“الأسرلة”..فيلم يفضح آلة الدعاية الأمريكية الإسرائيلية

بقلم أوسكار ريكيت

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

تنطفئ الأضواء في القاعة المكتظة بالجمهور من الشباب اليهود الأميركيين في القدس الذين كانوا في جولة مولتها حكومة الاحتلال جزئياً، لتبدأ موسيقى الرقص بينما تُظهِر خلفية الفيديو صوراً لدبابات تندفع عبر الأراضي العشبية مع غروب الشمس الذهبي وطائرات الهليكوبتر من طراز أباتشي، في حين يسير شبان وشابات وهم يرتدون الزي العسكري لجيش الاحتلال على المسرح ويغنون.

وفي تعليق صوتي، يُسمع صوت رجل أكبر سناً، اكتشفنا لاحقاً أنه المدير السابق لرابطة مكافحة التشهير (ADL) أبراهام فوكسمان، وهو يقول “إن المجتمع غير اليهودي لا يفهم هوسنا وشغفنا بإسرائيل”، يليه صوت آخر لامرأة أصغر سناً وهي تقول: “الجنود الإسرائيليون، جذابون، رائعون، أقوياء، إنهم كل ما يمكن أن نرغب في أن نكون عليه”.

لقد مر ما يقرب من عام منذ الهجمات التي قادتها حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والتي أسفرت عن مقتل 1139 شخصاً، كما مر عام تقريباً منذ بدء هجوم الاحتلال على غزة، والذي أسفر عن ارتقاء أكثر من 42 ألف فلسطيني، بينهم نحو 16500 طفل.

وبالرغم من ذلك، تواصل الولايات المتحدة تسليح إسرائيل ودعمها وتزودها بغطاء دبلوماسي غير محدود في الوقت الذي تعبر فيه الأخيرة “الخطوط الحمراء” الأميركية المفترضة واحداً تلو الآخر، وتجر المنطقة الأوسع إلى حالة حرب.

لقد كانت إسرائيل حليفة رئيسية للولايات المتحدة لعقود من الزمان، و التفاوت الشاسع بين الطريقة التي تستجيب بها واشنطن لحرب صديقتها إسرائيل على غزة وحرب عدوتها روسيا على أوكرانيا واضح للجميع.

هناك أسباب استراتيجية و اقتصادية وجيوسياسية لهذا، ولكن هناك أيضا أسباب عاطفية وتاريخية وثقافية، مع وجود صناعة في الولايات المتحدة مكرسة لتعزيز الدعم العميق لإسرائيل بين الأميركيين، وخاصة الأميركيين اليهود.

“الأسرلة”

تم إنتاج الفيلم الوثائقي الطويل “الأسرلة” قبل السابع من أكتوبر، وهو فيلم حاز على استحسان النقاد، ويبدأ بحدث ضخم في القدس، تنظمه مؤسسة بيرثرايت إسرائيل، التي تنظم رحلات مجانية للشباب اليهود من جميع أنحاء العالم إلى إسرائيل، وهو يندرج ضمن آلة الدعاية المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة والرحلة التي يقطعها بعض الشباب اليهود الأميركيين بعيداً عنها.

في قلب الفيلم الوثائقي سيمون زيمرمان، التي نشأت في لوس أنجلوس، وذهبت إلى مدرسة يهودية وعاشت في إسرائيل في برنامج تبادل وزميلها الأميركي إيتان، الذي انضم إلى الجيش الإسرائيلي بعد تخرجه من المدرسة الثانوية.

تعرض لنا زيمرمان رسوماً توضيحية للأعلام الإسرائيلية وخرائط “إسرائيلي” التي رسمتها عندما كانت طفلة وتتحدث عن عالم حيث كان الدعم لإسرائيل وحبها جزءاً لا يتجزأ من بيئتها.

“لقد استغرق الأمر مني سنوات عديدة حتى أتمكن من تقبل دورى في هذا الأمر” – إيتان، جندي إسرائيلي سابق

أما إيتان فهو منغمس في حالة مشابهة، فقد نشأ على وصايا تزعم أن الأرض التي تقع عليها إسرائيل هي “أرضنا”، وهو يخبر والديه أنه لا يحتاج حتى إلى الذهاب إلى الكلية لأنه يستطيع الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي، ويقول: “أردت الدفاع عما أعتبره وطني”.

ولكن التجربة غيرت هذين الشابين اليهود الأميركيين، ففي سن المراهقة، تعلمت زيمرمان أن هناك “طرقاً لدعم إسرائيل”، فبوسعك الانضمام إلى الجيش، ولكن بوسعك أيضاً خوض “حرب أخرى” وأن تصبح “مدافعاً عن إسرائيل”، وبدا المؤتمر السنوي لمجموعة الضغط المؤيدة لإسرائيل “أيباك” في نظر زيمرمان “حدثاً مجتمعياً”.

وبعد أن التحقت بالجامعة في بيركلي في كاليفورنيا، خرجت زيمرمان للدفاع عن إسرائيل في مناظرات الحرم الجامعي، ولكن عندما تستمع في إحدى هذه المحاضرات إلى فلسطينيين يتحدثون عن تعرض أسرهم للقصف في غزة، أو عن تعرضهم للضرب عند نقاط التفتيش، تدرك أنها لا تستطيع أن تستمع إلى ساعات من الشهادات حول الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي ثم ترفضها باعتبارها أكاذيب، فهي لا تستطيع أن “تنظر إلى كل واحد من هؤلاء الطلاب وتقول لهم: “أنت إرهابي، أنت إرهابي”.

وعندما تعود إلى هيليل، أكبر منظمة جامعية يهودية في العالم، والتي تضم زملاء برعاية الحكومة الإسرائيلية في جامعات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، تجد نفسها غارقة في صمت تام. 

وتقول: “كان الناس في المجتمع اليهودي خائفين حقا من الحديث عن الأسئلة الصعبة الفعلية التي طُلب منا الإجابة عليها بشأن سلوك إسرائيل”.

وهكذا تذهب زيمرمان إلى الضفة الغربية، وتلتقي بالفلسطينيين واليهود الذين يسلكون نفس المسار السياسي الذي سلكته، وهي رحلة أبعدتها عن طفولتها ووضعتها في خلاف مع كثيرين في المجتمع الذي جاءت منه، فهي تتعرض للهجوم باعتبارها “يهودية كارهة لذاتها” و”يهودية معادية للسامية” ولكن هذا يظهِر في إسرائيل باعتبارها رحلة إلى النور، إلى الحقيقة.

وبالنسبة لإيتان، فإن عملية الاكتشاف تبدو أكثر وحشية، فبعد انضمامه إلى الجيش الإسرائيلي، يتم تدريبه على الحرب “لغزو قمم التلال”، والمشاركة في “حرب حضرية تحاكي ما يشبه المساكن العربية”، ويتم إرساله إلى الضفة الغربية المحتلة “لحماية المستوطنات، وكان كل هذا من أجل حماية المستوطنات”.

ووفقاً للأمم المتحدة، فإن 700 ألف مستوطن إسرائيلي يقيمون “بشكل غير قانوني في الضفة الغربية المحتلة”، وما لا يقل عن 60 ألفاً منهم أميركيون، وهو النوع من الأميركيين الذين تظهرهم إسرائيل وهم يصيحون ويهتفون في الحدث الضخم الذي أقامته منظمة “بيرثرايت”.

وبالإضافة إلى الواقع الوحشي للاحتلال، شهد إيتان ضرب شاب فلسطيني أثناء احتجازه، وهو يقول عن ذلك: “شعرت بالمسؤولية، لكن قائدي لم يقل أي شيء ولم أتحدث حتى هذه مجرد واحدة من العديد من القصص التي حدثت لي أثناء خدمتي في الجيش”.

ويقول: “لقد استغرق الأمر مني سنوات عديدة حتى أتمكن من تقبل دوري في هذا الأمر”، وبكى مطولاً حين تحدث للمرة الأولى عن الأمر.

رحلات التحول

أخبرتني إيرين أكسلمان، التي أخرجت فيلم “الأسرلة” إلى جانب سام إيليرتسن، أن قصتهما “مرتبطة بقصص الشخصيات الرئيسية في فيلمنا” بعد أن تعرضت لبعض التنمر و”معاداة السامية الخفيفة” عندما كانت طفلة يهودية نشأت في ولاية مين الأمريكية، وقد وجدت أكسلمان القصص حول إنشاء إسرائيل تعزيزاً لا يصدق كطفلة.

وتقول المخرجة: “لقد كان من الصعب والمحبط دائماً بالنسبة لي أن أتعلم عن آلاف السنين من القمع الذي واجهه الشعب اليهودي عندما كنت شابة، وعندما بدأت في التعرف على تاريخ إسرائيل، بدت إسرائيل حقاً وكأنها الضوء في نهاية النفق، بعد كل هذا القمع، عدنا أخيراً إلى وطننا الأصلي ويمكننا أن نكون أقوياء، لقد تحكمنا أخيراً في مصيرنا”.

وعندما وصل مخرجا الفيلم إلى المرحلة الثانوية، سأل أحد المعلمين الذي كان يعرف أن عائلة أكسلمان من اليساريين تلميذته سؤالًا غير حياتها يقول فيه: “هل تعرفين أي شيء عن التاريخ الفلسطيني؟” أدركت أكسلمان أنها لا تعرف شيئاً، إذ لم تتحدث أي من الكتب المؤيدة لإسرائيل التي قرأتها عن الفلسطينيين، “لقد ذكرت هذه الكتب العرب، إذا تحدثت عنهم من الأساس، كعقبة يجب التعامل معها”.

“إسرائيل هي اليهودية واليهودية هي إسرائيل لا يمكنك فصلهما” – جاكي شوليفاند، معلمة مدرسة يهودية سابقة

شجع المعلم أكسلمان على قراءة كتب المؤرخين الفلسطينيين والإسرائيليين اليساريين، بمن فيهم رشيد الخالدي وتوم سيجيف.

وتقول أكسلمان: “لقد تحدثوا بصراحة عن النكبة والاحتلال، وبدأت أدرك أن هناك جزءاً كبيراً من القصة كان مفقوداً، وهنا بدأت رحلتي الخاصة نحو التحول”.

فإلى جانب هذه القصص عن التحول التي أصبحت شائعة على نحو متزايد بين الشباب اليهود الأميركيين تجري مجلة “إسرائيلية” مقابلات مع أشخاص ملتزمين بتعزيز الدعم لإسرائيل في الولايات المتحدة، في حين تصور في الضفة الغربية المحتلة وتروي، من خلال المساهمين باها هيلو وسامي عوض، قصة النكبة.

وتقول جاكي شوليفاند، وهي معلمة مدرسة يهودية سابقة ومديرة المشاركة في فرع جامعة كونيتيكت في هيليل: “إسرائيل هي اليهودية واليهودية هي إسرائيل لا يمكنك فصلهما”.

وتحظى مؤسسة “بيرثرايت”، التي شارك في تأسيسها مدير صندوق التحوط الملياردير مايكل شتاينهاردت، باهتمام خاص، حيث تمول الحكومة الإسرائيلية جزئياً رحلاتها المجانية إلى إسرائيل. 

ويقول جوش، الطالب بجامعة كونيتيكت: “في جولات بيرثرايت، كان الجنود الإسرائيليون معك طوال الوقت”.

وبجانب جوش كان يجلس توم باركان، الذي عينته الحكومة الإسرائيلية في الجامعة كزميل إسرائيلي وهو يقول: “اذكر اسم أي جامعة في أمريكا وربما يكون لدينا شخص فيها”. 

انضم باركان، وهو جندي سابق في الجيش الإسرائيلي، إلى الجيش منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ونشر على فيسبوك: “من فضلك لا تقل إنك تهتم بمعاناة “الفلسطينيين الأبرياء” إذا كانت الحقيقة هي أنك معادٍ للسامية يكره إسرائيل”. 

ويوضح الحاخام بينيت ميلر، من جمعية الصهاينة الإصلاحيين في أمريكا، الدعاية: “نحن نزرع بذورًا ستزهر في النهاية، هل يفهم المصلون العاديون أنني أعلمهم أن يصبحوا صهاينة؟ ربما لا”. 

إن التزام هؤلاء الأشخاص والمؤسسات واضح بالقتال من أجل إسرائيل ومعارضة أي يهودي يشكك في الصهيونية.

ويقول يشاي فلايشر، المتحدث باسم مستوطني الخليل، لصانعي الفيلم إن هناك “عناصر جهادية لا تقبل وجودنا هنا، لكن الأمر صعب بالنسبة لهم، إنها رؤية عظيمة تتحقق في حياتنا، ولن يوقفنا شيء”.

وعلى الطرف الآخر، يتساءل بهاء الحلو، وهو مدرس فلسطيني من بيت لحم قائلاً: “ما الذي يجعل شاباً أمريكياً يبلغ من العمر 18 عاماً حصل على رحلة مجانية لمدة عشرة أيام في فلسطين، ما الذي يجعله يريد القدوم والتضحية بحياته”.

ثم يضيف “لماذا يعتقد الأجنبي أنه من المقبول أن يتمتع بحقوق أعلى من حقوق السكان الأصليين؟ لأن شخصاً ما أخبره أنها وطنه”.

وفي الولايات المتحدة، يصف فوكسمان من رابطة مكافحة التشهير اليهود الشباب المناهضين للصهيونية بأنهم “ساذجون بعض الشيء”، ويقول إنه في حين أن إسرائيل “لا تزال تحت التهديد من جيرانها، فإن علينا أن نؤجل هذا النقاش الفلسفي إلى وقت آخر”.

وسبق للرئيس جو بايدن ذات مرة أن قال عن فوكسمان: “لقد تعلمت منذ فترة طويلة أنه لا توجد طريقة لقول لا لآبي”.

لكن العديد من الشباب اليهود في الولايات المتحدة لا يهتمون بتأجيل هذا النقاش، وخاصة عندما يرتكب جيش الاحتلال المدعوم من الولايات المتحدة إبادة جماعية في غزة.

تقول لي أكسلمان: “قد تكون المنظمات المؤيدة لإسرائيل هي صاحبة الصوت الأعلى، لكنها لا تمثل مجتمعنا بالكامل، وهناك المزيد والمزيد من اليهود الأميركيين الذين يقولون “لا باسمي”، ويدعمون المساواة والعدالة لجميع الناس الذين يعيشون بين النهر والبحر”.

كما يقول إيتان عن قراره بالتحدث بصراحة وفي كثير من الأحيان عن وقته في الجيش الإسرائيلي: “لا يمكننا الانتظار لفترة أطول”.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة