الفوضى التي تزرعها إسرائيل في أنحاء الشرق الأوسط لابد وأن تطاردها في نهاية المطاف

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة وتحرير مريم الحمد

قبل هطول الفسفور الأبيض وخوف الناس وفرارهم من منازلهم، تبدأ طقوس المسرحية الإسرائيلية، والتي يطلق عليها “العرض العام لغسل اليدين” من الجريمة!

إنها تمثيلية التظاهر بأن هناك دبلوماسيين صادقين يحاولون البحث في مخرج وشد كل وتر لوقف الهرج والمرج، وقد قامت إسرائيل بتصميم الكثير من هذه التمثيليات التي يجمعها عنصر مهم وهو أنها تمثيل إيمائي، لا يمت للواقع بصلة.

قبل ساعات من إعلان إسرائيل بدء هجومها البري على لبنان، أصر وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، في مؤتمر صحفي في بيروت، على أن وقف إطلاق النار الذي اقترحه لمدة 21 يوماً “لا يزال مطروحاً على الطاولة”، وفي الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة تؤكد على توقف محادثات وقف إطلاق النار.

للمفارقة، أرادت الولايات المتحدة التوصل إلى حل دبلوماسي، في الوقت الذي وصفت فيه اغتيال زعيم حزب الله، حسن نصر الله، بأنه “خير خالص”، كما زعمت أنها قيدت إسرائيل بعملية محدودة على الحدود، في الوقت الذي أعربت فيه عن قلقها من التبعات الإنسانية للعملية، وتعهدت بمواصلة العمل على تهدئة التوترات مع حرص التأكيد على أن إسرائيل دولة ذات سيادة وتتخذ قراراتها بنفسها!

ألا تبدو هذه التمثيلية مألوفة؟! فخلاصة القول، كما أكد البنتاغون، هي أن الولايات المتحدة تؤيد الغزو البري على لبنان في ظل تعليق خطط وقف إطلاق النار.

الرغبة في الانتقام

لقد حدث نفس الشيء في غزة قبل عام، فالتوصيف المتمثل في أن من “حق إسرائيل الدفاع عن نفسها” هو اختصار لتسوية كل حياة بجوار إسرائيل بالأرض!

لقد قامت كل وسائل الإعلام في العالم الغربي تقريباً بوصف العملية الجارية في لبنان بأنها “مستهدفة ومحدودة من خلال غارات كوماندوز دقيقة تدخل وتعود”، وذلك ما فعلته تماماً خلال المرحلة الأولى من الحرب على غزة.

صرح مسؤول أميركي لصحيفة واشنطن بوست بالقول: “لا نتوقع أن يبدو الأمر كما كان في عام 2006″، فيما كشفت تصريحات الإسرائيليين عن الوجه الحقيقي، فقد صرح سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة، مايك هيرزوغ، بأن “الإدارة الأمريكية لم تقيدنا بالوقت المناسب، وهم أيضاً يدركون أنه بعد اغتيال نصر الله، هناك وضع جديد في لبنان وهناك فرصة لإعادة التشكيل”.

لقد كانت صواريخ حزب الله ومقاطع الفيديو الدعائية توضيحية، ومصممة لإظهار قوته، وليس لاستخدامها، وبعد فوات الأوان، تبين أن هذه الاستراتيجية كانت بمثابة خطأ استراتيجي، يدفع حزب الله ثمنه اليوم لإعطائه الثقة لإسرائيل للقيام بما تفعله الآن في لبنان

لا تعني “إعادة تشكيل لبنان” هنا عملية محددة الأهداف تقتصر على الحدود، حتى أن الحدود لم تكن موجودة في أفكار أحد قادة الجيش الإسرائيلي الذي قال: “لدينا امتياز عظيم لكتابة التاريخ كما فعلنا في غزة هنا في الشمال”.

لقد وصل خطاب الغضب والكراهية إلى مستويات مجنونة في إسرائيل، فالرغبة في الانتقام الموجهة ضد شعب غزة قد وجدت هدفاً جديداً بسرعة وهو شعب لبنان، من شماتة نير دفوري من القناة 12 بأن “نصر الله مات من العذاب”، وتقارير تفيد بأن زعيم حزب الله قد اختنق، فيما رحب رئيس مجلس بلدة شلومي بالغزو البري قائلاً: “من الضروري تطهير المنطقة”.

أما المعلق السياسي، بن كاسبيت، فقد صرح بأنه يحلم بـ “اليوم التالي” لعملية التطهير هذه، مشيراً إلى أن أي مقاتل في قوة الرضوان التابعة لحزب الله ممن عبروا نهر الليطاني “يجب أن يموتوا على الفور”، ومن المثير للسخرية أن يذكر نهر الليطاني، الذي كثيراً ما يُستشهد باسمه باعتباره الحد الذي تريد إسرائيل تطهيره من صواريخ حزب الله، حيث أن الطموحات العسكرية لهذه العملية تذهب إلى أبعد من لبنان.

بعد مرور 12 ساعة فقط على إعلان وزارة الخارجية الأمريكية أنها قد حدت من العملية الإسرائيلية، أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء لأكثر من 20 بلدة وقرية في جنوب لبنان، حيث أعلن المتحدث باسم الجيش، أفيخاي أدرعي، على موقع اكس: “عليكم التوجه فوراً إلى شمالاً” قرب مدينة صيدا.

تغيير الشرق الأوسط

يشير هذا التحرك إلى أن إسرائيل تريد أن تجعل نطاق عمليتها العسكرية جنوب لبنان بأكمله، أي ما يقرب من ثلث البلاد، وهذا يتماشى مع الوعد الذي قطعه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في الساعات التي أعقبت هجوم حماس قبل عام، حين قال للمسؤولين الذين زاروا القدس، “سنغير الشرق الأوسط”. 

كتب صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، جاريد كوشنر،  المستثمر العقاري الذي يعتبر نفسه خبيراً في موضوع حزب الله، على موقع اكس: “مقتل نصر الله هو يوم أهم يوم في الشرق الأوسط منذ اتفاقات أبراهام، فكل من يدعو إلى وقف إطلاق النار في الشمال مخطئ، فلا عودة إلى الوراء بالنسبة لإسرائيل، فهم لا يستطيعون الآن تحمل تكاليف عدم إنهاء المهمة وربما لن يحصلوا على فرصة أخرى أبداً”.

كان نصر الله يتمتع بجاذبية كاريزمية أمام ناخبيه والجماهير المؤيدة للفلسطينيين في العالم العربي، بشكل أشبه بالرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، وفي موته، وعد نصر الله بأن يفعل الكثير!

إن نتنياهو وداعميه الأمريكيين يريدون تغيير الشرق الأوسط بغزو لبنان، وما من شك بأن غزواً كهذا سوف يفعل ذلك إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون بالطريقة التي يتخيلونها!

لقد نجح نصر الله في الحفاظ على الهدوء على الحدود الشمالية لما يقرب من عقدين من الزمن، بعد أن قاد عملية تحرير جنوب لبنان بعد ثمانية عشر عاماً من الاحتلال، ومعركة 2006 بنجاح.

وعلى الجانب الآخر، فقد انغمس حزب الله في الحرب الأهلية في سوريا، الأمر الذي كان  له عواقب كثيرة، حيث قلل ذلك من أهمية النضال من أجل تحرير فلسطين، ومع نمو حجم حزب الله وأهميته السياسية، أصبح من السهل على الموساد الإسرائيلي اختراقه، وذلك ما تجلى في عملية تفخيخ أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكي، حيث عمل الموساد على اختراق سلسلة التوريد والإعداد منذ فترة طويلة!

تناقض دراماتيكي

ما حصل مع حزب الله يتناقض بشكل كبير مع الصعوبات التي واجهتها إسرائيل في محاولتها اختراق وتدمير حماس في غزة!

من جانب آخر، فقد استفادت إسرائيل من “الصبر الاستراتيجي” الذي تحلت به إيران وحزب الله، فلم ينتقم حزب الله قط لاغتيال عماد مغنية، قائد جناحه العسكري عام 2008، كما أنها لم ترد بالمثل على اغتيال المسؤول الكبير في حماس، صالح العاروري، في وقت سابق من هذا العام في معقلها في الضاحية في بيروت.

لم يؤدِ الإحجام عن الرد من طرف إيران وحزب الله إلا إلى منح إسرائيل الثقة لمضاعفة ضرباتها على لبنان وسوريا، وفي كل مرة حدث هذا، كان كل من حزب الله وإيران يؤكدان على أنهما لا يريدان بدء حرب مع إسرائيل، وأن حملتهم كانت تضامناً مع حماس في غزة وسوف تتوقف بمجرد التوصل إلى وقف لإطلاق النار. 

لقد كانت صواريخ حزب الله ومقاطع الفيديو الدعائية توضيحية، ومصممة لإظهار قوته، وليس لاستخدامها، وبعد فوات الأوان، تبين أن هذه الاستراتيجية كانت بمثابة خطأ استراتيجي، يدفع حزب الله ثمنه اليوم لإعطائه الثقة لإسرائيل للقيام بما تفعله الآن في لبنان.

لقد فاقت الهجمات الإسرائيلية على حزب الله ردود الحزب بنسبة 5-1، وهذا ليس مجرد سوء تقدير من جانب أولئك الذين يطلق عليهم لقب المتشددين في لبنان وإيران فحسب، بل إن الرئيس الإيراني الإصلاحي، مسعود بيزشكيان، قد أكد أن الأمريكيين كذبوا عليه، إذ وعدوا بوقف إطلاق النار في غزة إذا تراجعت إيران عن الرد على اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران.

كان فشل ضبط النفس الاستراتيجي الإيراني هو المسبب الأساسي لقصف أكثر من 180 صاروخاً على أهداف إسرائيلية، وبعد الهجوم، ظل بيز شكيان متمسكاً بأن إيران لا تسعى إلى الحرب مع إسرائيل، لكن من الواضح أنه تم التخلي عن سياسة ضبط النفس، ويمكن للمرء أن يتوقع أن يكون حزب الله وجميع الجماعات المسلحة في اليمن والعراق أكثر نشاطاً!

عدوان جامح

هناك خطأ في الحسابات ترتكبه إسرائيل عند رغبتها في السيطرة، 

فهي تريد إعادة هندسة الشرق الأوسط برمته بينما تبقى القضية الفلسطينية دون حل، وهي هندسة عكسية لفترة 3 عقود، بدأت منذ اتفاقيات أوسلو عندما فقد الصراع الفلسطيني تفوقه ومركزيته في العالم العربي.

ما يقوم به نتنياهو في المنطقة هو أكثر ما قد يقنع العرب بأن إسرائيل لا تنتمي إلى هذه المنطقة، ولذلك عواقب استراتيجية وخيمة في المستقبل، وفي ظل هذا السياق، هل يعتبر موت نصر الله حقاً “خيراً خالصاً” للمنطقة؟!

لا شيء أخطر على الشرق الأوسط من عدوان إسرائيل الجامح، فعندما تلقِ 80 طناً من المتفجرات لتقتل نصر الله وتقتل 300 آخرين، فإنك تنقله من رمز للمقاومة إلى أسطورة، وهذا ما عبر عنه السياسي اللبناني سليمان فرنجية، حين قال: “رحل الرمز، وولدت الأسطورة، والمقاومة مستمرة”.

من جانبه، شبه رئيس تحرير صحيفة الأخبار، إبراهيم الأمين، نصر الله بالحسين بن علي حفيد النبي محمد، فكتب: “لم يتخيل السيد حسن نصر الله نفسه في صورة الحسين عندما سقط شهيداً، فهو ليس في موقف الحسين عندما خذله العالم، بل هو في صورة الحسين الذي نهض وقاتل دفاعاً عن حقٍ كلفة تحصيله باهظة جداً. لقد أصبح نصر الله رمزاً خالداً لكل ثائر في وجه الظلم، واستشهد دفاعاً عن القدس وفلسطين”.

كان نصر الله يتمتع بجاذبية كاريزمية أمام ناخبيه والجماهير المؤيدة للفلسطينيين في العالم العربي، بشكل أشبه بالرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، وفي موته، وعد نصر الله بأن يفعل الكثير!

عواقب وخيمة

بالطبع، هذه ليست وجهة نظر النخب العربية التي أمضت حياتها المهنية في تملق الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن حتى هم عليهم أن يعترفوا بالعاطفة التي تسري في شعوبهم، وذلك ما استخدمه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، باعتبار إسرائيل وسيلة لتأخده واشنطن على محمل الجد.

مع ذلك، فسلمان صريح للغاية، حيث ورد على لسان الحاكم البالغ من العمر 39 عاماً، أنه أخبر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في وقت سابق من هذا العام أن “70% من سكان بلدي أصغر مني سناً، وبالنسبة لمعظمهم، فهم لم يعرفوا الكثير عن القضية الفلسطينية، والآن يتم تعريفهم بها لأول مرة من خلال هذا الصراع، وذلك مشكلة كبيرة، أنا لا أهتم بالقضية الفلسطينية على الصعيد الشخصي ولكن فريقي يفعل ذلك”.

رغم تشكيك مسؤول سعودي في صحة هذه الرواية عن محادثة محمد بن سلمان مع بلينكن، إلا أن في فحواها طابع الحقيقة، فهناك محاولة لإعادة تصميم المنطقة على يد إسرائيل التي تجاوزت كل القيود.

لا شيء قادر على إقناع جيران إسرائيل العرب اليوم بأن إسرائيل لا تسعى للعيش معهم بسلام أكثر من المسار الذي تسير عليه حالياً، وهو المسار الذي يستهدف ويهدد المسيحيين والمسلمين والشيعة والسُنّة على حد سواء. 

ما يقوم به نتنياهو في المنطقة هو أكثر ما قد يقنع العرب بأن إسرائيل لا تنتمي إلى هذه المنطقة، ولذلك عواقب استراتيجية وخيمة في المستقبل، وفي ظل هذا السياق، هل يعتبر موت نصر الله حقاً “خيراً خالصاً” للمنطقة؟!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة