بقلم جودت بهجت
ترجمة وتحرير مريم الحمد
مع اقتراب الرئيس المنتخب دونالد ترامب وفريقه من تولي مهامهم في يناير 2025 القادم، فإن هناك الكثير من التكهنات حول الكيفية التي يعتزم بها هؤلاء معالجة التحديات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، بما في ذلك الحروب المستمرة في غزة ولبنان وعملية التطبيع المجمدة بين إسرائيل وبعض الدول العربية والعداء المحتقن مع إيران.
من خلال دراسة نمط السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى، يمكن استنتاج أن أي تغيير من المرجح أن يكون تدريجياً وليس تحويلياً، فالسياسة الخارجية الأمريكية لطالما كانت دائماً مدفوعة بمزيج من القيم والمصالح الوطنية المتصورة.
لقد تحطم توازن القوى الإقليمي الهش هذا منذ أكتوبر عام 2023، وبدعم أمريكي غير مشروط، وجهت إسرائيل ضربة قوية لحماس وحزب الله، ولكن الأمر سوف يستغرق بعض الوقت لتقديم تقييم دقيق للعمليات العسكرية الإسرائيلية في كل من غزة ولبنان
من المرجح أن تعطي إدارة ترامب الثانية، مثل الأولى، الأولوية لمعطيات الظروف الحالية، ومن المؤكد أنها ستكون أكثر حزماً في ملاحقة ما تعتبره النخبة السياسية في واشنطن، سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين، أهدافاً رئيسية للأمن القومي الأمريكي.
منذ قيام إسرائيل عام 1948، قدمت الولايات المتحدة ما يقرب من 160 مليار دولار من المساعدات الخارجية والدعم الدبلوماسي، وقد كان هذا التحالف غير الرسمي الصارم ثابتاً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بغض النظر عمن يشغل البيت الأبيض أو الحزب السياسي الذي يسيطر على الكونغرس.
تؤيد واشنطن، مثل بقية دول العالم، حل الدولتين على الصعيد الرسمي، ومع ذلك عمل المستوطنون والسياسيون اليمينيون في إسرائيل على توسيع المستوطنات، مما أدى بطبيعة الحال إلى تقويض أسس دولة فلسطينية قابلة للحياة.
علاوة على ذلك، فقد نجح ترامب وإدارته في الأشهر الأخيرة من ولايته في إقناع الإمارات والبحرين بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، كما انضم المغرب والسودان إلى هذه العملية أيضاً، واتبعت إدارة بايدن استراتيجية مماثلة، حتى أنها سعت إلى تحفيز السعودية على أن تحذو حذو الدول التي طبعت.
حرب الظل
منذ الإطاحة بسلالة بهلوي عام 1979، اعتبرت الولايات المتحدة جمهورية إيران الإسلامية الجديدة آنذاك خصمها الرئيسي في الشرق الأوسط، حيث تخضع طهران منذ أكثر من 4 عقود لعقوبات أمريكية شديدة وشاملة.
الحقيقة أن الجهود التي بذلها الرئيس باراك أوباما لاحتواء التوترات مع إيران وإبطاء تقدم برنامجها النووي باءت بالفشل، وذلك بسبب الافتقار إلى الدعم من كل من الجمهوريين والديمقراطيين لتلك الخطوة.
بعد الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2018، نفذ ترامب استراتيجية “الضغط الأقصى” ضد إيران، ولم يتم رفع العقوبات في عهد بايدن، إلا أن التنفيذ كان أقل صرامة مما كان عليه في عهد سلفه.
من المرجح أن تسعى إدارة ترامب الجديدة بقوة إلى متابعة هذه المواضيع، من الدعم الثابت لإسرائيل ومضاعفة الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية والعودة إلى سياسة الضغط الأقصى تجاه إيران.
لقد تسبب إصرار نتنياهو غير الواقعي وغير القابل للتحقيق على الهزيمة الكاملة لحماس وحزب الله، في زيادة عزلة إسرائيل على المستويين الإقليمي والدولي
لقد أثبت الأمر الواقع أن الشرق الأوسط لا يتفاعل فقط مع التغيرات في واشنطن، فقد تختلف الديناميكيات الإقليمية التي سوف يواجهها ترامب في إدارته الثانية بشكل كبير عن تلك التي تركها في أوائل عشرينيات القرن الحالي.
كانت القراءة السائدة قبل 7 أكتوبر عام 2023، هي أن إيران وإسرائيل قد أقامتا توازن قوى أو توازناً استراتيجياً في “حرب ظل” قائمة بينهما، ولذلك لم تكن الحرب بين إسرائيل وحزب الله أمراً متوقعاً، نظراً للثمن الباهظ الذي سيدفعه الطرفان.
في الوقت نفسه، حافظت بعض الدول العربية وتركيا على مستوى من التفاعل الاقتصادي والدبلوماسي مع كل من إيران وإسرائيل.
لقد تحطم توازن القوى الإقليمي الهش هذا منذ أكتوبر عام 2023، وبدعم أمريكي غير مشروط، وجهت إسرائيل ضربة قوية لحماس وحزب الله، ولكن الأمر سوف يستغرق بعض الوقت لتقديم تقييم دقيق للعمليات العسكرية الإسرائيلية في كل من غزة ولبنان.
إسرائيل قوة مهيمنة إقليمياً
بغض النظر عن التقييم، إلا أن هناك 3 نتائج مترابطة وواضحة حتى الآن، أولها أنه على الرغم من التفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي، إلا أن حماس وحزب الله يبديان مقاومة شرسة تسببت في خسائر عسكرية فادحة لإسرائيل، ورغم اغتيال العديد من كبار القادة والغارات الجوية المكثفة في غزة ولبنان وسوريا واليمن وإيران، لم يلوح أحد بالعلم الأبيض.
الأمر الثاني هو أنه وفي إطار سعيه للحفاظ على ائتلافه الحاكم والتمتع بالدعم الكامل من قبل واشنطن، فقد اتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مواقف متشددة مما أدى إلى فشله في صياغة استراتيجية سياسية، حيث يصر على هزيمة حماس وحزب الله بشكل كامل وإقامة نظام إقليمي جديد، ولكن اعتماد إسرائيل المفرط على القوة العسكرية أدى إلى زيادة عزلتها في الشرق الأوسط وفي النظام الدولي.
ثالثاً، كان على القوى الإقليمية الأخرى أن تستجيب لهذه الديناميكيات الاستراتيجية المتغيرة، فقد أدى المستوى غير المسبوق من الدمار في غزة ولبنان ومقتل الآلاف من المدنيين إلى تأجيج الغضب العربي والمسلم تجاه إسرائيل، كما أن الزعماء الإيرانيون والأتراك والعرب يعارضون بشدة قيام نظام إقليمي بديل، تكون فيه إسرائيل هي القوة المهيمنة.
ينبغي لإدارة ترامب الثانية أن تتعلم من هذه التجارب، فصعود إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة لن يكون مقبولاً من قبل جيرانها، الأمر الذي يغذي عدم الاستقرار في الشرق الأوسط ويهدد المصالح الوطنية الرئيسية للولايات المتحدة
لقد فشلت القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، في وقف هذا الاستخدام المفرط للقوة العسكرية، فقد برزت إسرائيل باعتبارها القوة المهيمنة الإقليمية غير المقيدة في هذه الحرب.
وفي المقابل، فإن القادة في طهران وأنقرة والرياض والعواصم العربية الأخرى بدأوا بإعادة تقييم استراتيجياتهم من أجل مواجهة العمليات العسكرية الإسرائيلية الموسعة وغير المقيدة واستعادة توازن القوى الإقليمي.
وقد صرح رئيس المجلس الاستراتيجي الإيراني للعلاقات الخارجية، كمال خرازي، مؤخراً بأن التغيير المحتمل في العقيدة النووية للبلاد أمر وارد إذا واجهت طهران تهديداً وجودياً، كما أن إيران تخطط لتوسيع ميزانية الدفاع بشكل كبير للسنة المالية المقبلة.
من جانبه، فقد حذر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أن إسرائيل قد تهاجم تركيا وتعهد بزيادة قدرات بلاده الصاروخية بعيدة المدى.
دروس تاريخية مهمة
قبل 7 أكتوبر 2023، كان اتفاق التطبيع بين السعودية وإسرائيل قريباً، حيث صرح ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بأن “اتفاق التطبيع يقترب كل يوم”، ولكن بعد مرور عام، فقد اتهم وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
اليوم وبعد وقت قصير من فوز ترامب في الانتخابات، التقى قائد القوات المسلحة السعودية، فياض الرويلي، في طهران مع نظيره الإيراني، محمد حسين باقري، لمناقشة التعاون العسكري.
لن يختفي التنافس الإقليمي بين تركيا وإيران والدول العربية فجأة، ولكن التصريحات والتحركات التي أدلى بها الزعماء الإقليميون في الأشهر القليلة الماضية تشير إلى الاستياء المتزايد من فكرة صعود إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة.
لقد تسبب إصرار نتنياهو غير الواقعي وغير القابل للتحقيق على الهزيمة الكاملة لحماس وحزب الله، في زيادة عزلة إسرائيل على المستويين الإقليمي والدولي، كما ساهم موقفه المتشدد في تهدئة التوترات بين القوى الإقليمية الأخرى مثل إيران وتركيا والدول العربية.
لقد أعطى دعم الولايات المتحدة “الثابت” لإسرائيل نتنياهو تفويضاً مطلقاً لتحقيق أهدافه العسكرية دون عواقب، ولكن التاريخ يعلمنا دروساً مهمة، ففي عام 1956، رفض الرئيس دوايت أيزنهاور الاحتلال الإسرائيلي لسيناء وأجبرها على الانسحاب، وبعد عقدين من الزمن، أعاد الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية هنري كيسنجر توازن القوى بين مصر وإسرائيل بعد انتهاء حرب عام 1973، وتمكنا من تمهيد الطريق أمام البلدين لتوقيع معاهدة سلام.
ينبغي لإدارة ترامب الثانية أن تتعلم من هذه التجارب، فصعود إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة لن يكون مقبولاً من قبل جيرانها، الأمر الذي يغذي عدم الاستقرار في الشرق الأوسط ويهدد المصالح الوطنية الرئيسية للولايات المتحدة.
منذ فوزه بالانتخابات، فقد رشح ترامب عدداً من السياسيين المتشددين مثل السيناتور ماركو روبيو كوزير للخارجية، والنائبة إليز ستيفانيك كسفيرة لدى الأمم المتحدة، وهذه اختيارات إنما تدلل على أن الإدارة الجديدة قد لا تسعى إلى استعادة توازن القوى الإقليمي!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)