بقلم عمر سليمان
ترجمة وتحرير مريم الحمد
من الطبيعي أن تظل الولايات المتحدة قوة مهيمنة على المستوى الدولي في ظل ميزانيتها الدفاعية التي تتجاوز ميزانية الدول العشر التالية لها مجتمعة، ولكنها ليست إمبراطورية الخير كما سوقت لنفسها لعقود.
لقد وصل التدهور الروحي للولايات المتحدة، والذي بدأ منذ عقود مع حرب 11 سبتمبر وما بعدها، خاصة مع استمرارها في تمويل وتصنيع أسلحة الإبادة الجماعية، إلى الحضيض.
في إحدى محاضراتي مؤخراً، اقترب مني رجل وسألني: “ما الذي يجعل غزة مختلفة؟”، وكان يشير بذلك إلى الاهتمام الدولي المتزامن والتقاعس عن همجية الاحتلال في غزة.
يتخلص الأمر بعدة نقاط، فهناك مضامين دينية يقدس من خلالها المسلمون فلسطين كما يفعل اليهود والمسيحيون، كما أن هناك آثاراً تاريخية، بما فيها التاريخ الطويل لأكثر من 7 عقود من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والبناء المستمر للمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية، فضلاً عن استمرار الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان.
“إنهم يستخدمون وسائل غير ليبرالية للغاية لحماية ليبراليتهم ويستخدمونها ضد المسلمين، فهم لن يجرؤوا على استخدامها ضد اليهود أو المعابد اليهودية” – ديفيد هيرست- صحفي بريطاني
الفارق الأكبر في النظر إلى فلسطين من وجهة نظري هو أن كل تفاصيل هذه الإبادة الجماعية يتم بثها على الهواء مباشرة، على حد تعبير مستشار فريق جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، بلين ني غرالاي، حين قالت “إنها أول إبادة جماعية في التاريخ يبث ضحاياها الدمار الذي حدث لهم في نفس الوقت”.
يتم بث الإبادة على هاتفك وشاشة الكمبيوتر ووسائط التواصل الاجتماعي الخاصة بك، ولا يمكن للضمير السليم أن يتجاهل ببساطة الجثث المشوهة لعشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين القتلى.
غطرسة ونفاق
هذه ليست المرة الأولى التي تتواطأ فيها الولايات المتحدة في قتل الآلاف من المدنيين الأبرياء، فماذا عن ضحايا الآلة العسكرية الأمريكية في أفغانستان والعراق؟ ماذا لو كانوا قادرين على بث موتهم ودمارهم على الهواء مباشرة؟! وكم عدد المجازر التي قامت بها الولايات المتحدة أو نفذتها بنفسها؟! كم عدد الضحايا الذين لن يتم ذكرهم أبداً؟!
في عام 2020، رفعت صحيفة نيويوركر دعوى قضائية ضد البحرية ومشاة البحرية والقيادة المركزية الأمريكية في محاولة للحصول على صور من مذبحة وقعت عام 2005، قتل فيها مشاة البحرية الأمريكية 24 رجلاً وامرأة وطفلاً عراقياً، وكان من بين أصغر الضحايا فتاة تبلغ من العمر 3 سنوات وصبي يبلغ من العمر 4 سنوات يدعى عبد الله، أصيبا برصاصة في الرأس من مسافة 6 أقدام.
بعد معركة طويلة استمرت 4 سنوات، نشر الجهاز العسكري الأمريكي صور المذبحة وأفلت الجناة من عقاب!
هذه المذبحة مثلت نموذجاً مصغراً ليس فقط للاحتلال الأمريكي للعراق، بل وللمحاولة الوحشية التي يبذلها الغرب لهندسة التغيير المصطنع وتأمين مصالح الأمن القومي على حساب السكان المحليين وفرض إرادته على العالم الإسلامي.
ليست الولايات المتحدة بأي حال من الأحوال صوتاً موضوعياً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولذلك فالإبادة الجماعية في غزة هي جريمة أمريكية، وقد حان الوقت لكي يتصالح الأمريكيون مع تواطؤ حكومتهم في ذلك النوع من جرائم الحرب التي كثيراً ما يربطونها بمنافسين تاريخيين مهيمنين
في مقابلة مع قناة الجزيرة مؤخراً، انتقد رئيس تحرير ميدل إيست آي، ديفيد هيرست، النظام العالمي الغربي بسبب تواطؤه في غزة قائلاً: “لم ينجح أي شيء فعله التحالف الغربي في العقود الثلاثة الماضية، ومع ذلك فهو لا يزال مستمراً”.
لقد كان الموت الروحي للولايات المتحدة قادماً منذ فترة طويلة لا محالة، من الحروب في أفغانستان والعراق إلى سياسة باراك أوباما المتمثلة في “عدم وجود قوات على الأرض” والتي كانت سبباً في تغذية فلسفة الضرب بالطائرات بدون طيار في اليمن وباكستان والصومال، ولا يقتصر الأمر على القتل والدمار فحسب، بل على الغطرسة والنفاق في كل ذلك!
دفاع شرير
في مقابلته، أضاف هيرست: “إنهم يستخدمون وسائل غير ليبرالية للغاية لحماية ليبراليتهم ويستخدمونها ضد المسلمين، فهم لن يجرؤوا على استخدامها ضد اليهود أو المعابد اليهودية”، فمعظم القنابل التي أسقطت على المستشفيات والمساجد والكنائس وأكثر من 500 مدرسة في غزة كانت أمريكية الصنع.
إن الدعم الأميركي لجرائم الحرب الإسرائيلية وانتهاكات حقوق الإنسان هو الذي يسمح للاحتلال بمواصلة أعمال الإبادة الجماعية المستمرة، وهذا الدفاع الشرير عن الإرهاب الإسرائيلي هو الذي يدق المسمار الأخير في نعش إسرائيل لأنه هو ذاته نعش الموت الروحي لأمريكا.
لقد ظلت واشنطن صامتة لعقود ورفضت قتل إسرائيل لمواطنين أمريكيين، وذهبت من خلال تصريحات وزارة الخارجية والبيت الأبيض للدفاع عن الاحتلال حتى ضد مواطنيها!
في عام 2003، سحقت جرافة إسرائيلية في غزة الناشطة الأمريكية البالغة من العمر 23 عاماً، راشيل كوري، وقتلتها، وكانت الجرافة أمريكية تم بيعها لإسرائيل من خلال برنامج وزارة الدفاع، وفي عام 2022، قُتلت الصحفية الفلسطينية الأمريكية في قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، على يد قناصة إسرائيليين في الضفة الغربية.
وقبل أيام فقط، قتلت القوات الإسرائيلية بالرصاص الأمريكية من أصول تركية والبالغة من العمر 26 عاماً، أيسينور إزجي إيجي، خلال مشاركتها في الاحتجاجات ضد المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية جنوب نابلس، وفيما عقب مسؤولون إسرائيليون بأنهم “سينظرون في الأمر”، ظل رد الولايات المتحدة مقتصراً على هز الكتف واستنكار خالي من العواقب!
ليست الولايات المتحدة بأي حال من الأحوال صوتاً موضوعياً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولذلك فالإبادة الجماعية في غزة هي جريمة أمريكية، وقد حان الوقت لكي يتصالح الأمريكيون مع تواطؤ حكومتهم في ذلك النوع من جرائم الحرب التي كثيراً ما يربطونها بمنافسين تاريخيين مهيمنين.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)