كيف صنعت إسرائيل لنفسها أعداء من كل الجهات بإبادتها في غزة؟

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بعد مقتل 3 حراس أمن إسرائيليين قرب معبر جسر اللنبي الحدودي بين الأردن والضفة الغربية المحتلة مؤخراً، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل “محاطة بخطر أيديولوجية قاتلة تقودها إيران”، وفي ديسمبر الماضي، قال ناطق باسم حكومته أن إسرائيل “تخوض حرباً على 7 جبهات، جميعها بقيادة إيران”. 

إذا ما أخذنا كلام نتنياهو الأخير على أنه اعتراف بأن رفضه إنهاء الإبادة الجماعية في غزة هو ما يجعل كل حدود إسرائيل غير آمنة، فهو اعتراف متأخر، لكن هناك شيئاً واحداً كان على حق فيه عندما قال أن هناك كراهية لإسرائيل في الجانب الشرقي من غور الأردن.

لقد أظهرت الاحتفالات الشعبية التي أعقبت العملية عند جسر اللنبي أن الأردنيين ليسوا بحاجة إلى التحريض الإيراني النشط، فحملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة وإرهاب المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، كانت كفيلة بزرع بذور الكراهية في نفوس الجيران في الأردن، فرغم بقائه هادئاً 50 عاماً، إلا أنه لم يعد هادئاً بعد الآن.

لقد أدت الإبادة على غزة إلى تحرك في العالم العربي بطريقة لم نشهدها منذ أكثر من عقد من الزمان منذ الربيع العربي.

القوة القبلية

يعود أصل ماهر الجازي، سائق الشاحنة الذي نفذ الهجوم، إلى بلدة الدرة في محافظة معان جنوب الأردن، وهي البلدة التي خرج منها هارون الجازي، الذي كان زعيماً من نفس القبيلة حين قاد المتطوعين الأردنيين الشرقيين للقتال في معركة القدس عام 1948. 

ينحدر ماهر أيضاً من نسل مشهور الجازي، قائد الجيش الأردني خلال المعركة بين القوات الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية والقوات المسلحة الأردنية على بلدة الكرامة الحدودية عام 1968.

يذكر أن السفارات الغربية، التي تأمل في إخماد النار، لم تعد تشعر بالأمن في المنطقة بعد الهجوم، فإذا كان هناك عسكرة متسارعة على الجانب الغربي من الحدود التي يبلغ طولها 335 كيلومتراً من قبل الجيش الإسرائيلي ومليون مستوطن مسلح، فإن كل ما يؤمن الجانب الشرقي من هذه الحدود هي القبائل الأردنية والجيش الأردني، وبالتالي فإن الطريقة التي يتعامل بها زعماء القبائل حول إطلاق النار له أهمية كبيرة في استقرار هذه الحدود في المستقبل.

يوجد اليوم 196 بؤرة استيطانية، وهي غير قانونية بموجب القانون الإسرائيلي، وقد تضاعف عدد هذه المنشورات في السنوات الخمس الماضية، وذلك قبل وقت طويل من هجوم حماس في 7 أكتوبر عام 2023

أنا لن أنسى أبداً مدى سهولة طرد الملك عبد الله للقبائل عندما كان يقود طائرة هليكوبتر من طراز بلاك هوك، والتي كان لديه سرب منها لاستخدامه الشخصي، فقد كان المشهد هوليوودياً بامتياز.

وكان الصحفي الأمريكي جيفري غولدبرغ قد كتب عن تلك الحادثة معجباً في مجلة ذا أتلانتك، فعندما كان الملك متوجهاً لتناول الغداء مع زعماء القبائل في الكرك، قال لغولدبرغ: “أنا أجلس مع الديناصورات القديمة اليوم”، وقد كان ذلك قبل أشهر قليلة من نهاية الربيع العربي في عام 2013. 

أما اليوم، فلن يجرؤ الملك على وصف زعماء القبائل بـ “الديناصورات القديمة” إلا إذا كان هو أيضاً في طريقه إلى الانقراض، ففي هذه الأوقات المضطربة، يعتمد النظام الملكي الهاشمي، أكثر من أي وقت مضى، على القبائل باعتبارها حجر الأساس لشرعيته التي تآكلت بسبب الركود الاقتصادي المطول، فما يقوله زعماء القبائل بمثابة مؤشر على المزاج الوطني.

غضب وطني

لم يكن هناك أي تلميح للتعزية أو الاعتذار في تصريحات القبائل، حيث حملت عشيرة الحويطات مثلاً في بيانها، المسؤولية الكاملة عما حدث على المعبر الحدودي على عاتق رئيس الوزراء الإسرائيلي وحده، وأضافت: “إن دماء ابننا الشهيد ليست بأغلى من دماء الشهداء من شعبنا الفلسطيني ولن يكون آخر الشهداء”.

من جانبه، رحب شيخ قبيلة بني صخر، الشيخ طراد الفايز، بهذه “العملية البطولية التي تعبر عن شعبنا وأمتنا، وعلى شعوب الأمة أن تتخذ موقفاً حاسماً ومشرفاً وثابتاً في مواجهة هذا العدوان”.

لم يكن هناك بصمات إيرانية أو حتى من أي قوة أجنبية في هذا الحدث، فالغضب كان وطنياً بامتياز، وهو المعنى الذي عبر عنه رئيس الوزراء السابق ورئيس المخابرات، أحمد عبيدات، ، حين صرح قبل الحادث، بأن “هذه المعركة هي معركة الجميع، لأن المصير واحد والعدو الذي يستهدف فلسطين سوف يستهدف الأردن لا محالة”، معتبراً أن ذلك نتيجة طبيعية لقرار إسرائيل بأن وقت إدارة الصراع قد انتهى، فقال: “الإسرائيليين قالوا إما أن تقتلوا الشعب الفلسطيني أو تهجروه، وهذا يحدث أمامنا”.

أضاف عبيدات بالقول: “إن أي عربي أو مسلم يسلم حبة من تراب فلسطين التاريخية، وليس فقط الـ 22% المتبقية للتفاوض عليها بعد احتلال 4 يونيو عام 1967، خائن لوطنه وأمته ودينه”.

إن الاستيلاء على كل دونم من الأرض هو بمثابة جريمة حرب في هذه المعركة الوحيدة التي لها أهميتها، وهي حرب تديرها دولة إسرائيل بأكملها والمجتمع الصهيوني بأكمله في جميع أنحاء العالم، وبالتالي لا تملك هذه الدولة “حق الدفاع عن نفسها” عندما تكون هي نفسها في حالة هجوم مستمر وبصمت!

هناك مؤشر آخر على المزاج الوطني في الأردن، وهو النتائج الأولية للانتخابات النيابية، خاصة في ظل نظام يهدف إلى تقييد قدرة قوة سياسية واحدة على الفوز بمقاعد حتى لو حصلت على أغلبية الأصوات، ومع ذلك، فقد حصل حزب العمل الإسلامي التابع لجماعة الإخوان المسلمين على 18 مقعداً من أصل 40  مقعداًوفقاً للنتائج الأولية، ومن المتوقع أن يحصلوا على 14 مقعداً إضافياً من الانتخابات المحلية، مما يمنحهم حوالي 32 مقعداً من أصل 130، وهذا يجعلهم أكبر حزب في البرلمان.

تحدٍ أمني أساسي

لا يمكن النظر إلى هذا الفوز، خاصة بعد مرور 11 عاماً على سحق الربيع العربي، باعتباره نتاجاً لفتح إسرائيل جبهة ثانية في الضفة الغربية فحسب، كما أنها ليست نتاج تحذيرات أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، حول الحاجة إلى “عمليات إجلاء مؤقتة” ولا حتى تصريحات وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، عن أن حكومته كانت تعمل سراً على تغيير الطريقة التي تُحكم بها الضفة الغربية، لتحقيق الضم، ولا حتى نتاج الخريطة الرقمية التي أصدرها نتنياهو والتي أعطيت فيها الأردن نفس لون غزة بينما تم محو الضفة الغربية بالكامل.

سوف أشير هنا إلى تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية مؤخراً حول كيفية سيطرة المستوطنين على مساحات واسعة من الأراضي من خلال البؤر الاستيطانية الزراعية، وهو أكثر ما قد يفسر كيف تشكل تصرفات إسرائيل وكلماتها تحدياً أمنياً أساسياً للأردن، بل ولجميع جيرانها العرب.

في فبراير الماضي، تم تصوير فيديو ظهر فيه المستوطن موشيه شارفيت، وهو مستوطن فرضت كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة عليه عقوبات بسبب ارتكابه أعمال عنف وترهيب ضد الفلسطينيين، وقد استضاف يوماً مفتوحاً في بؤرته الاستيطانية، حيث خطب في الحاضرين: “إن الأسف الأكبر عندما قمنا ببناء المستوطنات هو أننا بقينا عالقين داخل الأسوار ولم نتمكن من التوسع، فالمزرعة مهمة للغاية، ولكن الشيء الأكثر أهمية بالنسبة لنا هو المنطقة المحيطة بها”.

في الفيديو، يظهر المستوطنون وهم يضحكون ويتنمرون على المزارعين الفلسطينيين ويضايقونهم ويطلقون النار عليهم خارج أراضيهم.

يوجد اليوم 196 بؤرة استيطانية، وهي غير قانونية بموجب القانون الإسرائيلي، وقد تضاعف عدد هذه المنشورات في السنوات الخمس الماضية، وذلك قبل وقت طويل من هجوم حماس في 7 أكتوبر عام 2023.

لا عجب إذن في أن تربي إسرائيل وتعزز الكراهية تجاهها لدى جيرانها، فهي تستحق تلك الكراهية، وهي واهمة إن ظنت أنها الوحيدة القادرة على التوصل إلى نتيجة “إما نحن وإما هم”، فجيرانها يمكنهم ذلك أيضاً!

الحقيقة أن تصرفات شارفيت ليست فردية، فقد حصلت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “السلام الآن” على عقود توضح كيف تقوم منظمتان تربطهما علاقات رسمية بالدولة الإسرائيلية بتوفير الأموال اللازمة لعمليات الاستيلاء على الأراضي.

إحدى المنظمتين هي “أمانا”، التي أقرضت 270 ألف دولار لأحد المستوطنين لبناء دفيئات في إحدى البؤر الاستيطانية، فوفقاً لتحقيق بي بي سي، يمكن سماع الرئيس التنفيذي لشركة “أمانا”، زئيف حيفر، في تسجيل مسرب من اجتماع للمديرين التنفيذيين عام 2021، يقول: “في السنوات الثلاث الماضية، كانت إحدى العمليات التي قمنا بتوسيعها هي مزرعة الرعي، واليوم، المنطقة تبلغ ضعف حجم المستوطنات المبنية تقريباً”.

يذكر أن كندا تفرض عقوبات على “أمانا” بسبب “أعمال العنف التي تزعزع استقرار المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية”.

أما المنظمة الأخرى، فتساعد البؤر الاستيطانية على تربية الماشية وهي المنظمة الصهيونية العالمية (WZO) التي يتولى قسمها الاستيطاني مسؤولية إدارة بعض الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، حيث

يصف هذا القسم نفسه بأنه “ذراع دولة إسرائيل”، كما أن لديها شركات تابعة وشركاء دوليين، أحدهم على الأقل مؤسسة خيرية مسجلة في بريطانيا. 

من جانبها، تفرض الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة عقوبات على المستوطنين العنيفين، في وقت يتركون فيه لمموليهم وشركائهم الحرية في العمل في بريطانيا وأمريكا، فكيف يمكن أن يكون هذا؟!

تربية الكراهية

من الصعب تجنب الاستنتاج بأن حكوماتنا لا تهتم إلا بالحلقة الأخيرة والأكثر وضوحاً في سلسلة دولية تبدأ مما يجري على الأرض، فمن الصعب التمييز بين المستوطنين والجنود، الذين يضايقون المزارعين الفلسطينيين ويتم تصويرهم في اليوم التالي وهم يطلقون النار عليهم.

الأصعب حتى الآن هو رسم خط فاصل بين المستوطنات والبؤر الاستيطانية وما كان يشار إليه ذات يوم باعتزاز باسم “إسرائيل الحقيقية”! وهذا ما ينبغي أن يكون مهماً بالنسبة للولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو أي دولة أوروبية تدعي أنها تدعم إنشاء دولة فلسطينية، ففي ثلثي أراضي الضفة الغربية يتم دفن قضية تقرير المصير الفلسطينية. 

إن الاستيلاء على كل دونم من الأرض هو بمثابة جريمة حرب في هذه المعركة الوحيدة التي لها أهميتها، وهي حرب تديرها دولة إسرائيل بأكملها والمجتمع الصهيوني بأكمله في جميع أنحاء العالم، وبالتالي لا تملك هذه الدولة “حق الدفاع عن نفسها” عندما تكون هي نفسها في حالة هجوم مستمر وبصمت!

لا عجب إذن في أن تربي إسرائيل وتعزز الكراهية تجاهها لدى جيرانها، فهي تستحق تلك الكراهية، وهي واهمة إن ظنت أنها الوحيدة القادرة على التوصل إلى نتيجة “إما نحن وإما هم”، فجيرانها يمكنهم ذلك أيضاً!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة