على الولايات المتحدة السماح للمحكمة الدولية بالفصل في جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل!

بقلم زياد مطلع

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لابد أن تكون التقارير الأخيرة التي تفيد بأن إسرائيل تمارس ضغوطاً على الولايات المتحدة لحملها على الضغط على جنوب إفريقيا، منأجل إسقاط قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بمثابة نداء تنبيه لكل من يقدر حكم القانون. 

إن قضية جنوب إفريقيا، التي تتهم إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، ليست تافهة ولا ذات دوافع سياسية، فقد قضت محكمة العدل الدولية بالفعل بوجود أساس معقول لاعتبار تصرفات إسرائيل في غزة بمثابة إبادة جماعية محتملة. 

وتؤكد الجهود التي تبذلها إسرائيل للتهرب من هذا التدقيق القانوني من خلال الاستعانة بعلاقتها الطويلة الأمد مع الولايات المتحدة على وجود نفاق عميق الجذور على واشنطن أن ترفضه إذا كان لها أن تستمر في تقديم نفسها كمدافع شرعي عن القانون الدولي.

إذا ما استسلمت الولايات المتحدة للضغوط الإسرائيلية وتدخلت في هذه القضية، فإنها بذلك توجه ضربة قوية لمصداقية القانون الدولي، وبذلك تكون الرسالة إلى العالم هي أن الدول الأضعف وحدها يمكن أن تخضع للمساءلة، في حين أن الدول القوية فوق الشبهات، وهذا سوف يؤدي إلى زيادة  السخرية العالمية من العدالة الدولية وترسيخ التصور بأن النظام متلاعب به لصالح الأقوياء!

وعلى الجانب الآخر، فإن قرار جنوب إفريقيا بمتابعة هذه القضية ما هو إلا انعكاس لتاريخها المؤلم في محاربة العنصرية والقمع المؤسسي،  فبعد أن عانت من أهوال الفصل العنصري، باتت جنوب إفريقيا تدرك العواقب المدمرة المترتبة على العنف والتمييز العنصري الذي تجيزه الدولة، فتفكيك نظام الفصل العنصري لم يتأتى إلا من خلال الضغط الدولي المستمر، بما في ذلك العقوبات والمقاطعة والغضب الأخلاقي.

هناك الكثير من أوجه التشابه بين جنوب إفريقيا في عهد الفصل العنصري والوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا يمكن تجاهلها، ولذلك فإن قرار جنوب إفريقيا بتحدي إسرائيل على الساحة الدولية يستمد جذوره من مسؤوليتها الأخلاقية في مواجهة الظلم أينما وقع.

ولا تعد هذه الحالة لفتة رمزية فحسب، بل هي حجة قانونية قائمة على أساس متين وتستند إلى المبادئ المنصوص عليها في اتفاقية عام 1948 حول منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

ازدواجية واضحة في المعايير

إن تصرفات إسرائيل في غزة من حصار مستمر، وهجمات عسكرية متكررة تؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بين المدنيين، وتدمير البنية التحتية الفلسطينية الأساسية، إنما تخلق نمطاً واضحاً يستدعي إجراء تحقيق جدي. 

توفر محكمة العدل الدولية منتدى لتقييم الحقائق حول قتل الآلاف من السكان واستهداف المستشفيات والمدارس بشكل محايد، ولكن محاولات إسرائيل لإخراج القضية عن مسارها من خلال مناشدة الولايات المتحدة تكشف عن عدم ارتياحها لمواجهة العواقب القانونية.

هناك دور حاسم تلعبه الولايات المتحدة تاريخياً، فقد قامت واشنطن في كثير من الأحيان بحماية إسرائيل من المساءلة من خلال استخدام حق النقض ضد قرارات الأمم المتحدة وتوفير الغطاء الدبلوماسي وتقديم المساعدات العسكرية غير المشروطة، لكن هذه العلاقة الخاصة هي ذاتها العامل الأهم في تقويض القيم التي تدعي الولايات المتحدة أنها تدافع عنها. 

إن قيام الولايات المتحدة بالضغط على جنوب إفريقيا لحملها على التخلي عن قضيتها أمام محكمة العدل الدولية، يرسل إشارة واضحة مفادها أن القانون الدولي ليس أكثر من أداة سياسية يتم تطبيقها بشكل انتقائي عندما يكون ذلك مناسباً، ويتم تجاهلها عندما يكون ذلك غير مناسب للولايات المتحدة وحلفائها.

لطالما اتسمت السياسة الخارجية الأمريكية، التي تشكلت جزئياً من خلال النفوذ القوي لجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، بازدواجية واضحة في المعايير، ففي حين تستشهد الولايات المتحدة بالقانون الدولي لإدانة خصومها، سواء في إيران أو روسيا أو كوريا الشمالية أو أي مكان آخر، فإنها تغض الطرف باستمرار عندما يرتكب حلفاؤها، وخاصة إسرائيل، انتهاكات ما.

ويعمل هذا النفاق بالضرورة على تآكل مصداقية المؤسسات القانونية الدولية ويغذي الاستياء تجاه الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية وخاصة في بلدان الجنوب العالمي، حيث ساهم التطبيق المزدوج للقانون الدولي وفق المعايير الأمريكية إلى عقود من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، كما أضر بمكانة واشنطن في نظر الكثيرين حول العالم.

الولايات المتحدة اليوم أمام محك حقيقي، فالعالم يراقبها لتقرر إن كان التاريخ سيذكرها  كنصير لسيادة القانون، أو كدولة قوضت حكم القانون  لصالح حلفائها، ولذلك من أجل تحقيق العدالة، يجب السماح لمحكمة العدل الدولية بالقيام بعملها على أكمل وجه!

إن محكمة العدل الدولية هي واحدة من المؤسسات القليلة المتبقية الملتزمة بالحفاظ على نظام دولي قائم على القواعد، ويتمثل دورها في توفير منصة محايدة يمكن من خلالها تسوية النزاعات القانونية بين الدول على أساس القانون، بدلاً من سياسات القوة. 

إذا ما استسلمت الولايات المتحدة للضغوط الإسرائيلية وتدخلت في هذه القضية، فإنها بذلك توجه ضربة قوية لمصداقية القانون الدولي، وبذلك تكون الرسالة إلى العالم هي أن الدول الأضعف وحدها يمكن أن تخضع للمساءلة، في حين أن الدول القوية فوق الشبهات، وهذا سوف يؤدي إلى زيادة  السخرية العالمية من العدالة الدولية وترسيخ التصور بأن النظام متلاعب به لصالح الأقوياء!

آثار عميقة

 إضافة إلى ما سبق، فإن تقويض محكمة العدل الدولية يشجع إسرائيل ودولاً أخرى على التصرف مع معرفة إمكانية الإفلات من العقاب، فانتهاكات إسرائيل المتكررة للقانون الدولي، من مستوطناتها غير القانونية إلى ردودها العسكرية غير المتناسبة في غزة، كثيراً ما تمر دون عقاب بسبب الحماية الأمريكية. 

إن السماح لإسرائيل بالتهرب من التدقيق مرة أخرى لن يؤدي إلا إلى تشجيع الانتهاكات المستقبلية، ليس فقط من قبل إسرائيل ولكن من قبل أي دولة تعرف أنها تستطيع الاعتماد على حماية حليف قوي، ولذلك لا يجب أن يصبح القانون الدولي بلا معنى في مثل هذا المنعطف الحرج.

هناك تداعيات أعمق وأوسع نطاقاً بالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، فلعقود من الزمن قدمت الولايات المتحدة نفسها باعتبارها بطلة حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، لكن أفعالها أثبتت غير ذلك.

إن حماية إسرائيل من المساءلة يكشف عن نفاق أمريكي أصيل، فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تطالب خصومها بالامتثال للمعايير الدولية، في حين تعمل على تقويض تلك المعايير لصالح حلفائها؟! وهذا من شأنه إضعاف نسيج النظام القانوني الدولي الذي تدعي واشنطن أنها تدعمه!

تتجاوز هذه القضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى سؤال ما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تستمر في دعم الإطار القانوني الدولي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو ما إذا كانت قادرة على تآكل هذا النظام لتحقيق منفعة سياسية في الأمد القريب؟!

إن قضية محكمة العدل الدولية هي فرصة أمام الولايات المتحدة لإثبات التزامها بسيادة القانون من خلال الامتناع عن التدخل والسماح للعملية بأن تأخذ مجراها، فإذا كانت إسرائيل تعتقد أن الاتهامات لا أساس لها من الصحة، يتعين عليها أن تبرئة ساحتها أمام محكمة محايدة، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فيجب محاسبتها مثل أي دولة أخرى متهمة بارتكاب جرائم خطيرة.

يتعين على الولايات المتحدة أن تقرر ما إذا كانت تؤيد العدالة أو التطبيق الانتقائي للقانون الدولي، ويجب السماح لمحكمة العدل الدولية بالقيام بعملها بعيداً عن التدخل السياسي، كما يتعين على الولايات المتحدة أن ترتفع فوق المصالح السياسية القصيرة الأمد.

الولايات المتحدة اليوم أمام محك حقيقي، فالعالم يراقبها لتقرر إن كان التاريخ سيذكرها  كنصير لسيادة القانون، أو كدولة قوضت حكم القانون  لصالح حلفائها، ولذلك من أجل تحقيق العدالة، يجب السماح لمحكمة العدل الدولية بالقيام بعملها على أكمل وجه!

مقالات ذات صلة