غزة لا تأبه بترامب أو هاريس.. همّها الوحيد البقاء على قيد الحياة

بقلم أحمد نجار

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

قبل يوم واحد من الانتخابات الأمريكية تحدثت إلى عائلتي في غزة وذلك بعد أيام من الصمت والانتظار الذي لا يطاق، ومع كل ساعة تمر كان خوفي يزداد، وأخيراً عندما سمعت صوت ابن أخي شعرت بالارتياح، لكن سرعان ما تحول ارتياحي إلى حزن، فهو في عمر 21 عامًا فقط، لكن صوته يحمل حزنًا وإرهاقًا يتجاوزان سني عمره.

وبنبرة جوفاء ومستسلمة سألني: “هل يهم من يفوز؟ دونالد ترامب أو أي شخص آخر لا يهم، هل سينهي هذه الحرب؟”، لقد قطعت كلماته خط الهاتف، لتعكس عجزه عن التصديق بأن أي أحد خارج غزة قد يهتم بما يكفي لإنهاء الأهوال التي يكابدها الفلسطينيون يومياً في القطاع المحاصر.

ثم أضاف، وهو يخاطب نفسه تقريباً: “ربما يكون من الأفضل أن يفوز ترامب، على الأقل سينهيها بطريقة أو بأخرى، إما أن يسمح لإسرائيل بإسقاط قنبلة والقضاء علينا، أو سيجبرها على وقف القتل، على أية حال قد يفعل شيئاً لإنهاء هذا الألم.

أيقظت كلماته الآلام في صدري، فلم أستطع أن أصدق ما سمعته، شاب بالكاد بلغ سن الرشد يتحدث وكأن الفناء هو الرحمة الوحيدة المتبقية، وكأن أسرع طريق قد يكون لها هو إنهاء كل شيء.

بذلت جهدي للحفاظ على ثبات صوتي وكبح جماح الارتعاش في نبرتي وكسوتها بابتسامة رغم أنه لم يستطع أن يرى ذلك، وأجبت: “لا، سوف يدعو إلى السلام، وسيتعين عليه وقف هذه الحرب، وسوف تتحسن الأمور، وسوف نعيد بناء غزة، سترى”.

لم يرد على كلامي بأكثر من الصمت، وقد شعرت بأنه لم يصدقني، وعندما تحدث أخيرًا، كان صوته يجمع مزيجًا من عدم التصديق المرير واليأس الهادئ، فقال: “تقول ذلك لأنك لا تستطيع أن ترى ذلك، هناك الكثير من الدمار، ولكن ربما إذا توقفوا عن القتل، فربما نتمكن من إعادة البناء، لا أدري، الناس هنا يائسون، إنهم يريدون فقط أن تنتهي الأمور بأي ثمن، وبأي تكلفة، المعاناة شديدة، والأحلام هنا لا تتعلق إلا بأبسط الأشياء، زوج جديد من الأحذية، هل تعرف كيف يكون ذلك؟

روح محطمة

ماذا يمكنني أن أقول في هذا؟ في عالم بعيد، أعيش في راحة، لم يكن لدي ما أقدمه سوى الكلمات، ومع ذلك، فإن ثقل يأسه وصدقه البريء وتوسله جعلني أصمت، كان بإمكاني أن أشعر بعجزي ينهار من حولي.

حاولت توجيه محادثتنا نحو السياسة، أي شيء قد يصرف انتباهه أو يوفر له قدرًا من الشعور بالحياة الطبيعية، ولكنني سرعان ما أدركت أن السياسة أصبحت ترفاً لم يعد أهل غزة قادرين على تحمله، فلم يعد لديهم الوقت للمناقشة أو التحليل أو التفكير في الاستراتيجيات، ولم يتبق لهم من الإيديولوجية سوى البقاء على قيد الحياة، العثور على المياه النظيفة، والبحث عن الخبز، والبقاء في أمان ليوم آخر، وما يهمهم هو النفس التالي، وليس الانتخابات القادمة، لقد أصبح عالمهم الآن مجرد بقاء يومي.

وصلت المعاناة في غزة إلى مستوى لا يمكن فهمه، لقد أصبحت الروح الفلسطينية، التي كانت غير قابلة للكسر ذات يوم، ضعيفة ومحطمة بسبب اعتداءات الاحتلال المتواصلة، ولم يعد الناس يطلبون الانتصارات أو الحلول الكبرى، إنهم يريدون فقط نهاية للألم، ولحظة للتنفس دون خوف.

لا يزال بعض أصدقائي من غزة قادرين على النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، إنهم يعرفون أن ترامب قريب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأن نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس وقفت إلى جانب ممارسات الاحتلال، ولكن في هذه المرحلة، لا شيء من هذا مهم، إنهم لا يهتمون بمن هو في السلطة، إنهم لا يبحثون عن تحالف سياسي، إنهم يريدون شخصًا، أي شخص، لإنهاء الإبادة الجماعية.

حقيقة أكثر قتامة

هناك حقيقة أكثر قتامة من هذا، لقد تسربت لامبالاة العالم المستمرة تجاه معاناة غزة بعمق إلى نفسية شعبها لدرجة أن العديد منهم بدأوا يتساءلون عما إذا كانوا ملعونين، أو ما هو أسوأ، ما إذا كانوا يستحقون هذا بطريقة أو بأخرى.

لقد أخبرني أحد الأصدقاء مؤخراً: “ربما نحن من جلبنا هذا على أنفسنا، وربما كان ذلك خطأنا”، هل يمكنك أن تتخيل؟ الناس الذين يعانون من فظائع لا توصف بدأوا يعتقدون أن هذه المعاناة هي عقاب لهم، أنا أريد أن أؤمن بمستقبل لا يرى ابن أخي فيه الموت كمخرج وحيد، بل يرى الحياة كشيء ثمين، شيء يستحق أن يُعاش.

أردت أن أخبره أن هذا غير صحيح، وأن كل هذا لم يكن خطأهم، أردت أن أصرخ بها في جميع أنحاء العالم حتى لا يعتقد أحد في غزة أنهم يستحقون هذا، لكنني أفهم وجهة نظره، عندما تحيط بك الآلام، ويغمض العالم عينيه، تبدأ في التفكير: “ربما كنت أنا المشكلة”، إنها فكرة رهيبة ومظلمة تسللت إلى عقول الكثير من الناس الذين أحبهم.

عندما تحدثت مع ابن أخي، شعرت بثقل هذا اليأس على كاهله، ظلت كلماته عالقة في ذهني لفترة طويلة بعد أن ودعنا، لم يعد أهل غزة يطلبون الكثير بعد الآن، إنهم لا يطالبون بالعدالة، بل لقد تجاوزوا ذلك، إنهم يريدون فقط وضع حد لمعاناتهم، إنهم يريدون فقط أن تكون معاناتهم ذات أهمية كافية لوضع حد لها.

اللعبة الجيوسياسية

والآن فاز ترامب، لقد تحول العالم مرة أخرى، وها هي إدارة أمريكية جديدة تتولى زمام الأمور، لكن صدى السؤال مازال يتردد بلا نهاية: هل سيضعون حداً لهذه المعاناة؟ هل سينظرون إلى ما هو أبعد من السياسة، وما هو أبعد من التحالفات، ويدركون أن شعب غزة أكثر من مجرد بيادق في لعبة جيوسياسية؟ هذه حياة بشرية مليئة بالأحلام التي دُفنت تحت الأنقاض، والآمال التي تحطمت مراراً وتكراراً.

أريد أن أصدق أن هناك أملاً، ربما، وربما فقط، يرى شخص ما أخيراً إنسانية غزة ويتحرك لإنهاء هذا الكابوس، أريد أن أصدق أن عائلتي، وكل عائلات غزة، ستنجح في النجاة، أريد أن أتخيلهم يسيرون في شوارع غزة مرة أخرى ذات يوم ليس كناجين من إبادة جماعية لا نهاية لها، ولكن كأشخاص سُمح لهم أخيراً بالعيش في سلام.

ولكن بعد ذلك أستيقظ وقلبي ينبض بقوة، يهزني الواقع كصدمة كهربائية، ترامب في السلطة مرة أخرى، ومع ذلك، أتمسك بشيء، أي شيء، قد يمنحني الأمل، أفكر في مثل عربي قديم يعزيني في هذه اللحظات المظلمة: “أحيانًا تتفتح الورود من الشوك”، وعلى الرغم من كل شيء، أريد أن أصدق ذلك، يجب أن أصدق ذلك.

في النهاية، هذا كل ما لدي، الأمل الهش في أن يتحرر شعب غزة ذات يوم من هذه المعاناة، وأن تكون حياتهم أكثر أهمية من السياسة التي حاصرتهم لفترة طويلة.

أريد أن أؤمن بمستقبل لا يرى فيه ابن أخي الموت كمخرج وحيد، بل يرى الحياة كشيء ثمين، شيء يستحق العيش، أتمسك بهذا الأمل، معتقدًا أن العالم سوف يستيقظ على معاناة غزة ويقول أخيرًا “كفى”.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة