جاء عدوان الاحتلال على لبنان خطوة مثالية تلبي حاجة بنيامين نتنياهو لتحويل الخطاب العام عن إطلاق الأسرى الإسرائيليين والحرب المفتوحة على غزة.
وحتى الآن، ظل التصعيد الذي بدأ بتفجير أجهزة النداء والراديو في مختلف أنحاء لبنان الأسبوع الماضي ناجحاً، حيث أُبعدت قضية الأسرى عن الأجندة العامة في إسرائيل رغم أنه من غير الواضح كيف سيساهم هذا التصعيد في عودتهم أو حتى عودة سكان مستوطنات الشمال.
كما أن العدوان العسكري العنيف على لبنان جعل نتنياهو أكثر قرباً إلى جيشه.
لقد استندت فلسفة الدفاع الإسرائيلية إلى “الردع” لعقود من الزمان، وكانت هذه هي الفلسفة المتبعة ضد حماس على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية من خلال ضرب الحركة الفلسطينية بقوة في كل مرة تكسر فيها الأمر الواقع الذي تحدده إسرائيل.
ولكن هذا الردع تعرض للتقويض الشديد بسبب الهجوم الذي قادته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والذي أدى إلى سقوط الدفاعات الإسرائيلية في أيدي المقاتلين الفلسطينيين في غضون ثلاث ساعات.
وقد عاد هذا الخطاب إلى الواجهة الآن من خلال لينان، حيث يمثل الضرب هناك وسيلة إسرائيل لاستعادة ردعها، وفي هذا يتوحد نتنياهو والجيش.
تُنسب “النجاحات” الأخيرة التي حققها جيش الاحتلال في لبنان عبر تفجيرات أجهزة النداء، وقتل العديد من كبار قادة حزب الله، والقصف العنيف عبر جنوب وشرق لبنان إلى نتنياهو بالتحديد.
نتنياهو يريد من خلال هذا التصعيد إعادة إسرائيل إلى المكان الذي كانت عليه في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، ولذلك، تعززت صورة رئيس الوزراء كزعيم يتطلع إلى المستقبل ولا يستسلم للضغوط، لا من الجيش ولا من الأميركيين
وفي إسرائيل يسود اليوم شعور بأن البلاد استعادت ردعها في الشرق الأوسط، وذلك بفضل نتنياهو إلى حد كبير.
وتحظى الهجمات على لبنان بدعم واسع النطاق في إسرائيل، ليس فقط بين أنصار نتنياهو، ولكن أيضاً في المؤسسة العسكرية والمعارضة من يسار الوسط حيث أيد يائير لابيد، رئيس المعارضة، وبيني غانتس، شريك نتنياهو السابق في مجلس الوزراء الحربي ويائير جولان، زعيم حزب الديمقراطيين اليساري الصهيوني، هذه التحركات.
وعادة ما كان هذا اليسار الوسطي الصهيوني يتأثر بمواقف الجيش، والآن، عندما يوحد الجيش ونتنياهو قواهما، فإنه يقبل الافتراض القائل بأن هناك حاجة إلى إعادة فرض الردع الإسرائيلي.
لا يقدم يسار الوسط رؤية لتسوية سياسية مع الفلسطينيين ويريد فقط “الهدوء”، ويعتقد أن هذا يمكن تحقيقه من خلال الردع في مواجهة حزب الله.
ويبدو أن تنفيذ الغزو البري لجنوب لبنان لدفع قوة الرضوان النخبوية التابعة لحزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني لا يتناسب مع نوايا إسرائيل في الوقت الحالي.
فما يريده نتنياهو والجيش الآن هو الضغط على حزب الله لقبول وقف إطلاق النار في لبنان، والتخلي عن دعمه للفلسطينيين في غزة، دون الحاجة إلى إرسال قوات برية إلى لبنان، أي أن المطلوب هو ردع لبنان، وليس احتلاله، كما فعل مع غزة في السنوات الخمس عشرة التي سبقت السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
فمنذ الغزو البري لقطاع غزة في أواخر أكتوبر، قتل المقاتلون الفلسطينيون ما يقرب من 350 جندياً إسرائيلياً وجرحوا الآلاف، وفقاً للجيش الإسرائيلي.
وقد يؤدي الاستيلاء على الأراضي في جنوب لبنان إلى دفع ثمن أعلى بكثير من الجنود، حيث أن الجغرافيا هناك أكثر تعقيداً من غزة وحزب الله مجهز بشكل أفضل بكثير من حماس.
ومن المحتمل أن يجر غزو لبنان إسرائيل إلى حرب طويلة، والحرب الطويلة تتناقض مع فكرة الردع ذاتها، والتي بموجبها يمكن للقصف الجوي أن يحل محل العمليات البرية.
فضلاً عن ذلك، ورغم أن قطاع غزة غير معترف به دولياً باعتباره جزءاً من دولة ذات سيادة، فإن غزو لبنان يعني غزو دولة ذات سيادة، ومثل هذا العمل يحمل فرصة أكبر لإشعال حرب إقليمية.
وقد تشعر دول مثل إيران وسوريا والعراق أو ربما حتى دول عربية أخرى بالحاجة إلى الرد إذا غزت إسرائيل دولة عربية ذات سيادة، وعلى هذا فإن الغزو البري الكامل لجنوب لبنان ليس من الأمور التي يهتم بها نتنياهو أو الجيش، على الأقل في الوقت الحالي.
وتعيش إسرائيل حالياً حالة من النشوة في أعقاب ما يراه الجمهور الإسرائيلي نجاحات عسكرية في الهجمات على حزب الله.
ويشعر الإسرائيليون أنه بعد مرور ما يقرب من عام على الحرب، اتخذت إسرائيل زمام المبادرة واستعادت قدرتها على الردع في الشرق الأوسط.
وينظر الإسرائيليون إلى الهجوم الدبلوماسي الإيراني، الذي تجلى في اجتماع الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان مع اليهود وأكاديمي إسرائيلي في نيويورك، وخطابه المدروس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، باعتباره دليلاً على أن قدرتها على الردع تعمل أيضاً على طهران.
ولكن مع ذلك فإن الغزو البري الإسرائيلي لا يزال ممكناً، وربما يبدأ الضغط الشعبي في التشكل في هذا الاتجاه.
فقد تأثر مئات الآلاف من الإسرائيليين بصواريخ حزب الله، تمت إضافتهم إلى ستين ألفاً من سكان الشمال الذين تم إجلاؤهم من منازلهم منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول بسبب تبادل إطلاق النار عبر الحدود.
وإذا استمر حزب الله في إطلاق الصواريخ على الرغم من الهجمات الإسرائيلية واسعة النطاق الأخيرة، فقد يزداد الضغط على الحكومة والجيش الإسرائيليين لإرسال قوات إلى لبنان، حيث قد يُنظَر إلى هذا باعتباره السبيل الوحيد لوقف هجمات حزب الله والسماح للإسرائيليين بالعودة إلى منازلهم في الشمال.
ما الذي يختبئ وراء التصعيد
يتمثل الهدف الحقيقي لإسرائيل من وراء التصعيد الأخير بالضغط على حزب الله بشكل مباشر، بالقوة العسكرية، أو بشكل غير مباشر من خلال وسطاء، للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
ومن خلال تحقيق ذلك، تسعى إسرائيل إلى فصل حزب الله عن حليفته حماس.
وبهذا المعنى، فإن دفع قوة الرضوان إلى ما وراء نهر الليطاني وتنفيذ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 يشكلان أمرين ثانويين بالنسبة لنتنياهو الذي يحتاج إلى وقف إطلاق النار في الشمال ليكون له حرية التصرف في قطاع غزة.
ولكن خلاصة القول هي أن نتنياهو يرغب من خلال هذا التصعيد في إعادة إسرائيل إلى المكان الذي كانت عليه في السادس من أكتوبر/تشرين الأول.
وكما كان الحال قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن نتنياهو مستعد لقبول استمرار حماس في حكم غزة، وإن كانت قد ضعفت بعد الغزو الإسرائيلي وباتت دون أي شرعية دولية.
وما دام الأمر كذلك، فلن يتم دفع إسرائيل إلى التفاوض على أي اتفاق سياسي مع الفلسطينيين، ناهيك عن عقد أي اتفاق سلام معهم، وهو ما كان هدف نتنياهو على الدوام.
في الشمال، قد يقدم نتنياهو وقف إطلاق النار مع حزب الله باعتباره انتصاراً، حتى ولو كان الثمن حياة الأسرى الإسرائيليين في غزة.
فقد تخلى أنصار نتنياهو بالفعل عن الجهود الرامية إلى إعادتهم أحياء، وقد يكتفي العديد من أولئك الذين ينزلون إلى الشوارع الآن ضد نتنياهو بالمطالبة بـ “صفقة الآن” بالانتصار على حزب الله.
ومع ذلك، فإن المشكلة الوحيدة، وهي مشكلة ضخمة بالطبع، هي أن حزب الله ليس مستعداً لوقف إطلاق النار ويواصل إطلاق النار على إسرائيل بوتيرة متزايدة.
بل إن أغلب الإسرائيليين الذين يتعرضون الآن لهجمات حزب الله في الشمال يؤيدون القصف الإسرائيلي الشامل في لبنان في الوقت الحالي، ولكن إذا استمر حزب الله في الرد، فقد يتغير المزاج بسرعة كبيرة، حيث لن يقترب الإسرائيليون من العودة إلى ديارهم.
وإذا زاد حزب الله من مدى صواريخه، فسوف يضطر المزيد من الإسرائيليين إلى مغادرة منازلهم، كما حدث أثناء حرب لبنان الثانية في عام 2006.
لقد أصبح الشعور بالحصار حاضراً بالفعل في إسرائيل، وهو شعور سوف يتنامى مع مرور الوقت
ثم هناك الوضع الاقتصادي الآخذ بالتدهور في إسرائيل، حيث تقول بعض التقارير أن وكالات التصنيف الدولية سوف تخفض تصنيف إسرائيل الائتماني بشكل أكبر إذا استمرت الحرب وتوسعت.
يتزامن ذلك مع إعلام وزارة الخزانة أن أرقام النمو الاقتصادي جاءت أسوأ من المتوقع.
والآن تلغي شركات الطيران الدولية رحلاتها إلى إسرائيل واحدة تلو الأخرى، وإذا اشتدت الحرب في لبنان، فلن يكون هناك أي احتمال لاستئنافها.
وبعد أن تتلاشى النشوة الحالية من النجاحات المفترضة في لبنان، قد يجد نتنياهو والجيش والجمهور الإسرائيلي أنفسهم في نفس المكان الذي كانوا فيه قبل أسبوعين، في حرب تستنزف مواردها البشرية والاقتصادية، ولا نهاية في الأفق ولا أهداف واضحة.
وهناك قضية أخرى تتمثل في أن نتنياهو يريد الوصول إلى الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني دون اتفاق في غزة.
ويبدو أن التصعيد الحالي يضمن له ذلك، ولكن إذا تدهور الصراع مع حزب الله إلى حرب إقليمية وهو ما تفضل إسرائيل تجنبه في الوقت الحالي فقد تكون المصالح الأمريكية في خطر.
في هذا السيناريو، قد تُدفع إدارة بايدن، على الرغم من ترددها، إلى الضغط على حليفتها لوقف الحرب، سواء في لبنان أو في غزة، وهذه نتيجة سيرغب نتنياهو في تجنبها.
ترجمة وتحرير موقع بالعربية
لقراءة النص كاملاً باللغة الانجليزية من (هنا)