بقلم يورجن ماكيرت
ترجمة وتحرير مريم الحمد
خلال خطاب ألقته أمام البرلمان الألماني قبل أسبوعين، دافعت وزيرة الخارجية الألمانية، آنالينا بيربوك، عن قتل إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين.
من جانبها، سارعت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، إلى إدانة تصريحات بيربوك، محذرة من أنه إذا “قررت ألمانيا الوقوف إلى جانب دولة ترتكب جرائم دولية، فهذا خيار سياسي، لكن له آثاراً قانونية أيضاً”.
لم تكن هذه الأفكار إذن مجرد اختراع من قبل النازيين، ولم يتم تطبيقها لأول مرة على اليهود الأوروبيين، فقد كانت مواقف ألمانيا الاستعمارية الاستيطانية تجاه الأفارقة هي السبب الحقيقي وراء رسم الحدود بين “نحن” وهو العرق الألماني، و”هم” أي الناما التي كانوا يستخدمونها لوصف سكان ناميبيا باعتبارهم دون البشر، وبذلك كانوا ضحايا أول إبادة جماعية في ألمانيا في أوائل القرن 20
تعتبر هذه الحادثة ببساطة أحدث الأمثلة على الدعم الكبير الذي تقدمه ألمانيا لحملة الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة، حيث انتقد الكثيرون ألمانيا بسبب موقفها المؤيد لإسرائيل وإجراءاتها القمعية التي تشمل الرقابة واعتقال الناشطين ومداهمات الشرطة وحظر الكوفية في المدارس وقمع الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين.
بعد مرور أكثر من عام على الإبادة، ظلت ألمانيا كما تعهد المستشار أولاف شولتس بعد 7 أكتوبر عام 2023، في “المكان الوحيد الذي يمكن أن تكون فيه، إلى جانب إسرائيل”.
وإذا أردنا أن نفهم الأسباب التي قد تدفع ألمانيا موقف كهذا، حتى وإن كان ينطوي على عواقب قانونية نتيجة التواطؤ مع إسرائيل، فيتعين علينا أن ننظر إلى ما وراء المزاعم الرسمية ومن هي القوى الدافعة الفعلية وراء الدعم الألماني المطلق للمذبحة التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
ماضٍ لم يتم حله
تفتخر ألمانيا بأنها تعلمت الدروس من تاريخها جيداً، إلا أنها وقعت رغم ذلك في معضلة غير قابلة للحل، وهي معضلة تتجلى بوضوح من خلال الدعم المستمر الثابت لإسرائيل في جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاستعمار وغزو الدول ذات السيادة!
تبدأ الحجة الرسمية من ارتكاب ألمانيا محرقة اليهود الأوروبيين، وهو ما يعني من ناحية أن هناك نوعاً من الخطيئة الجماعية التي ترثها جميع الأجيال الألمانية اللاحقة، ومن ناحية أخرى فإن تعلم الدرس يعني أن ألمانيا يجب أن تدعم إسرائيل بكل إخلاص وبكل طريقة يمكن تصورها بغض النظر عن التكلفة.
طبقاً لهذه السردية التي أخبرت بها ألمانيا مواطنيها والعالم لعقود من الزمن رغم كونها بعيدة كل البعد عن الإقناع، تصبح ألمانيا بلا خيار، فإرثها المظلم يُلزمها بدعم إسرائيل مهما فعلت!
من خلال اختزال تاريخها الوحشي برمته في جريمة المحرقة، فقد فشلت ألمانيا في تفسير العنف الاستعماري الاستيطاني ضد الآخرين، وبالتالي، فهي لم تتعلم أي درس على الإطلاق، كما أن هذا الإغفال من حساباتها التاريخية هو الذي سمح لها بأن تتورط في حتمية دعم النظام الاستعماري الاستيطاني العنصري العدواني باعتباره علاجاً لأخطاء الماضي.
ربما تلخص عبارة ويليام فولكنر الشهيرة: “الماضي لم يمت أبداً، فهو لم ينته حتى”، بشكل أفضل الدرس الذي يجب على ألمانيا أن تتعلمه نتيجة لتواطئها في الإبادة الجماعية المستمرة في غزة.
استراتيجية بسيطة
المفارقة العجيبة هي أنه ومن خلال التوقف عند المحرقة، فقد حاولت ألمانيا إعفاء نفسها من المسؤولية عن جرائم تاريخية أخرى، ومن خلال زعمها أن المحرقة كانت بمثابة انهيار للحضارة، فقد أمضت ألمانيا عقوداً من الزمن في التظاهر بأن البلاد قد تصالحت مع تاريخها.
لقد كانت هذه الخطوة الإستراتيجية البسيطة بمثابة صورة لدولة متحضرة ومستنيرة ومسالمة، انقطع تاريخها فجأة بسبب 12 عاماً من الفاشية، وهي نظرة ضيقة غير منطقية على الإطلاق، فألمانيا النازية لم تسقط من السماء ولم تكن فاصلاً في الانهيار الحضاري غير المسبوق!
لم تكن الفاشية في ألمانيا بمثابة مفاجأة غير متوقعة حتى، بل كانت كما قال كارل بولاني عام 1944، هي “نتيجة لاعقلانية الحضارة الليبرالية في الغرب”، حيث أدى تحول المجتمعات إلى أسواق ذاتية التنظيم في القرن 19 إلى تدمير نسيجها الاجتماعي.
بالمقابل، ظهرت حركات مضادة تحاول حماية المجتمع، ولكن مع ذلك فقد انحدرت أجزاء كبيرة من أوروبا نحو الفاشية، وانحدرت ألمانيا نحو النازية.
وعلى نحو مماثل، اتضحت فاشية الشعب الألماني المتجذرة نتيجة للاستعمار الاستيطاني الوحشي في إفريقيا من عام 1884 إلى عام 1914، حيث ساهمت هذه الفترة في خلق عقلية عنصرية متعصبة للبيض حتى أصبحت طبيعية، وهي العقلية التي كان إلهاماً للمفهوم النازي عن الإنسان الأعلى الألماني باعتباره متفوقاً على الشعوب السلافية والروس واليهود وغيرهم الكثير.
لم تكن هذه الأفكار إذن مجرد اختراع من قبل النازيين، ولم يتم تطبيقها لأول مرة على اليهود الأوروبيين، فقد كانت مواقف ألمانيا الاستعمارية الاستيطانية تجاه الأفارقة هي السبب الحقيقي وراء رسم الحدود بين “نحن” وهو العرق الألماني، و”هم” أي الناما التي كانوا يستخدمونها لوصف سكان ناميبيا باعتبارهم دون البشر، وبذلك كانوا ضحايا أول إبادة جماعية في ألمانيا في أوائل القرن 20.
على عكس الهولوكوست الذي حصل خلال حكم الرايخ الثالث، فإن الإبادة الجماعية للشعب الناميبي لم تلعب أي دور في الذاكرة الجماعية الانتقائية لألمانيا، وهذا ليس مفاجئاً لأن القيام بذلك سوف يؤدي في النهاية إلى انهيار النظام الحاكم في ألمانيا.
إن التخلي عن أيديولوجية عنصرية واحدة لدعم أخرى بكل إخلاص سياسياً ومالياً وعسكرياً ودبلوماسياً لا يجعل المرء متصالحاً مع تاريخه، فبدلاً من أن تواضع ألمانيا أمام تاريخها المدمر والعنيف، تتناسى ذلك وتزيد من دعمها للمستعمرة الصهيونية
علاوة على ذلك، لن تكون ألمانيا قادرة على الحفاظ على صورتها التي تدعي فيها بأنها تعلمت من تاريخها، أو الاستمرار في تجاهل وإخفاء عشرات الآلاف من ضحايا سياساتها الإقصائية التي كانت سائدة خلال فترة إمبراطورية فيلهلمين، ولا إنكار وجود 27 مليون ضحية للغزو النازي للاتحاد السوفيتي.
رغم إثبات الإستراتيجية التي تبنتها ألمانيا لعزل المحرقة النازية عن هذا التاريخ الدموي نجاحها طوال السنوات السابقة، إلا أنها باتت الآن تواجه دعمها لواحدة من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية.
لقد كان المجتمع الألماني، الذي يضم الفلسطينيين واليهود المناهضين للصهيونية، يراقب إبادة جماعية يتم بثها مباشرة في غزة كل يوم لمدة 12 شهراً، ولذلك لن يصدقوا بعد الآن القصص الرسمية حول ذنب ألمانيا والتزامها بدعم النظام الإسرائيلي، ولن ينسى الألمان ادعاءات بيربوك الكاذبة الصريحة، ثم شولتز، الذي ساعد في البروباغندا من خلال الزعم بأنه شاهد شريط فيديو مزعوم لمقاتلي حماس وهم يغتصبون نساءً يهوديات، وهو الأمر الذي لم يجد دليلاً عليه حتى في تحقيقات الأمم المتحدة.
فشل مؤسسي
إن تجرد الحكومة الألمانية من إنسانيتها تجاه الفلسطينيين متجذر بعمق في سياساتها، لدرجة أنها لا تمول جرائم الحرب الإسرائيلية فحسب، بل تذهب إلى حد منع الأطفال المصابين بجروح خطيرة من تلقي العلاج في ألمانيا، حيث تعتبرهم “تهديداً أمنياً”!
لقد قبلت ألمانيا تجريد البشر غير البيض من إنسانيتهم، وإعلان أن البشر حيوانات، وممارسة العقاب الجماعي، وتجويع الناس حتى الموت، وتركهم يموتون من العطش ودعمته ودافعت عنه من أجل المزيد، ولكن بعد مرور أكثر من عام الآن، يبدو أنها قد فضحت نفسها من خلال استحضار تاريخ إبادتها لقبائل ناما وهيريرو في ناميبيا، فضلاً عن حرب الإبادة النازية في أوروبا الشرقية وروسيا.
لا تزال عقلية “الإنسان المتفوق” هذه سائدة حتى اليوم، رغم إنكار وجودها رسمياً، فالضحية التي كانت في السابق السكان الأصليين في ناميبيا أو الشرق الأوروبي وروسيا، قد أصبحت الآن العرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص.
إن التخلي عن أيديولوجية عنصرية واحدة لدعم أخرى بكل إخلاص سياسياً ومالياً وعسكرياً ودبلوماسياً لا يجعل المرء متصالحاً مع تاريخه، فبدلاً من أن تواضع ألمانيا أمام تاريخها المدمر والعنيف، تتناسى ذلك وتزيد من دعمها للمستعمرة الصهيونية.
إن تواطؤ ألمانيا في الإبادة الجماعية يُظهر أن الماضي في ألمانيا ليس حتى ماضياً، فالتعامل الانتقائي مع الماضي الذي يركز فقط على الإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين البيض لم يأتِ على الدولة والمجتمع بأي تقدم يذكر.
بدعمها لإسرائيل، تكرر ألمانيا ماضيها الاستعماري الذي لم يتم حله أصلاً، وذلك من خلال جميع الجهات الفاعلة أو المنظمات أو المؤسسات الحاسمة، وأهمها الحكومة الفيدرالية التي يشمل دعمها غير المشروط لإسرائيل مستشاراً ووزيراً للخارجية وسفيراً إلى إسرائيل، وجميعهم يواصلون إنكار جرائم إسرائيل.
إضافة إلى ذلك، وبعد أن اعتمدت الحكومة وقامت بتعميم تعريف التحالف الدولي لمعاداة السامية في سبتمبر عام 2017 بقرار من مجلس الوزراء، فقد التزم البرلمان نفسه بالتعريف في قرار صدر في عام 2018، ومن المتوقع أن يتبنى البرلمان نفسه قراراً تحت عنوان: “لن يحدث ذلك مرة أخرى أبداً:حماية الحياة اليهودية في ألمانيا والحفاظ عليها وتعزيزها”.
إنها دولة التفوق العنصري من الناحية العرقية والدينية معاً، وهي دولة ارتكبت التطهير العرقي والفصل العنصري، ثم تحولت مثل العديد من المستعمرات الاستيطانية التي سبقتها، إلى دولة إبادة جماعية فاشية
تجدر الإشارة هنا إلى أنه كما قامت ألمانيا باختزال ضحايا النازية بضحايا جريمة المحرقة فقط، كذلك يفعل البرلمان الألماني اليوم، ففي حين تقوم الأحزاب السياسية والسياسيون الأفراد، إلى جانب وسائل الإعلام، بنشر الدعاية المناهضة للعرب والمسلمين، فقد اختزلت ألمانيا الشعار العالمي المناهض للفاشية إلى أداة سياسية تمنح امتيازات لمجموعة واحدة فقط بينما تترك كل المجموعات الأخرى دون حماية، وبذلك لا يحق للفلسطينيين المطالبة بالحماية.
لقد سارعت العديد من مؤسسات النخبة الحكومية والأكاديمية الألمانية إلى تكرار الدعاية الإسرائيلية منذ بداية الإبادة الجماعية، فلم نقرأ كلمة واحدة عن هذه المؤسسات النخبوية حول ما يصل إلى 200 ألف شهيد أو نحو ذلك من الفلسطينيين في غزة.
قامت الجامعات بإلغاء الدعوات للضيوف وقامت مؤسسات النخبة بطرد الأساتذة الضيوف، كما قامت مؤسسات أخرى برفع ميزانية الشراكات مع الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية ووضع برامج تعاون جديدة، مع العلم أنها جزء لا يتجزأ من الاحتلال والإبادة الجماعية.
أما الكنائس الألمانية، التي تعتبر نفسها في طليعة التفوق الأخلاقي، لم تنبس ببنت شفة عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، ولا حتى عندما تعرض المسيحيون الفلسطينيون للهجوم أو القتل، فالفلسطينيون بالنسبة لهم ليسوا بيضاً بما يكفي ليستحقوا الدفاع عنهم.
علاوة على ذلك، لم يذكر مجلس الأخلاق الألماني، الذي يدعي أنه “يتعامل مع قضايا الحياة الكبرى” والذي توفر آراؤه وتوصياته “توجيهاً للمجتمع والسياسة”، كلمة واحدة خلال هذا العام المرعب.
يمكن أن نذكر رواد “الثقافة الألمانية” ووسائل الإعلام باعتبارهم حماة الثقافة الكبار، الذين عبروا منذ سنوات عن رعبهم من تدمير داعش لتدمر وغيرها من المواقع الثقافية، ولكن يبدو الآن أنهم لا يهتمون على الإطلاق بالتدمير الهمجي الذي تقوم به إسرائيل لمدينة تدمر التراثية في غزة.
إذا كانت الإبادة الجماعية لا تستحق المناقشة، فماذا يستحق ذلك إذن؟!
معايير مزدوجة
إن نظرة على “وسائل الإعلام” الألمانية تكشف المزيد، فلا أبالغ إن قلت أن الجميع في ألمانيا قد فشلوا فشلاً ذريعاً خلال العام الماضي، وبدلاً من القيام بعملهم وانتقاد الحكومة والنخب السياسية وتقديم وجهات نظر بديلة وتحفيز النقاش الصادق، فقد فضلوا دعم الإبادة، حتى قاموا ببعض الأحيان بإدانة الفلسطينيين المذبوحين، وفعلوا ذلك بلغة دنيئة لم تخلُ من الإشارة إلى المحرقة أو التاريخ الألماني.
لا يمكن تفسير كل ذلك ببساطة إلا بأنه منهج “المعايير المزدوجة”، فنحن نرى عقلية استعمارية استيطانية متجذرة في المؤسسات والمنظمات الألمانية ولم تتم مواجهتها منذ قرن من الزمان.
إن ثقافة إحياء ذكرى الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون وتعريف اليهود الأوروبيين البيض باعتبارهم المجموعة الوحيدة من الضحايا التي تستحق تعريف هذه الذاكرة الجماعية، قد جعلت من ألمانيا مؤيداً لنظام كان يمثل حالة من الرعب منذ البداية.
إنها دولة التفوق العنصري من الناحية العرقية والدينية معاً، وهي دولة ارتكبت التطهير العرقي والفصل العنصري، ثم تحولت مثل العديد من المستعمرات الاستيطانية التي سبقتها، إلى دولة إبادة جماعية فاشية.
ما دامت ألمانيا مصرة على الامتناع عن مواجهة مخلفات عقليتها الاستعمارية الاستيطانية، فسوف تظل عالقة في دعم الإبادة الجماعية، التي تُعَد، وفقاً لـ رافائيل ليمكين، الأسوأ على الإطلاق.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)