونية موجودة بالفعل وأنها تستهدف كل ما يتعلق من قريب أو من بعيد بالقضية الفلسطينية. فالحملات الدعائية الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية المعروفة بالـ«حسبرة» (التبرير) تسير بتنسيق وتمويل مشترك من حكومة الكيان الصهيوني ومنظماته «الأهلية». وقد احتج سياسيون إسرائيليون بالفعل على الفيلم وطالبوا بمنعه (كما هو متوقع طبعاً)، وثمّة تقارير بالفعل عن حملات للحط من تقييمه على موقع «آي دي بي» للأفلام. ولا مشكلة في أن نسعى لرفع مشاهدات الفيلم لكيلا تلغيه «الحسبرة» أو نكاية في السياسيين الإسرائيليين الذين لم يرق لهم. إلا أن المشكلة هنا هي أن الفيلم اختار أن يدخل إلى مشاهديه العرب من باب الاستجداء لا من باب جودته الفنية، وإذا كانت الدعاية بذلك تطلب منا أن نشاهد الفيلم بسبب محتواه السياسي أو لِهَمٍّ تضامني أو نضالي يجعلنا حريصين على حمايته من الحملات المعادية، فإن من حقنا في المقابل أن نرى المحتوى السياسي للفيلم لا يرقى إلى ما يستجدينا باسمه.
الاستجداء في موضع الفن
هذا الاستجداء يمتد إلى طبيعة الفيلم نفسه الذي يقدّم محتوى يستدر الشفقة من مشاهده (الأجنبي بالذات هذه المرة). فثلثا الفيلم توسل للشفقة والثلث الأخير هو الذي نرى فيه بعض الفعالية السياسية؛ وتقسيمي هنا للفيلم إلى ثلاثة أثلاث لا يعتمد على الفترة الزمنية لكل قسم، ولكن على كون كل منهم وحدة منفصلة للحكاية (كما يفعل بعض النقاد السينمائيين حين يقسمون كل فيلم أو حكاية إلى ثلاثة فصول).
يدخل الفيلم لمشاهديه من باب الاستعطاف الليبرالي الذي يعجب «نتفليكس» والجمهور الأميركي من خلال حكاية فتاة «قوية ومستقلة» من إحدى القرى تتحدى بشكل مسرحي الشيخ الذي يحفظها القرآن (لم يكلفوا نفسهم البحث عن ممثل يجيد نطق حرف الظاء ليلعب دور المُحفظ) ثم تتحدى أباها ليرسلها إلى المدينة لتدرس في المدرسة فيتردد الأب ثم يقرر، بعد أن يقنعه خالها الأكثر مدنيّة وتحضراً، بأن يرسلها، ولكن الاحتلال يباغته.
هذه التفاصيل قد تكون في حد ذاتها قابلةً للتصديق إذ إن ظروف التطور في المجتمعات الريفية (العربية وغير العربية) أضعفت التعليم التقليدي بينما حصرت التعليم «الحديث» على المدن، ثم إن ظروف الاحتلال الإنكليزي والاختلال الاقتصادي الذي خلقته حركة الاستيطان اليهودي قد جعلتا المدارس نادرة في الريف، مما أثر بشكل أكبر على تعليم البنات (يلخّص غسان كنفاني هذه التفاصيل في دراسته المهمة عن ثورة 1936-1939). إلا أن الفيلم لم يسمح باستكشاف أي من هذه السياقات خاصة مع التركيز على الرواية الفردية (وهو أيضاً شيء تحبّه «نتفليكس» وتشجعه الذائقة الأميركية) مما أدى إلى غياب السياق الجماعي فكان ذلك من أكبر عيوب البنية الروائية لهذا الفيلم.
الاستشراق الاستجدائي
هذه التفاصيل قابلة للتصديق، ومألوفة، ولكن المشكلة هي أنها أصبحت مألوفة ومتوقعة ومكررة ونمطية. اختيار المفردات الروائية والبصرية، مع غياب الرؤية السياسية والنقدية للمخرجة، جعل الفيلم حبيس الاستشراق؛ من مفردة البنت القروية ذات التطلعات المكبوتة إلى زواج زميلتها ومشاهد العرس والحناء بشكل فولكلوري (قد يكون جميلاً لكنه أصبح المفردة المكررة في كل فيلم عن النكبة يريد أن يكون فيلم مهرجانات) إلى حبس البنت في غرفة مغلقة في بيتها (خاصة وقد أعطاها أبوها قبل أن يغلق عليها الباب خنجراً، ولا نعلم إن كان أعطاها إياه لتدافع به عن نفسها إن وصل إليها الصهاينة أم لتقتل نفسها إن فعلوا؛ غير أن سلسلة المفردات الاستشراقية تجعلنا نظن أنه أعطاها الخنجر لهذا السبب الأخير في إيماءة إلى ما يعرف بـ (“قتل الشرف”).
هذه التفاصيل تكرس الوضع الفوقي والأبوي للمشاهد الذي يرى أحداث 1948 من باب الشفقة؛ شفقة المشاهد البالغ على البنت الصغيرة، شفقة المشاهد الحداثي المتعلم على البنت التي تحلم بالتعلم وعلى المجتمع القروي المتأخر، ثم بالتأكيد شفقة المشاهد الغربي على النساء في المجتمعات العربية (وبينما هذا الموقف ذكوري بامتياز إذ يضع المشاهد، ذكراً أو أنثى، في موقع أبوي مقابل البنت المستضعفة، فإن النسوية الليبرالية تحب هذه المواقف وتتبناها). ثم ينتهي الثلث الأوّل بإخفاء/حبس الأب لبنته في مخزن الغذاء لتدور أحداث الثلث الثاني حول البنت الحبيسة فيستمر في الثلث الثاني استدرار التعاطف بشكل يضع المشاهد/المتعاطف في موقف فوقي إزاء البنت الفلسطينية. ثمة صنف من الأفلام الأميركية عن «النساء الحبيسات»، يداعب الشهوة السادية للمشاهد الذكر الذي يريد أن يرى المرأة تقيد وتعاني وفي الوقت نفسه يضفي على هذه الشهوة الذكورية مسحة من التعاطف النسوي؛ ومن المؤسف أن الثلث الثاني من هذا الفيلم يفعل شيئاً شبيها وإن كان يضيف كذلك مسحة من الادعاء النضالي ومن التعاطف (السطحي والليبرالي) مع المعاناة الفلسطينية.
صحيح أن الفيلم يقول إن الاحتلال (أو النكبة التي يظل فاعلها مُجَهَّلاً في الثلثين الأولين) هو الذي أعاق ذهاب البنت إلى المدرسة وهو الذي أدى إلى حبسها في غرفة الخزين، ولكنه لم يستطع أن يقول هذه الحكاية إلا بالمفردات الاستشراقية المجترة للبنت المكبوتة ثم البنت الأسيرة في بيت أبيها. إذا كان الاستشراق لا يستطيع أن يتخيل مجتمعاتنا خارج إطار هذه المفردات النمطية، فإن عجز مخرجة الفيلم عن تقديم حكايتها من دون الغرق في هذه المفردات يشي بقصور في الأدوات الفنية والقدرة الإبداعية.
تكريس الذاتية
قد تكون المخرجة قد استخدمت هذه التفاصيل المكررة لتقدّم قصة مغايرة بعض الشيء نرى فيها المجتمع الفلسطيني قابلاً للتطور: فالأب الذي يمثّل المجتمع التقليدي، والذي تصادف كذلك أنه مختار القرية، يقبل على مضض أن تذهب بنته للدراسة في المدينة، ولكن الاحتلال هو الذي يعيق هذا التطور. إلا أن الاحتلال يبقى مُجَهَّلاً في هذا الجزء ويبقى الإطار السياسي غائباً عن الحكاية.
فبالإضافة إلى إشكالية الاستشراق نرى إشكالية الفردانية؛ أحد عناصر القوة في الفيلم هي أيضاً عنصر ضعفه: إذ برعت المخرجة في سبك حكاية من منظور الفتاة (لا راوي في الفيلم ولكن السرد الفني يجعلنا نكاد نسمع الحكاية بضمير المتكلم) وأحسنت توظيف غرفة الخزين التي حبست فيها البنت لنرى فيها التحدي الشخصي الذي يواجه البنت ثم لنرى من خلالها شيئاً من أحداث النكبة، وهنا تكمن مشكلة أخرى تتعلق بكبت الليبرالية الاستعمارية للسرديات الجماعية، من أجل تكريس الذاتية وفرض سرديات الخلاص الذاتي بشكل يقطع الطريق على أي نضال جماعي. وفي نهاية الفيلم نرى البنت تسير وحدها ثم تنبؤنا الكتابة في التيتر بأنها وصلت إلى سوريا: أي تسير في طريق الخلاص الذاتي وحدها كما تريد النسوية الليبرالية للنساء.
قد تكون هذه الروايات الفردية نافعة في السوق الأجنبية؛ لا أقول ذلك فقط لأنها أجدر بالحصول على التمويل، ولكن لأنها أيضاً أنجح في الوصول إلى المشاهد الأجنبي وفي استدرار عطفه، ولكنها تبقى حبيسة في إطار العطف ولا تنتج أي سردية نضالية أو تضامنية حقيقية. أمّا بالنسبة للمشاهد العربي، وإن كان من المفيد أن نجعل العالم يشعر بألمنا، فإن هذه الرواية الفردية من شأنها اجترار الألم والإحساس بالخيبة وقلة الحيلة وتغييب أفق العمل الجماعي للخروج من النكبة المستمرة. هذا الفيلم على أحسن الظروف يترك شيئاً ناقصاً ينبغي لنا نحن المشاهدين (العرب بالذات) أن نكمله: سواء بتذكير أنفسنا أن ثمة رواية جماعية ينبغي أن تتمم بالنضال هذه المعاناة الفردية، أو بتذكير العالم أن هذه الرواية الفردية هي بشكل ما ومع اختلاف التفاصيل حكاية كل الذين عاشوا النكبة.
بالإضافة إلى إشكالية الاستشراق نرى إشكالية الفردانية؛ أحد عناصر القوة في الفيلم هي أيضاً عنصر ضعفه
تجهيل الاحتلال
ثمة مفارقة تظهر في معظم مشاهد الفيلم: بينما يؤدي الإغراق في الاستشراق إلى تغليب صور نمطية ترتبط تحديداً بمجتمعاتنا العربية، فإن تغييب الرواية الجماعية يجعل أحداث الفيلم، على الأقل حتى الثلث الأخير، يجعلها صالحة أن تكون عن «معاناة النساء في الحرب» بشكل عام ولا ترتبط بالضرورة بحدث محوري هو النكبة ولا بفاعل معلوم هو الصهيونية (ويكاد يجعل الحرب والرجال، لا الاستعمار والصهيونية، هم المسؤولين عن هذه المعاناة).
في الثلثين الأولين يغيب البعد السياسي بشكل كبير عن الفيلم ويُجهل الإسرائيلي تماماً: نرى الدوريات البريطانية، ونرى الفدائيين الذين يتجمعون في بيت المختار ويدعونه إلى المقاومة ويغلظون له بالقول ويتوعدونه بمصير أليم إن لم يحمل السلاح معهم، ونسمع المختار وهو يتحدث عن جيش الإنقاذ العربي الذي سيخلصهم مما هم فيه، ولكننا لا نسمع كلمة واحدة عن المستوطنين أو الإسرائيليين أو الهاغاناه أو «اليهود». وحتى عندما يبدأ اجتياح القرية يظل الإسرائيلي غائباً (عدا عن بعض الصراخ بالعبرية الذي يضيع وسط ضوضاء المعركة)؛ هذا التغييب للإسرائيلي يجعل الحوار مفتعلاً ومصطنعاً في بعض الأحيان فحين يبدأ غزو القرية يقول مختارها إن “العسكر فاتوا عالبلد”!
ليس اعتراضي هنا من باب الرغبة في تأطير الصراع وتأصيله فحسب ولا من باب اجترار الشعارات السياسية وتأكيد ما هو معلوم، ولكن لسبب آخر أكثر عملية؛ إذا كان الفيلم (وهذا هو ظننا فيه) يتجه بالأساس للمشاهد الغربي ويستدر تعاطفه، فلا بد هنا من تسمية الفاعل: المشاهد الغربي العادي ما زال يتشكك في ما إذا كانت النكبة قد حدثت بالأساس وما زال يصدق في بعض الأحيان الادعاء الصهيوني بأن اللاجئين الفلسطينيين غادروا مدنهم وقراهم لأن جيش الإنقاذ العربي أمرهم بذلك، طوال ثلثي الفيلم لا يدري المشاهد (إلا الذي يدري مسبقاً) من هم هؤلاء الذين يطاردون أهل القرية وهل هم الفدائيون الذين رأيناهم يتوعدون المختار أم البريطانيون الذين رأينا دورياتهم أم الجيوش العربية التي سمعنا بمجيئها.
محدودية الرؤية والفعل
ثم يتغير ذلك بمشهد هو الأهم، فنياً وفي إطار السرد وسياسياً، في هذا الفيلم إذ ترى البنت من وراء الجدار أسرة تلوذ ببيتها، فتستغيث بهم ليفتحوا لها؛ فَيَهمّ أحدهم بفتح الباب ثم يباغته الإسرائيليون فيستجوبونه ثم يعدمون الأسرة عن آخرها (ولا يبقى إلا طفل رضيع تعهد الدورية الإسرائيلية إلى أحد جنودها بقتله ليعجز عن ذلك فيتركه ليموت موتاً بطيئاً). وبعد أن نرى أخيراً السياق السياسي والتاريخي بشكل واضح (لا لبس فيه هذه المرة إذ نرى جريمة الإسرائيليين ونسمعهم يتحدثون إلى بعضهم بالعبرية) تجد البنت القدرة على الفعل إذ تعثر على مسدس أخبأه أبوها وسط مخزون العدس ثم تطلق النار على الباب حتى تكسره ثم تسير إلى سوريا.
بينما يعطينا هذا الثلث لمحة عن الإطار السياسي الذي كان قبل ذلك غائباً، ونظرة سريعة على الإجرام الإسرائيلي أثناء النكبة، وشيئاً من الفاعلية السياسية من خلال البنت التي ترى الأحداث ثم تستجمع القدرة على الفعل، فإن هذا الثلث لم يمر كذلك من دون إشكاليات أضعفت مضمونه. اعترض الكثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي على إصرار المخرجة في هذا المشهد أن تؤنسن الإسرائيلي الذي يعجز عن قتل الطفل الفلسطيني (وإن كان يتركه إلى مصير لا يقل بشاعة إذ تخرج فرحة فترى الطفل جثة يغطيها الذباب): طبعاً هذا الاعتراض مهم بالذات وهذا هو المشهد الوحيد الذي يظهر فيه الإجرام الإسرائيلي. ولكن الأسوأ في هذا المشهد، والذي قضى على أي احتمالية تقدمية للفيلم، هو أن «رأس الخيش» الذي يدل الإسرائيليين (والذي يستجدي الفيلم تعاطفاً معه هو الآخر) يتضح أنه خال فرحة الذي كان يشجع أباها أن يرسلها إلى المدرسة. وبهذه التفصيلة الصغيرة أفسدت المخرجة ما كان يمكن أن يستنبط عن كون المجتمع الفلسطيني في طور التطور قبل أن تقطع عليه الصهيونية الطريق، فعامل التطور يظهر في النهاية عميلاً صهيونياً.
المصيدة الهوليوودية
قد يكون في ترتيب أحداث الفيلم بهذا الشكل وتغييب العنصر السياسي ثم إظهاره في الثلث الأخير شيء من الذكاء ما دام الفيلم يستهدف المشاهد الغربي تحديداً ويعد له مصيدة من التعاطف الإنساني المبهم، الذي لا يختلط في البداية بالقضايا السياسية التي قد تنفر هذا المشاهد، حتى إذا تعاطف إنسانياً وجد نفسه أمام حقيقة الجرائم الإسرائيلية (وفي هذا الإطار فحتى مشهد الجندي الإسرائيلي الذي لا يستطيع قتل الرضيع يصبح مبرراً ليس فقط لأنه يرسم صورة معقدة للمشهد أو يخفف الصدمة على المتلقي الغربي ولكن أيضاً لأنه يظهر أن الصهيونية إذ تقتل الفلسطيني تقتل كذلك إنسانية اليهودي). لكن الفيلم عندما لم يقدّم أي سياق اجتماعي أو سياسي للقضية، فإنه ترك كذلك للصهاينة ثغرة ينفذون منها. فإن هذا المشهد يأتي وحيداً وفجأة ومن دون سياق فلا يفهم المشاهد (إلا إن كان يعرف من قبل) لماذا يتصرف هؤلاء بهذه الطريقة، فيفتح الباب للصهاينة للادعاء بأن هذا مشهد مبالغ ليظهر اليهود مجرمين أو ليدعوا أن هذا المشهد هو من قبيل «وصمة الدم» التي كان الأوروبيون المعادون للسامية يشوهون بها اليهود، وتصبح المسألة عما إذا كانت هذه الواقعة تحديداً صحيحة أم لا. بينما لو كان الفيلم قد أعطى سياقاً لظهر أن مثل هذه الجرائم حدثت ضمن جريمة أكبر هي النكبة وأن الصهاينة فعلوا ذلك من أجل إنشاء دولتهم على أرض مغتصبة (فيصبح الجرم السياسي واضحاً ولا يترك المجال للصهاينة للتشويش بدعوى أننا نريد إظهار اليهود محبين للدم) ولبات واضحاً أنه بغض النظر عما إذا كانت هذه الواقعة بعينها صحيحة أم خيالية فإن هذه الجرائم مورست على نطاق واسع من أجل قيام دولة إسرائيل.
رواية الألم
لا يعني هذا أن تقييمي للفيلم سلبي حصراً؛ فالفيلم، بالرغم من سلبياته على مستوى السرد وبالرغم من رداءة التمثيل، لا يخلو من مكونات جمالية. توزيع الألوان في كل المشاهد بديع، وكذلك توظيف المخرجة والمصورين لغرفة الخزين وللحبس إطاراً للسرد والرؤية، وقد استطاعت ببراعة أن تشعرنا مع بطلة الفيلم بالاختناق والحبس، وأن تجعلنا نرى معها نزراً من أحداث النكبة من كوة في الجدار أو شق في الباب.
وعلى مستوى الحكاية، تقول المخرجة إنها تنقل هذه الحكاية عن أمها عن جارة لأمها في سوريا وإن فيلمها هو محاولة للتعامل مع ألم هذه الحكاية. هذا التعامل مع الألم في حد ذاته مهم (وقد يفسر، وإن كان لا يبرر، غياب الوعي السياسي عن الحكاية). من المهم أن يفرض الفلسطينيون سرديتهم وروايتهم على النكبة وآلامها الجماعية والشخصية، ثم على مستوى تقديم هذه الرواية للعالم. ومن المهم أن تظل النكبة مطروحة، ومن المفيد وجود أعمال فنية تعيد رواية هذا الألم على منصات عالمية مثل «نتفليكس»؛ وحتى على المستوى السياسي البحت قد تصبح مثل هذه الأفلام دافعاً للمشاهدين للبحث أكثر في تاريخ القضية، وبينما يتوسل الفيلم الشفقة والتعاطف من مشاهديه، فإن من بينهم، بلا شك وبغض النظر عن ندرة هذا الأمر، من سينتقل من التعاطف إلى التضامن. هذه هي المهمة الناقصة التي يعجز الفيلم عن أدائها، ولكنه يتركها لنا لنكملها.