تجمد محمد إسماعيل الحويحي عندما رأى جندياً من جيش الاحتلال يضرم النار في الخيمة التي كانت ابنته بداخلها.
كانت دعاء، وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة تبلغ من العمر 34 عاماً، قد انفصلت عن والدها، الذي كان يرعاها قبل بضع دقائق فقط من الجريمة، فقد اضطر الأب إلى الفرار على عجل من الخيمة التي أقامتها الأسرة في ساحة مدرسة تحولت إلى مأوى للنازحين في مخيم جباليا للاجئين شمال غزة.
وقعت الجريمة عندما بدأت قوات الاحتلال بإطلاق الرصاص الحي داخل المدرسة من دون سابق إنذار قبل اقتحامها خلال هجوم دموي استمر ثلاثة أسابيع على المخيم في مايو/أيار، ووقتها تُركت دعاء، التي لم تكن قادرة على الكلام أو الحركة، داخل الخيمة لأن والدها لم يستطع حملها معه.
وبعد أن دخل الجنود المدرسة تحت غطاء من النيران الكثيفة، تم فصل الرجال عن النساء، وما هي إلا لحظات حتى قام جندي بسكب البنزين على عشرات الخيام في الساحات قبل إضرام النار فيها.
أخذ صوت الوالد يتلاشى تحت هدير الدبابات وإطلاق النار الكثيف، فوقف يراقب بصمت ويأس، وقال: “لقد احترقت حية ولم نستطع أن تحرك ساكناً، لقد شعرت بقلبي ودماغي يحترقان”.
الانتقال من ملجأ إلى ملجأ
قبل استشهاد دعاء، كان الأب الفلسطيني قد اضطر إلى الترحال مع ابنته من ملجأ إلى آخر لعدة أشهر وسط قصف الاحتلال المتواصل.
وقال حويحي لموقع ميدل إيست آي أن دعاء ولدت طفلة طبيعية، ولكن مع مرور الوقت، ضعف جسدها، وأخبره الأطباء أنها مصابة بشلل دماغي، وأخذت عضلاتها تضعف مع مرور الوقت حتى فقدت قدرتها على الحركة أو التواصل.
ومنذ وفاة والدتها قبل ثماني سنوات، أصبحت دعاء تعتمد على والدها في كل شيء.
“لقد احترقت حية ونحن لم نستطع أن نتحرك، شعرت أن قلبي وعقلي يحترقان” – محمد إسماعيل الحويحي، أب فلسطيني
وأضاف الوالد: “لم تكن قادرة على الحركة أو الكلام وكانت تعتمد علي في كل شيء، في إطعامها وسقايتها ورعايتها، كان الأمر أشبه برعاية طفل رضيع لمدة 34 عاماً”.
ومثل مئات الآلاف من الفلسطينيين في جميع أنحاء غزة، نزح حويحي عدة مرات على مدار العام الماضي بسبب غارات الاحتلال الجوية المستمرة، وفي كل مرة، كان عليه أن يحمل دعاء معه على الرغم من تقدمه في السن.
وتابع الأب المكلوم: “لقد نزحنا عدة مرات وكانت دعاء معي، إلى جانب أحد أبنائي وزوجته وأطفالهما”.
في المرة الأولى، تلقى حويحي رسائل على هاتفه من جيش الاحتلال، تأمره بمغادرة جباليا إلى “مكان آمن”، وكان الملجأ الأول مدرسة في مخيم جباليا للاجئين، لكنه سرعان ما اكتشف أن المدارس ليست بمنأىً على القصف والاقتحامات الإسرائيلية.
يتذكر حويحي تلك الأيام فيقول: “لم تكن المدرسة آمنة، لقد قصفوا كل شيء هناك، واقتحموا المدرسة وصورونا، واستجوبونا، واعتقلوا بعض الأشخاص، ثم طردونا من هناك”.
وفي النهاية، انتقل حويحي إلى مجمع مدرسي تديره الأونروا يسمى أبو زيتون، وقال: “كان القصف يحيط بنا هناك أيضاً”.
وأردف: “في كل يوم كنا نواجه شيئاً جديداً، كل يوم كانوا يقصفون مكاناً جديداً وقريباً منا أو يطلقون النار من طائرات الكوادكابتر أو يقتحمون المنطقة المحيطة بنا، عشنا بعضاً من أصعب أيام حياتنا هناك”.
ومنذ بداية عدوان الاحتلال على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، استهدفت قواته عشرات المدارس واقتحمتها، بما في ذلك تلك التي تديرها الأمم المتحدة، والتي كانت بمثابة ملاجئ للعائلات التي أجبرتها قوات الاحتلال على ترك منازلها أو لأولئك الذين دمرت منازلهم في الهجمات.
وقد تحولت مدارس أخرى إلى قواعد للعمليات العسكرية الإسرائيلية بعد مداهمتها وإخلائها من العائلات النازحة.
وبحكم المساحة المحدودة في المدارس المتبقية، اضطر العديد من السكان، مثل حويحي وعائلته، إلى إقامة خيام في الملاعب أو خارجها مباشرة.
وقال حويحي إن خيمة عائلته كانت مصنوعة من النايلون بسقف من الزنك في ساحة المدرسة.
ووصف ما جرى معه بالقول: “لم نتمكن من العثور على مكان في الفصول الدراسية داخل المدرسة، حيث كان يقيم الآلاف من سكان جباليا الآخرين بعد قصف منازلهم، وحتى أن بعضهم جاء إلى المدارس معتقدين أنها ستكون أكثر أماناً من منازلهم وأحيائهم التي تعرضت للقصف بلا هوادة”.
وأردف يقول: “بقينا هناك لمدة أربعة أشهر تقريباً، وخلال تلك الفترة، كنا جائعين واضطررنا إلى تناول علف الحيوانات، لم تتوقف الهجمات، والله وحده يعلم ما تحملناه هناك”.
“شاهدنا النيران تلتهمها”
وفي أوائل مايو/أيار، شنت قوات الاحتلال هجومها البري الثاني على جباليا شمال مدينة غزة، منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ولمدة 20 يوماً، أمطرت القنابل بلا هوادة على مخيم اللاجئين المكتظ بالسكان فيما كانت الدبابات والقوات تتقدم على الأرض وتحاصره.
أخذت الهجمات تقترب أكثر فأكثر من مدارس أبو زيتون، حيث وصلت الشظايا وإطلاق النار بشكل متقطع إلى مباني المدرسة، لكن صباح يوم 15 مايو/أيار جلب معه “مستوى آخر من الرعب”، وفقاً لحويحي.
وقال بحسرة: “فعند حوالي الساعة الثامنة أو التاسعة صباحاً، كنا نجلس معاً وكنت أطعم دعاء خبز الشعير، وفجأة بدأ إطلاق النار، أطلق قناص إسرائيلي النار على ساحة المدرسة، فقتل امرأة تبلغ من العمر 24 عاماً، ثم أصيب شاب من عائلة الخالدي، فركضنا بأسرع ما يمكن، محاولين الابتعاد عن نيران القناصة، ولجأنا إلى أحد الفصول الدراسية”.
وتابع: “لم أستطع إحضار دعاء معي، لم أستطع حملها وأنا أركض، ولم يكن لدي طريقة لرفعها”.
وسرعان ما اقتحمت قوات الاحتلال المدرسة تحت نيران كثيفة، وفصلت الرجال عن النساء، واستجوبت الأفراد، واحتجزت بعض الشباب من المدرسة.
“توجه جندي يرتدي ثياباً مدنية إلى الخيام، وسكب البنزين على الخشب والنايلون ثم أضرم النار فيها، وأشعل النار في الخيمة التي كانت ترقد فيها ابنتي دعاء” – محمد إسماعيل الحويحي
وأردف الوالد: “كنا جميعًا نشاهد النيران تلتهمها، والدبابات والجنود يطلقون النار في كل مكان، لم أستطع الصراخ، لم يكن هناك من أتحدث إليه، من أستطيع التحدث إليه؟ الدبابات التي لم تتوقف عن إطلاق النار؟”
ثم واصل الجنود تدمير الخيام والمباني المتبقية في المدرسة.
وتابع: “بعد الحريق، هدموا بقية الخيام بالجرافات، وهدموا حتى الجدران، أصبح كل شيء كومة من الأنقاض، ثم طردونا من المدرسة”.
لم يتمكن حويحي من العودة إلى المدرسة لمدة 10 أيام تقريباً، وعندما عاد أخيراً، حضر للبحث عن رفات ابنته، لكن “لم يبق منها شيء، لم يبق أي أثر لجثتها، بحثت بين الأنقاض، لكن دعاء لم أجد دعاء”.
وقال السكان والناجون والمراسلون المحليون بعد انسحاب جيش الاحتلال في أواخر مايو/أيار عن الهجوم على جباليا: “لقد دمرت قوات الاحتلال كل شيء تقريباً”.
تم تدمير أحياء بأكملها، واختفت معظم المنازل، ودُمرت البنية الأساسية مثل آبار المياه، ومضخة الصرف الصحي الرئيسية، وأعمدة الكهرباء وخطوط الهاتف.
كما سُوِّي السوق المفتوح المركزي بالأرض، وداهمت قوات الاحتلال مستشفيين، وأُحرقت عيادة حيوية تابعة للأمم المتحدة تخدم الآلاف من الناس، ودُمر شارع يضم العديد من المدارس بالكامل.
وقال الشهود أن مخيم جباليا للاجئين أصبح “غير قابل للتعرف عليه” ولم يعد مناسباً للسكن البشري.
ومخيم جباليا هو الأكبر بين ثمانية مخيمات للاجئين في قطاع غزة، وقد كان قبل الحرب يأوي أكثر من 116 ألف شخص مسجلين رسمياً لدى الأونروا، ومن المرجح أن يكون العدد الفعلي لسكان المخيم أعلى من ذلك بكثير.
تأسست مخيمات اللاجئين الفلسطينيين مثل مخيم جباليا في عام 1948 لإيواء العائلات التي طردتها الميليشيات الصهيونية من وطنها مؤقتاً في الحرب التي أدت إلى إنشاء إسرائيل، في حدث يُعرف لدى الفلسطينيين باسم النكبة.
وتبلغ مساحة مخيم جباليا 1.4 كيلومتر مربع، وهو أحد أكثر مخيمات الأونروا كثافة سكانية.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، شنت قوات الاحتلال هجوماً برياً وجوياً آخر على المخيم، وقصفته بلا هوادة مرة أخرى، وأجبرت عشرات الآلاف من الفلسطينيين على ترك منازلهم وملاجئهم.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)