فوق جبل من الأنقاض في قرية عين الدلب الصغيرة في جنوب لبنان، تناثرت الكتب والأحذية الصغيرة ودمية ترتدي ثوباً أحمر مع متعلقات شخصية أخرى حول بقايا مبنى سكني سُوي بالأرض في غارة للاحتلال قبل أكثر من أسبوع بقليل، مما أدى إلى دفن العشرات من الرجال والنساء والأطفال تحت ألواح من الخرسانة السميكة.
استشهد واحد وسبعون شخصاً وأصيب أكثر من 58 آخرين في الغارة الأكثر دموية على الإطلاق منذ بدأت دولة الاحتلال القتال مع حزب الله في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفي الأول من أكتوبر الجاري، تم تشييع الشهداء في جنازة قادهم المشيعون فيها داخل مقبرة جماعية في مدينة صيدا القريبة.
وقال مفتي صيدا سليم سوسان لموقع ميدل إيست آي من مكتبه في المدينة: “كان المبنى مليئاً بالعائلات التي لم تكن لديها أي أنشطة عسكرية”.
ويرأس سوسان ترتيبات الدفن في المدينة الجنوبية للبنان، ووفقاً لشعائر الدفن الإسلامية يتم غسل جسد المتوفى وتغطيته بكفن أبيض من القطن، ثم الصلاة عليه قبل الدفن، لكن غارة الاحتلال على عين الدلب تركت بعض “الجثث مقطعة الأوصال”، مما يجعل من المستحيل أداء هذه الشعائر عليها بحسب الزعيم الديني.
ولم تكن أهوال عين الدلب هي الوحيدة التي شهدها سوسان منذ تصعيد الاحتلال لهجماته على لبنان قبل أكثر من أسبوعين، فقد قال أنه دفن حوالي 10 أشخاص قضوا في 23 سبتمبر/أيلول، عندما نفذت قوات الاحتلال قصفاً عنيفاً في جميع أنحاء البلاد، كما تضررت جثثهم بشدة لدرجة أنه لم يعد من الممكن التعرف عليها.
وأعلنت وزارة الصحة اللبنانية في 4 أكتوبر/تشرين الأول أن غارات الاحتلال قتلت أكثر من 2000 شخص، بينهم 127 طفلاً و261 امرأة.
وتقول قوات الاحتلال أن غاراتها تشن على أهداف لحزب الله، ولكن الخسائر البشرية الكبيرة تطال المدنيين كما أصيبت البنية التحتية المدنية وسيارات الإسعاف وأفراد الدفاع المدني.
وفي مستشفى الهمشري في صيدا، يرقد أب فلسطيني لثلاث فتيات صغيرات بلا حراك على سرير في وحدة العناية المركزة في الطابق الثاني، وقد سُحق حوضه تحت لوح من الخرسانة في هجوم عين الدلب وكان قد مضى على وجوده في المستشفى أسبوع تقريباً عندما زارته ميدل إيست آي.
ولم تنج سوى واحدة من بناته، فاطمة البالغة من العمر ثلاث سنوات، بينما استشهدت أصغرهن رزان البالغة من العمر شهرين، وأكبرهن، ريان البالغة من العمر خمس سنوات، إلى جانب زوجته في ذات الغارة.
وقال شقيقه الذي كان جالسا بجانب سريره لموقع ميدل إيست آي البريطاني، حيث كان الأب متعبا للغاية بحيث لا يستطيع التحدث: “لقد قفز من الباب إلى بهو الدرج وهو يحمل طفلته فاطمة، لكنه لم يتمكن من إنقاذ زوجته وأطفاله الآخرين”.
وأضاف الأخ الذي طلب عدم الكشف عن هويته أن الطفلتين رزان وريان كانتا لا تزالان في المطبخ عندما انهار المبنى ودُفِنتا عميقاً تحت الأنقاض.
وعالج مستشفى الهمشري 10 جرحى من الهجوم، وفقاً لزياد أبو العينين، رئيس وحدة الطوارئ والإسعاف في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في لبنان والذي يعمل أيضًا في المستشفى الذي يقدم خدمات رعاية صحية مخفضة التكاليف للفلسطينيين بدعم من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
كان الأب قد نزح للتو مع زوجته وبناته من قرية الغازية، على بعد حوالي خمس كيلومترات جنوب مدينة صيدا، التي هاجمتها قوات الاحتلال بشدة في الأسابيع الأخيرة، وكان يأمل مع أكثر من 100 آخرين يسكنون المبنى أن يكون أكثر أماناً من منازلهم الواقعة في الجنوب.
لكن يونس ياسين، كبير الممرضين في مستشفى الهمشري، وصف لموقع ميدل إيست آي ليلة الهجوم على عين الدلب بالقول” لقد كانت فوضى”، قبل أن يضيف وهو يهرع لتفقد جريح آخر يعالجه “جاء الجرحى من عين الدلب إلى المستشفى مصابين بإصابات متعددة في الرأس والصدر والبطن والأطراف السفلية”، لقد كانت الجروح مماثلة لضحايا غارات الاحتلال الآخرين الذين عالجهم.
وفي الطابق الخامس من المستشفى، كان عبد الأزاد حمود يرقد في صمت ويعاني من فقدان كبير للذاكرة بسبب إصابة خطيرة في الرأس تعرض لها في عدوان الاحتلال يوم 25 سبتمبر/أيلول، كما قالت زوجته براء حمود لموقع ميدل إيست آي.
وقال براء أن حمود كان متطوعاً مع الدفاع المدني اللبناني في مخيم برج الشمالي للاجئين الفلسطينيين بالقرب من مدينة صور جنوب لبنان، عندما ضربت غارة جوية المنطقة.
وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول، قالت وزارة الصحة اللبنانية إن 40 مسعفًا ورجل إطفاء وعامل رعاية صحية قد ارتقوا في هجمات الاحتلال على مدار ثلاثة أيام.
واتهم جيش الاحتلال حزب الله باستخدام سيارات الإسعاف لنقل المعدات القتالية، وحذر الفرق الطبية من الاقتراب من “عناصر” حزب الله، لكنه لم يقدم أي دليل يدعم هذا الادعاء.
واستشهد ما لا يقل عن 10 رجال إطفاء في غارة للاحتلال على جنوب لبنان في 7 أكتوبر/تشرين الأول بينما كانوا “يهمون بالخروج في مهمة إنقاذ من مبنى تعرض للقصف”، وفقًا لبيان صادر عن الوزارة.
وقال جيش الاحتلال لهيئة الإذاعة البريطانية إنه أجرى “عملية دقيقة” استهدفت “عدة عناصر إرهابيين من حزب الله كانوا يستخدمون محطة إطفاء كموقع عسكري أثناء القتال”.
وفي المستشفى، ذكرت براء أن زوجها استهدف بينما كان في مهمة مع أفراد الدفاع المدني لحفر قبور “شهداء” قضوا في قصف الاحتلال، مشيرة إلى أنها ستعود الآن لمنزلها في مخيم برج الشمالي لأنها لا تملك مكاناً آخر تذهب إليه، وأضافت: “الخطر من حولنا في كل مكان”.
واتجه حسن قطب، وهو محلل سياسي من صيدا، نحو الواجهة البحرية للمدينة، خارج مكتب المفتي مباشرة، وقال وهو يتذكر غزو إسرائيل للبنان واحتلالها لجنوبه لمدة 18 عاماً: “في عام 1982، دمرت صيدا بالكامل، جاءت إسرائيل إلى هنا وقصفت كل شيء، من البحر أيضاً”.
وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول حذر جيش الاحتلال من أنه “ملزم بالتحضير للعمليات في المياه اللبنانية”، وطلب المغادرة من جميع الصيادين والسكان على الساحل الجنوبي، من مدينة رأس الناقورة الحدودية إلى صيدا.
وقال قطب أن هدف الاحتلال هو عزل حزب الله عن البر والبحر، وقطع طرق الإمدادات والأسلحة وغيرها من أوجه الدعم، مضيفاً: “هم يختبرون قدرات حزب الله وإرادته في القتال”.
ومثل العديد من اللبنانيين، يرجح قطب أن تحتل إسرائيل أجزاء من جنوب لبنان مرة أخرى.
وفي مكتبه في صيدا، قال سليم إنه يخشى أن تصبح الحرب أسوأ مما شهده في عام 1982، وأضاف: “هذه المرة الضربات مختلفة، إنها أقوى، ونحن بحاجة إلى إظهار ما يحدث في الشرق الأوسط لكل العالم، وتبيان كيف يموت الأبرياء من النساء والأطفال في منازلهم”.
بقلم حنا ديفيس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)