كتاب المضرب: سجل الفوضى التي صنعتها الإمبراطورية الأمريكية حول العالم 

بقلم ليلى صنصور

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

في كتابه “المضرب” الذي نشرت طبعته الثانية هذا الصيف، يحاول مات كينارد أن يعالج بشكل مباشر أحد أكثر الأسئلة إثارة للجدل في عصرنا السياسي: أي نوع من الوكلاء تمثله الولايات المتحدة، وكيف نتعامل مع الآثار السلبية لتجاوزها حدودها؟

قد يبدو الحديث عن مبدأ واحد تسير عليه كل عمليات واشنطن العالمية أمراً فظاً، ففي نهاية المطاف، تشكل الإمبراطوريات مشاريع معقدة، حتى في أوقات تراجع القوة، ولكن كينارد كان حازماً في حكمه: يمكنك فهم الولايات المتحدة على أفضل نحو عندما تكون على الجانب المتلقي لتعاملاتها العالمية.

هناك، وراء مسرح “القيم الليبرالية” و”برامج التنمية والديمقراطية”، تظهر أمة بسيطة تتمتع بدافع واضح ونظام غذائي غير معقد، وما عليك إلا أن تراقبها عن كثب.

كان كينارد في وضع فريد من نوعه للقيام بذلك على وجه التحديد من خلال عمله كصحفي استقصائي مع صحيفة فاينانشال تايمز يغطي البنتاغون والبيت الأبيض وول ستريت ومدينة لندن، من بين مجالات أخرى.

وعلى مدى أربع سنوات، سافر كينارد عبر خمس قارات، حيث قدم تقارير من أكثر من اثنتي عشرة دولة، بما في ذلك بوليفيا والمكسيك وهايتي وفلسطين وتونس ومصر ما بعد مبارك، حيث يتحدث كينارد ببلاغة عن “نظام الصدى” الثقافي الذي يهيمن على غرف الأخبار ويضمن احترام وسائل الإعلام السائدة للوضع الراهن.

يجمع كتاب “المضرب” بين سهولة الوصول غير المسبوقة والإحباطات الهائلة التي شعر بها المؤلف، ويشتمل على مجموعة من الملاحظات والرؤى التي لم يتمكن من نشرها أثناء فترة عمله في فاينانشال تايمز.

ولا ينبغي أن تكون خلاصات الكتاب مفاجئة، فقد شهدت العقود القليلة الماضية تصاعد قوة الشركات متعددة الجنسيات واتساع نطاقها حيث تتقارب مصالحها مع القوة العسكرية الصارمة والعقيدة السياسية الأميركية الشاملة.

لكن مستوى التفاصيل التي يقدمها كينارد يوفر تعديلاً مطلوباً بشدة لهذا المنظور، حيث أن التكهنات حول التدخل السياسي الأميركي وبرامج التنمية الاقتصادية العالمية القسرية شيء والقدرة على رؤية آليات كل ذلك عن قرب شيء آخر.

بصمات أميركية

يعد هذا الكتاب قراءة ضرورية لأولئك المهتمين بفهم الروافع التي تستخدمها الولايات المتحدة لتهيئة العالم بما يتناسب مع غرضها، من التحريض على الانقلابات في بلدان مثل بوليفيا، إلى إعادة الهيكلة المؤلمة والشاملة لهايتي في أعقاب زلزال عام 2010.

لم تقتصر النتائج على الفقر المدقع وخلق حكومات حليفة لواشنطن، بل امتدت إلى بناء تشكيلات سياسية اقتصادية جديدة لا تستطيع هندسة نفسها من جديد ضمن إطار السيادة الوطنية، ففي هايتي، على سبيل المثال، كان الضغط الأميركي من أجل نظام تعليمي ممول من القطاع العام ولكن تديره جهات خاصة يعني فرض 700 مليون دولار من عائدات الضرائب الهايتية على المشروع، في حين حُرم أكثر من نصف أطفال المدارس في البلاد من التعليم.

وبعيداً عن حرمان قطاعات واسعة من السكان من حقهم في التصويت، وفي غياب عائدات ضريبية جديدة، “دُمرت القاعدة الضريبية بالكامل”، كما يقول كينارد.

وفي مصانع الاستغلال في هندوراس، التي تمتلك نصفها الشركات الأميركية متعددة الجنسيات، يقوم المديرون بإعطاء حبوب منع الحمل للموظفات كل صباح لضمان قدرتهن على الاستمرار في العمل، كما وجد كينارد أنه من الشائع تحديد الساعات التي يُسمح خلالها للعمال باستخدام دورات المياه.

وفي فلسطين، نام كينارد عام 2009 على أرضية منزل عائلي في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة، محاولاً التخفيف من عنف المستوطنين العازمين على إجبار الأسرة على المغادرة، وكتب: “لقد شهدت نموذجاً مصغراً للقتل البطيء لشعب، لا أحد من الأميركيين الذين يقرأون الصحف السائدة أو يشاهدون الأخبار التلفزيونية كان ليخطر بباله أن هذا يحدث”.

لقد كشفت تحقيقاته في محاولات الاغتيال المختلفة في بوليفيا أن الولايات المتحدة لا تهتم كثيراً بإخفاء بصماتها، لأنها تعلم أنه لا يمكن محاسبتها، وتوضح شهادات العمال والثوريين والمسؤولين الحكوميين والدبلوماسيين الأميركيين المحبطين الطبيعة الماكرة للإمبراطورية الأميركية.

يؤكد كتاب كينارد على الطبيعة الهشة لمجالنا المعرفي العام، وتكتسب إغفالات وسائل الإعلام السائدة طابعاً شريراً للغاية، ويبدو الافتقار إلى الموارد اللازمة للصحافة الاستقصائية المناسبة، إلى جانب الاستسلام المدني في مواجهة ثقافة متنامية من السرية بين المؤسسات السياسية الغربية، وكأنهما عجز حاسم.

الفشل الغربي

عندما يدافع أنصار النظام الغربي عن زعامات الديمقراطيات الليبرالية الغربية، فإن العديد منهم، على الأقل أولئك الذين يتسمون بالقدر الكافي من الاعتبار، سوف يعترفون بأولوية المصلحة الذاتية، في حين يزعمون أن المجتمعات الغربية تتمتع بميزة ترجع إلى قوة المجتمع المدني الغربي والثنائية التي يفرضها هذا المزيج.

ومع ذلك، فمن فشل المجتمع المدني الغربي في وقف الحرب على العراق، إلى عدم المبالاة بوقف إطلاق النار في أحدث حرب تشنها إسرائيل على غزة، من الصعب أن نرى أين تكمن قوة المجتمع المدني في عصر قوة الشركات، وما إذا كان يتمتع بأي قوة على الإطلاق. 

فإذا كانت وسائل الإعلام صامتة وتعرضت قدرتنا على الوصول إلى المعلومات للخطر، فهل يمكننا حتى أن نتحدث عن المواطنة الحقيقية؟

يرسم كينارد صورة قاتمة، لكنه يتمكن بطريقة أو بأخرى من إثارة التفاؤل، ومع انتشار وسائل الإعلام الجديدة، فأنه يرى أن لدينا فرصة لإعادة بناء المجتمع المدني، أو على الأقل إعادة تشكيل المشهد المعرفي الذي يشكل حجر الزاوية في هذا المشروع، ومع بث حرب غزة على الهواء مباشرة وتعبئة الملايين من الناس في مختلف أنحاء العالم، ربما ينشأ شيء جديد ببطء

وخلال حراك (احتلوا وول ستريت) في عام 2011، اختلط كينارد بالمحتجين الذين عبروا عن إحباطهم إزاء النظام المالي الأميركي، قائلين له: “إن كلا الحزبين السياسيين مملوك لنفس الأشخاص”، وعلى الرغم من افتقار حركة احتلوا وول ستريت إلى التركيز، فإنها لا تزال تحمل القدرة على التطور إلى حركة جماهيرية، كما أخبر أحد أساتذة جامعة كولومبيا كينارد في ذلك الوقت.

لو كنت قد قرأت هذا الكتاب عندما صدر لأول مرة، قبل ما يقرب من عقد من الزمان، ربما كنت قد انغمست في نقد خامل لنبرته، في بعض الأحيان بغضب شديد وربما بحماس شديد لدرجة لا تسمح لي بالتقييم الهادئ من الناحية السياسية، ولكن اليوم، بعد نشر طبعته الثانية، يبدو أن كتاب “المضرب” اكتسب صفة نبوية، حيث لم تلحق حساسيتنا به بالكامل إلا الآن.

ولعل فلسطين، كما يحب كينارد أن يؤكد، قد جردت أخيراً كل مظاهر التظاهر. فالجرس الذي يقرع اليوم، ولو بعد تأخير، لا يقل صوته ارتفاعاً عما بدا له آنذاك.

وحتى إصراره على عدم التراجع يبدو ملائماً، إذ يذكرنا بالإلحاح الهائل الذي نواجهه في التعامل مع القوة الهائلة التي تتمتع بها الشركات الدولية التي تعمل بسرعة على تدمير بيئتنا ومشهدنا السياسي، وهذا عمل عاجل ومكشوف، ولا بد من قراءته لأي شخص يريد أن يفهم العصر الذي نعيش فيه بشكل أفضل.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة