بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
ماذا عسانا نفعل في خضم الإبادة الجماعية؟ ففي غزة يُذبح الفلسطينيون بالآلاف، بينما يحرق المستوطنون الإسرائيليون أشجار الزيتون الخاصة بهم ويسرقون أرضهم في الضفة الغربية، وتُدنس حرمات مقدساتنا في الحرم الشريف، أو المسجد الأقصى، من قبل السياسيين الإسرائيليين المثيرين للاشمئزاز.
تُدمر المساجد والكنائس القديمة وتُمزق صحائف القرآن الكريم وتُدنس من قبل بلطجية مقززين يرتدون الزي العسكري الإسرائيلي، ويُعذب إخوتنا وأخواتنا ويُغتصبون في زنازين الاحتلال، وتُقطع رؤوسهم في منازلهم، ويُدفنون تحت أطنان من الأنقاض.
في غضون ذلك، لا تسمح نائبة الرئيس كامالا هاريس وحزبها لأي فلسطيني واحد بنطق كلمة واحدة في حفل تتويجها لتصبح الرئيسة القادمة للولايات المتحدة، فماذا نفعل في مواجهة البربرية الشرسة التي أطلقت لها العنان على الأرض؟
علينا أن نعمل، علينا أن نقرأ، علينا أن نكتب، أن نحتج، أن نستمع إلى موسيقى ريم بنا وشعر محمود درويش، ونقرأ مقالات إدوارد سعيد، ثم نبكي ونتجادل ونواسي بعضنا البعض ونصرخ ونوثق.
نحن نظل من البشر في مواجهة هذه الوحشية المطلقة التي مكنها الساسة الأمريكيون: جو بايدن، ودونالد ترامب، وهاريس على حد سواء، ولا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن نصبح مثل أعدائنا متوحشين قتلة محاصرين داخل الأيديولوجية المسيانية الحمّالة للموت والدمار.
في هذا السياق وهذه الحالة المزاجية، اتصل بي نزار حسن من الناصرة في فلسطين المحتلة ليخبرني أنه انتهى للتو من فيلم جديد يريدني أن أشاهده.
في فيلم حيفا المخفية، يستعيد المخرج الفلسطيني البارز فلسطين بصرياً من خلال شوارعها المهجورة في الغالب، ومبانيها الفارغة المهجورة، وملصقات الأفلام العربية القديمة.
رواية قصصية “بارعة”
لقد مر ما يقرب من خمس سنوات منذ أن صنع حسن فيلمه القوي، طريق جدي (طريق سيدي)، والذي تمكنا من عرضه في جامعة كولومبيا في نيويورك لزملائنا وطلابنا في أواخر عام 2020.
يظل طريق جدي أحد أقوى القصص المؤثرة والمكشوفة التي رواها حسن في حياته المهنية الطويلة والمشهورة، حيث يتصدر المخرج مشاهد الفيلم وهو يمشي مع مهندس الصوت والمصور السينمائي من أحد طرفي فلسطين إلى الطرف الآخر، متذكرين رحلة قام بها جده عبر قلب فلسطين التي تعرضت للوحشية، إنه فيلم لطيف وهادئ للغاية يروي بهدوء قصة شرسة للغاية عن السرقة والسلب.
“حيفا المخفية” هي قصة الطبقات المخفية من الحياة والتاريخ الفلسطيني في واحدة من أقدم مدن الفلسطينيين، فكيف يتمتع حسن بهذا القدر من الصبر والاتزان؟ هو سؤال كنت أسأله لنفسي دائماً أثناء مشاهدة أفلامه.
على الرغم من أن اتصالي منتظم بحسن الذي يعيش في الناصرة إلا أنه تمكن من مفاجأتي عندما تواصل معي في أوائل أغسطس/آب، راغباً في مشاركتي مسودة أولية لأحدث فيلم عن حيفا.
جاءت رسالته في الوقت الذي دخلت فيه الإبادة الجماعية المستمرة في غزة شهرها الحادي عشر، مع استشهاد ما لا يقل عن 40 ألف فلسطيني، فجلست لمشاهدة المقطع قبل الأخير، وهو عبارة عن صياغة ماهرة أخرى لقصة لا يعرف كيف يرويها إلا حسن.
في حيفا المخفية يستكشف حسن مع مهندس الصوت ومصوره السينمائي مرة أخرى تاريخ حيفا من خلال المقابلات والمحادثات، ويفحص عن كثب الكتب الحديثة والمخطوطات القديمة، وكلها منسوجة معاً من خلال شخصية المخرج وصوته ومشهده، إنه يخبرنا بأفكاره وردوده حول ما نراه معاً.
يقف الغزو الصهيوني لفلسطين على أحد الجانبين، وعلى الجانب الآخر يقف هذا المخرج الهادئ واللطيف، ولكن المتحدي والعازم بشدة، أما العالم فهو الشاهد عليهم.
اكتشاف فلسطين
يبدأ الفيلم من إحدى الأمسيات في ميناء حيفا بقراءة حسن لمذكرات حيفا: ذكريات ثمانيني (2014) لعبد اللطيف كنفاني (1927-2019).
ولد كنفاني ونشأ في حيفا قبل النكبة، ومثل ملايين الفلسطينيين المحرومين الآخرين، سافر بعيداً قبل كتابة مذكرات طفولته وشبابه المبكر في حيفا نحو نهاية حياته.
لقد أكّد لي حسن أن كنفاني ليس على صلة مباشرة بالروائي الفلسطيني الشهير غسان كنفاني، على الرغم من أنهما ينتميان إلى نفس العائلة الممتدة، لكن مذكرات كنفاني أصبحت نقطة البداية لفيلم حسن الوثائقي.
يأخذ حسن نسخة من هذه المذكرات باللغة الإنجليزية إلى جانب كتاب آخر كتبه كنفاني باللغة العربية، 15 شارع البرج، ويسافر في جميع أنحاء المدينة ويتحدث إلى الفلسطينيين الذين يساعدونه في إعادة بناء ذكرياتهم الجماعية عن حيفا.
يزور حسن وفريقه المقابر ويتسلقون الجدران ويرفعون شواهد القبور لقراءة ما يمكن اكتشافه هناك، ثم يبحث لاحقاً في الأرشيفات العبرية والعربية للمدينة ويقرأ في صناديق الوثائق القديمة، ويدرس الخرائط ومتاحف الأسلحة القديمة، هنا، يعمل حسن كمخرج سينمائي وأرشيفي.
ودقيقة بعد دقيقة في رحلة حسن، تكشف فلسطين المخفية عن نفسها من خلال هذا التاريخ المعاد بناؤه لحيفا في ذهن حسن وأمام كاميرته مباشرة بينما تستكشف بفضول وجهه وشخصيته وسفره من شارع إلى آخر في وطنه.
وسواء باللغة العربية أو العبرية أو الإنجليزية، فإن تاريخ فلسطين حاضر ومكشوف بمجرد أن ينتهي حسن منه، هذا هو التاريخ الحقيقي الذي يترجم الذاكرة الفلسطينية الجماعية إلى أدلة أرشيفية وفيلم وثائقي يكشف عن الألم وقوة السينما.
وبلحيته الرمادية ووجهه الذي تعتليه نظارة طبية وعزيمته الهادئة وحسه الفكاهي الساحر، بات حسن مفتوناً بمقدار الأدلة على التهجير الفلسطيني.
وغني عن القول أننا وبينما نشاهد حسن وهو يتتبع ذكرى كنفاني، فإننا نفكر في غسان كنفاني الأكثر شهرة وروايته القصيرة الكلاسيكية، “العودة إلى حيفا”، والتي حولها المخرج قاسم حول إلى فيلم في عام 1982.
وبعد سنوات، استند فيلم المخرج الإيراني سيف الله داد “الناجي” (1995) إلى نفس الرواية القصيرة أيضاً، لقد تم تقديم عمل آخر مقتبس من العمل الكلاسيكي في وسائل أخرى، بما في ذلك مؤخراً على خشبة المسرح من قبل نعومي والاس وإسماعيل الخالدي.
لقد شعرت طوال الفيلم بامتياز مخيف يتمثل في سماع تاريخ وقصة لم يقرأها العالم بأسره بعد ولم يستوعبها.
سينما التحرير
حسن مواطن فلسطيني في إسرائيل، مثله كمثل الفلسطينيين الآخرين في أراضي الـ 1948، محاصر داخل مستعمرة المستوطنين التي تحكم وطنهم، لقد اضطر إلى الجلوس ومشاهدة المذبحة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة في رعب.
إن فيلمه الجديد، الذي صنعه في الوقت الذي كانت فيه الإبادة الجماعية تجري على قدم وساق، يكشف عن قضية حاسمة أخرى وهي أن السينما الفلسطينية تشكل قوة فنية فريدة من نوعها توحد كل الفلسطينيين داخل إسرائيل، أو في الأراضي المحتلة، أو في مخيمات اللاجئين أو المنفى في مختلف أنحاء العالم.
يمثل فيلم حيفا المخفية وثيقة تاريخية ودليلاً سينمائياً لم يكن بوسع أي فلسطيني آخر في أي مكان آخر أن يصنعه، لكن حسن وحده، سواء كفلسطيني أو كمخرج أفلام وثائقية، كان بوسعه أن يصنع هذا الفيلم، لقد صنعه من أجل فلسطين بأكملها ومن أجل الحقيقة والسجل التاريخي للإرهاب الذي تعرض له المكان وشعبه.
قبل سنوات، عندما نشرت كتابي المحرر عن السينما الفلسطينية، أحلام أمة: عن السينما الفلسطينية (2006)، أثرت قضية “أزمة المحاكاة” في كافة جوانب الفن الفلسطيني، كيف تمثل أو تصور ضخامة الإرهاب الذي مارسه المشروع الصهيوني تاريخياً ومنهجياً على العقل والجسد والروح في وطنك؟
إذا كان لا بد للفن أن يسمو بالواقع إلى مستوى أعلى من الحقيقة حتى يصبح ذا معنى، فكيف إذن يمكن لحجم الظلم المرتكب ضد الفلسطينيين في وضح النهار أن يخضع لأي خيال جمالي؟
“هناك تنافر معرفي لا يمكن تجاوزه بين الحقيقة والاستعارات التي يتم حشدها لتمثيلها، وفي أعقاب الإبادة الجماعية الفلسطينية الحالية، أصبحت هذه الأزمة في المحاكاة أكثر حدة.
مازال أحدث فيلم لـ حسن في سجل المحاكاة لتاريخ السينما الفلسطينية قبل كارثة غزة، إن هذه الصدمة أسوأ حتى من النكبة، فالوحشية المطلقة والابتذال والوقاحة التي يتسم بها التحالف الوحشي بين إسرائيل وحلفائها الأوروبيين والأميركيين تسبب بلحظة من الأزمة الإبداعية.
ومن هنا، إلى أين قد يتجه الفن البصري والأدائي الفلسطيني؟
لم أكن قد طرحت هذا السؤال حتى رأيت المخرجة الفلسطينية الشابة بيسان عودة تجيب عليه في فيلمها الوثائقي القوي “إنها بيسان من غزة وما زلت على قيد الحياة”، لقد كان فيلماً بسيطاً وفعالاً إلى الحد الذي جعل كبار رجال اللوبي المؤيد لإسرائيل في هوليوود يحشدون لفرض الرقابة عليه وإسكاته.
لقد هرع كبار صناع الأفلام الفلسطينيين للدفاع عنها، وتحدثوا عن “لاإنسانية وعنصرية هوليوود”، لقد تم تسليم الشعلة، الفلسطينيون هم سادة قصتهم ومصيرهم.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)