بقلم مهند عياش
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تكشف حالات العنف الجماعي والفظائع الكثير من الأشياء عن حقائق العالم، وتكشف أيضاً عن علاقات القوة في أكثر أشكالها وحشية، حيث نتعلم أين تقف الدول بالفعل حيال القضايا المثيرة للجدل، وكيف تستفيد الهياكل الاقتصادية من القتل الجماعي، وكيف تعاني المؤسسات الثقافية والاجتماعية من النفاق، حيث تزعم أنها تعمل من أجل التنمية الإنسانية فيما تسمح باستمرار تدمير حياة البشر.
لقد ظهر الكثير من التحليل لهذه النقاط منذ بداية الحرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في غزة، والتي امتدت إلى الضفة الغربية المحتلة، إن هذا التحليل يكشف عن حقيقة مقلقة مفادها أن المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وخاصة في الغرب، تهتف للإبادة الجماعية.
لقد رأينا صوراً ومقاطع فيديو لإسرائيليين يضحكون ويسخرون ويحتفلون جماعياً بتدمير الحياة الفلسطينية، ويدعون إلى المزيد من المذابح وتدمير البنية الأساسية الحيوية، لكن مثل هذا التشجيع المؤيد للحرب يحدث خارج دولة الاحتلال أيضاً.
إذ تزدحم المظاهرات المؤيدة للاحتلال في مختلف أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية وكذلك التصريحات التي يدلي بها الساسة وأنصارهم من جميع الأطياف بالأمثلة على تشجيع الإبادة الجماعية التي بلغت حداً من الاشمئزاز الأخلاقي لدرجة أنها اكتسبت معارضة كبيرة.
وتبدو أشكال الدعم غير المباشرة للإبادة الجماعية أكثر انتشاراً، من قبيل أن يعرب البعض عن أسفهم لفقدان حياة الفلسطينيين، ولكنهم يعتبرون أنهم هم من جلبوا هذا على أنفسهم، إن وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بالرسائل العنيفة التي تصور الاحتلال على أنه يقوم بعمل “قذر، ولكنه ضروري”، باعتباره ناجماً عن عنف فلسطيني غير عقلاني ومدمر للذات.
ولكن ربما يكون الأكثر تدميراً هو التناقض العام تجاه الإبادة الجماعية، والذي في النهاية، هو وسيلة أخرى للتشجيع عليها لأنه لا يتم فعل أي شيء لوقفها.
أفضل مصدر للضغط
ومن تجربتي، فإن هذا هو المكان الذي يكمن فيه العديد من الأشخاص الذين يشغلون مناصب صنع القرار داخل المؤسسات وخاصة في الجامعات، حيث تسمع غالباً خلف الأبواب المغلقة أن كبار الإداريين يعتقدون أن الوضع في فلسطين مأساوي، ولكن ليس هناك ما يمكنهم فعله لوقف ذلك.
وفي نهاية المطاف، فإن حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) هي المسار الوحيد الجوهري والفعال للمؤسسات، ذلك أن الاحتلال لن يستجيب لكلمات الإدانة ولا يستجيب إلا للضغوط الاقتصادية والسياسية المادية.
واليوم، تقدم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات أفضل مصدر لهذا الضغط، ففقط عندما ترفع القوة الجماعية للشعب تكلفة الإبادة الجماعية، ستتوقف دولة الاحتلال الاستعمارية الاستيطانية عن ارتكابها، أما الطريقة الأخرى والوحيدة لوقف الإبادة فهي شن الحرب على الاحتلال، ولا يوجد خيار ثالث.
يسارع العديد من مسؤولي الجامعات إلى رفض حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات باعتبارها نشاطاً غير ممكن ولا ينبغي تبنيه، ويأتي هذا عادة تحت ذريعة “الواقعية” و”الدقة” و”الاهتمام بسلامة” المجتمعات اليهودية في الغرب، لكن مثل هذه المبررات الحداثية فارغة، وقد تم فضحها تماماً من قبل العلماء والناشطين لعقود من الزمن.
هذه ليست حجة فكرية، بل هي محاولة لإخفاء المصلحة الذاتية المطلقة، فحتى لو اعتقد الناس أن قرارهم بتجنب المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات يستند إلى المجازات المذكورة أعلاه، فإن الحقيقة هي أن السبب الحقيقي وراء تقاعس معظمهم عن العمل بشأن فلسطين هو أنهم لا يرون أن مناهضة الاحتلال تصب في مصلحتهم الذاتية، كأفراد أو كممثلين للمؤسسات.
ليس سراً أن جماعات الضغط المؤيدة للاحتلال تعمل بمبدأ العصا والجزرة، فهي تحض على ردود فعل عنيفة متسلحة بتهمة معاداة السامية لمجابهة مناهضيها خدمة لدولة الاحتلال، وبالتالي فإن تجنب ردود الفعل العنيفة والضرر الذي قد تسببه هذه المنظمات للمؤسسات والمهن هو السبب الرئيسي لتجنب المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
ولا شك أيضاً أن لدى بعض الجامعات حافز اقتصادي للحفاظ على علاقاتها واتفاقياتها واستثماراتها مع المؤسسات الإسرائيلية والأجهزة المختلفة للآلة الإمبريالية الأوروبية الأميركية التي تدعمها، مثل صناعات الأسلحة والدفاع.
ولكن حتى الجامعات التي لا تربطها مثل هذه العلاقات غير راغبة في تبني حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، وهو الموقف الذي لا يمكن تفسيره منطقياً إلا بخوفها من هجمات جماعات الضغط والحكومات المؤيدة للاحتلال.
وكمثل إسرائيل نفسها، لا أعتقد أن مثل هؤلاء الأفراد يمكن إقناعهم بالعدول عن هذا المسار من خلال الإدانة الأخلاقية أو الحجج الفكرية، بل يجب ممارسة الضغط عليهم أيضاً.
أزمة الشرعية
إذن، ما نوع الضغوط التي يمكن تطبيقها على الجامعات ونقابات أعضاء هيئات التدريس لتبني حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات؟ ببساطة، إن مصلحتهم الذاتية هي تجنب أزمة الشرعية.
فعلى نحو متزايد، لا يكتفي الناشطون الطلابيون بتسمية الجامعات في الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة ودول أخرى وفضح عدم التزامها بمبادئها الخاصة عندما يتعلق الأمر بحقوق الفلسطينيين.
وبدلاً من ذلك، يصف الطلاب هذه المؤسسات بأنها متواطئة في استعمار فلسطين والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
ومع استمرار الجامعات الغربية في تجاهل مطالب الجمهور، فإن التأثير يشكل تحدياً لشرعية هذه المؤسسات ذاتها.
ونحن نشهد الآن تحولًا في الخطاب العام، حيث أصبح المزيد من الناس ينظرون إلى هذه الجامعات باعتبارها أجهزة للاستعمار والعنصرية والإمبريالية وهو ما يتوافق مع ما زعمه العديد من الباحثين والناشطين الفلسطينيين والسكان الأصليين والسود والمناهضين للإمبريالية لعقود من الزمن.
ومن المرجح أن يتسع هذا الخلاف بين الطلاب والجامعات إذا استمرت هذه المؤسسات في تجاهل مطالب المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات
وبدون ضغوط، حسبت دولة الاحتلال أنه ليس هناك ما تخسره بارتكاب الإبادة الجماعية، وإذا استمرت الجامعات في قمع المطالب بالعدالة، فإن الدعوة إلى “حرق كل شيء” سوف تزداد قوة، حتى يحدث هذا بالفعل، ليس من خلال الحرق الحرفي، ولكن من خلال سحب الناس لدعمهم ومشاركتهم في هذه المؤسسات.
يمكن أن يتخذ هذا الضغط أشكالًا عديدة، لكن النتيجة النهائية هي نفسها وهي أزمة الشرعية.
لتجنب هذه النتيجة، يجب على الجامعات أن تبدأ في العمل معاً والاستجابة لمطالب الطلاب القادرين على فرض ضغوط حقيقية على حكوماتهم في ظل تحالف قوي.
وربما يفضي نهج الجامعات الحالي المتمثل في تشويه سمعة المحتجين من الطلبة، والعمل بشكل وثيق مع الحكومات لقمع حراكاتهم إلى النتائج المرجوة في الأمد القريب، ولكن الأحداث الأخيرة غيرت الوعي السياسي لدى عامة الناس لفترة طويلة قادمة.
يعلمنا التاريخ أن نظرة الجمهور إلى مؤسساته باعتبارها فاقدة للشرعية يترتب عليها عواقب غير متوقعة، وعندما يحدث هذا، فلن يكون أمام الجامعات إلا أن تلوم نفسها ولابد وأن نتذكر اللحظة التي رحبت فيها بإبادة جماعية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)