طوال ثلاثة أسابيع، لم يتمكن محمد كريم وعائلته من الحصول على أي طعام يأكلونه تحت حصار خانق في شمال غزة، حيث يواصل جيش الاحتلال تنفيذ ما يسميه السكان “تطهيراً عرقياً” للمنطقة.
وعندما حاول أحد جيرانهم الوصول إلى مدرسة بحثاً عن طعام معلب فيها، أطلق الجنود عليه النار مباشرة في ساقه وترك ينزف لأكثر من ساعتين ومنعوا أي شخص من الاقتراب منه.
ويروي كريم، البالغ من العمر 38 عاماً، لـ ميدل إيست آي تفاصيل رحلته المروعة من النزوح القسري متعددة المراحل وما لاقاه فيها من هجمات متواصلة على طول الطريق، مما أدى إلى إصابته هو وجميع أفراد عائلته قبل إجبارهم على الخروج من جباليا في شمال قطاع غزة.
يوم الاثنين، كان كريم في منطقة مستشفى اليمن السعيد عندما ظهرت طائرة رباعية المراوح (كوادكابتر) أخذت تنادي على الجميع بالتوجه إلى جنوب قطاع غزة.
يتذكر ذلك فيقول: “غادرنا حوالي الساعة 2 ظهراً وكان معي حوالي 18 طفلاً وفي طريقنا حاولنا العبور من مستشفى اليمن، لكن طائرة رباعية المراوح هاجمتنا بقنبلة مباشرة”.
وأضاف: “شاهد شاب القنبلة وهي تُلقى فبدأ يصرخ: لقد ألقوا قنبلة، فهربنا، ثم قذفونا بقنبلة أخرى سقطت على بعد حوالي 10 أمتار منا، فأصيب أربعة أحدهم يبلغ من العمر حوالي 50 عاماً برصاصة في الظهر، وأصيب طفل يبلغ من العمر حوالي 12 عاماً بشظايا في صدره”.
وتابع كريم: “طوال الرحلة، كانت مسيرات الكوادكابتر تطلق النار علينا، وكانت الشظايا في كل مكان”.
خلال الرحلة، وجد كريم وجيرانه نقطة طبية في منطقة مدرسة أبو حسين في جباليا، وكانوا يأملون في علاج الجرحى هناك، لكنهم تراجعوا عندما رأوا جثث الضحايا المحيطة بالمكان.
وقال: “كانت الجثث ملقاة على الأرض، ولم تكن الفرق الطبية هناك أو كانت غير قادرة حتى على التحرك لإجلائهم”.
ويستدرك بالقول: “ذهبنا إلى شقة أحد أقاربنا في وسط منطقة مشروع بيت لاهيا وبقينا هناك، ولم ننم لمدة ثلاثة أيام تقريباً بسبب القصف والانفجارات والروبوتات المفخخة، وكانت الموت في كل مكان”.
وأردف الشاهد: “وعند الساعة 4:30 من فجر يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول، قصف جنود الاحتلال منزلًا قريباً وخلال 10 دقائق من القصف، أسقطوا حوالي ست قنابل، وبعد حوالي نصف ساعة، قصفوا المنزل الذي كنا فيه”.
وأوضح كريم أن كل من في كانوا داخل الشقة أصيبوا بمن فيهم هو وزوجته وشقيقته وأقاربه، بينما استشهد ثلاثة من الجيران هم امرأة وابنتها ورجل مسن، أما الشقتان اللتان فوقهما فقد دمرتا بالكامل، وانهارتا فوق رؤوس سكانهما.
الضرب والاستجواب
خرج الجميع من المبنى وهم مصابون وينزفون، وركضوا بأقدامهم إلى مستشفى كمال عدوان.
يتذكر كريم تلك الأوقات العصيبة قائلاً: “وصلنا إلى المستشفى، ولم تمر ساعة حتى جاءت الطائرات الرباعية مرة أخرى وبثت تسجيلات صوتية تقول: أنتم في منطقة قتال خطيرة، ويجب أن تتوجهوا إلى منطقة المستشفى الإندونيسي، فذهبنا إلى هناك، وعلى طول الطريق كان هناك عدد لا يحصى من الجنود”.
ويواصل حديثه بالقول: “لم يكن معنا طعام، وبعد أن مكثنا لساعات، ذهب شاب إلى مدرسة قريبة تؤوي النازحين بحثاً عن علبة فاصوليا أو حمص، فأطلقوا النار مباشرة على قدمه، وظل ينزف لمدة ساعتين ومنعونا من مساعدته”.
“استدعى جنود الاحتلال جميع جرحى الحرب للفحص الأمني، احتجزوا نحو 80% من الرجال، وعذبوهم بالضرب والإذلال، وكان من بينهم شاب يعاني من إعاقة ذهنية، فضربوه وشتموه قائلين له: لا تتصرف بغباء، أنتم جميعاً سواء هنا” – محمد كرم، نازح فلسطيني
وأضاف: “كان هناك شاب آخر مصاب في قدمه، فأجبروه على الوقوف عليها وأطلقوا عليه رصاصتين لإجباره على الوقوف وهو مصاب”.
ثم اقتيد كرم إلى مسجد قريب حيث تم التحقيق معه ومع عشرات الرجال الآخرين.
ويقول عن التحقيق: “ضربني جندي على ظهري بعقب سلاحه وركلني وأنا مصاب، وبعد ذلك طلبوا مني أن أحمل علماً أبيض وأن آخذ معي نحو 200 شخص إلى المنطقة الآمنة، ولكن لا توجد منطقة آمنة في غزة”.
“رحلة عذاب”
ومنذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول، شنت قوات الاحتلال هجوماً دموياً على شمال قطاع غزة، حيث قصفت بشكل منهجي المنازل والتجمعات السكنية وفرضت حصاراً صارماً على المنطقة.
وجاء هذا الهجوم بعد أن ألقى جيش الاحتلال منشورات تعلن عن “مرحلة جديدة من الحرب” وتأمر السكان بإخلاء شمال غزة والتحرك جنوباً.
أما عبد الله المقيد، فله حكاية أخرى حيث ظل في شمال قطاع غزة لمدة 18 يوماً قبل أن يجبره جيش الاحتلال على الخروج.
وقال المقيّد، 38 عاماً ، لـ ميدل إيست آي: “كانت رحلة عذاب خلال الحصار الخانق، وكان الأمر أشبه بيوم القيامة، في كل متر، كانت هناك قذيفة أو صاروخ يسقط علينا”.
وتابع: “غادرت مخيم جباليا إلى منطقة مشروع بيت لاهيا بعد حوالي أسبوع من بدء الهجوم الأخير، وبقيت هناك بالقرب من مستشفى كمال عدوان، وفي اليوم السابع عشر، حاصر الجيش المستشفى وبدأ في دعوتنا للتحرك نحو المستشفى الإندونيسي عبر نقطة تفتيش أقاموها”.
وأردف المقيد: “قاموا بتصويرنا بالكاميرات، وفتشونا، ظلوا يكيلون لنا الإهانات والشتائم والسباب طوال الوقت”.
ومثل جميع سكان شمال غزة الذكور البالغين، تعرض المقيّد للتحقيق في مركز استجواب أنشأه جيش الاحتلال في ساحة سكنية.
وقال: “سألوني لماذا لم أخرج من منزلي منذ بداية الحرب، وقالوا لنا لقد فرحتم في السابع من أكتوبر أنتم جميعًا من حماس”.
وتابع : “لقد واصل المحقق إذلالنا قائلاً ابقوا أعينكم على الأرض، لا تنظروا إلي أو إلى الجنود، لا يُسمح لكم بمساعدة أي شخص، حتى النساء أو الأطفال، وركلني أحد الجنود ثلاث مرات بحذائه”.
“لن تعودوا أبدًا إلى الشمال”
وبعد استجواب استمر حتى غروب الشمس، أمر جنود الاحتلال السكان بالإخلاء إلى جنوب قطاع غزة، لكن الناس انتقلوا إلى مدينة غزة المجاورة بدلاً من ذلك.
وأضاف المقيد: “كانت إحدى العبارات التي قالها لنا الجنود اذهبوا جنوباً، لن تعودوا أبداً إلى الشمال، لقد أصبح الشمال لنا، وسنبني فيه مستوطنات”.
وأردف المقيد: “ولكننا وصلنا إلى مدينة غزة، وفي الطريق كان هناك عدد هائل من الجنود والدبابات على مدى البصر، وكأنهم يغزون بلداً، لا يقاتلون مجرد مدنيين وأفراداً عزل، رأينا جثث الشهداء على الأرض والكلاب تنهشها”.
تمكن مقيد من مغادرة مدينة غزة، لكنه اضطر إلى ترك والدته المسنة خلفه، حيث يقول عن ذلك: “لقد بقيت أمي في جباليا فهي لا تستطيع المغادرة، ولا تستطيع السير لمسافة طويلة وتواجه الإذلال والإهانات التي نتعرض لها”.
من ناحيته تحدث محمد عويس، أحد سكان الفلوجة في جباليا، عن ثكنات عسكرية أقامها جنود الاحتلال في منطقة أبراج الشيخ زايد، حيث يتم استجواب الرجال وتعذيبهم من قبل الجنود.
وأضاف: “في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، أصابت قذيفتان منزلنا، وأطلقت علينا طائرات رباعية المراوح النار، مما أجبرنا على الإخلاء إلى منطقة مدرسة أبو حسين”.
ومضى يقول: “غادرنا المنزل على أمل العودة في غضون يومين، حاملين معنا القليل من الطعام والملابس، لكننا عشنا أيامًا صعبة للغاية مليئة بالجوع والعطش لمدة ثلاثة أسابيع تقريباً”.
“كان هناك شهداء وجرحى لم يستطع أحد مساعدتهم على طول الطريق” – محمد عويس، أحد سكان جباليا النازح
وأردف: “في الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول، تلقينا أنباء عن قصف منزلنا المكون من خمسة طوابق ومنازل جيراننا وهدمها، وبعد يوم واحد، شهدنا مذبحة في مدرسة أبو حسين، لذلك اضطررنا إلى الإخلاء مرة أخرى إلى منطقة كمال عدوان”.
ومثل معظم سكان شمال غزة الذين أجبروا على ترك منازلهم، بقي عويس وعائلته في منزل أحد أقاربه في منطقة مجاورة، لكن الهجمات تبعتهم إلى هناك.
يصف عويس ما جرى في هذه الرحلة بالتفصيل قائلاً: “أعلنت طائرة رباعية المراوح أمس أنها ستقصف المنطقة وأننا يجب أن نخلي إلى منطقة المستشفى الإندونيسي، فانتقلنا إلى هناك، وكان هناك أعداد هائلة من الناس”.
ويواصل سرده للرواية قائلاً: “لقد فصلوا النساء عن الرجال، وأجبروا الرجال على دخول مدرسة الكويت، وأمروا النساء بالتوجه نحو شارع صلاح الدين، حيث كانت هناك نقطة تفتيش عسكرية تنتظرهن”.
وتابع: “جعلنا الجنود نصطف في طابور ووقف كل خمسة رجال أمام كاميرا، وقاموا بتصويرنا، ثم نادوا على من أرادوا، واعتقلوا العديد من الأشخاص داخل الأبراج، وأجبروهم على خلع ملابسهم وارتداء ملابس بيضاء، وقيدوا أيديهم وعصبوا أعينهم”.
وأردف: “وبحلول غروب الشمس، كان الظلام شديداً، وأجبرنا على السير باتجاه الشجاعية، وكانت هناك نقاط تفتيش عديدة على طول الطريق، وكانت الدبابات تثير الغبار حولنا”.
ويختم بالقول: “تمكنا من الوصول إلى هناك، لكن كان هناك شهداء وجرحى لم يتمكن أحد من مساعدتهم على طول الطريق”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)