بعد أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت… على الولايات المتحدة أن تنأى بنفسها عن إسرائيل التي يتزايد سمها يوماً بعد يوم

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد مرت 6 أشهر كاملة منذ تقدم المدعي العام، كريم خان، بطلب إلى الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، وثلاثة من قادة حماس مات منهم اثنان على الأقل.

خلال هذه الفترة، قُتل أكثر من 9000 فلسطيني آخر في غزة تحت القصف الإسرائيلي الشرس والمجاعة، مع اقتراب إجمالي عدد القتلى الرسمي من 45000 فلسطيني!

أعتقد أن حقيقة أن تستغرق قضية كهذه، متوسط ​​الانتظار شهرين، 6 أشهر كاملة لكي يبت فيها قضاة الدائرة التمهيدية الثلاثة، ما هو إلا دليل على الضغط غير المسبوق الذي تعرضت له أعلى محكمة في القانون الدولي.

في المقابل، استغرق الأمر 3 أسابيع فقط قبل أن تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمفوضة الروسية لحقوق الطفل، ماريا ألكسيفنا لفوفا بيلوفا. 

“الهيئة لاحظت أيضاً أن القرارات التي تسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة أو زيادتها كانت في كثير من الأحيان مشروطة، ولم يتم تصميمها للوفاء بالتزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي أو لضمان تزويد السكان المدنيين في غزة بما يكفي من السلع التي يحتاجون إليها” – من نص قرار المحكمة الجنائية الدولية 

المفارقة الأخرى، أن الضغط على هؤلاء القضاة الثلاثة كان من تلك البلدان التي تدعي أنها تناضل من أجل نظام عالمي قائم على القواعد، حيث قاد الرئيس الأمريكي جو بايدن الهجوم على المحكمة الجنائية الدولية والعدالة الدولية من خلال إدانة طلب خان على الفور ووصفه بأنه “شائن”.

قال بايدن وقتها: “واسمحوا لي أن أكون واضحاً، فأياً كان ما قد يعنيه هذا المدعي العام، فإنه لا يوجد تكافؤ بين إسرائيل وحماس، سنقف دائماً إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات لأمنها”، والملاحظة أن هذه التصريحات كانت قبل السماح بأي إجراءات قانونية أصلاً، فلا عجب أن يواجه المدعي العام نفسه محاولة إقصاء بزعم سوء السلوك الجنسي!

معاقبة المحكمة

في محاولات أكثر عمقاً لإلغاء أوامر الاعتقال، أعادت عدد من الدول من بينها بريطانيا، بطرح قضية كانت المحكمة الجنائية الدولية قد عملت على تسويتها بالفعل فيما يتعلق باختصاص المحكمة فيما يحدث في الأراضي المحتلة، حيث صرحت المملكة المتحدة بأنها لم تفعل ذلك نتيجة لاتفاقيات أوسلو ولم يتم تنفيذها قط. 

منذ ذلك الحين تراجعت حكومة رئيس الوزراء، كير ستارمر، عن هذه الحجة، وعلق متحدث باسم ستارمر آنذاك بالقول: “لقد كنا واضحين حول أهمية سيادة القانون واستقلال المحاكم على الصعيدين المحلي والدولي”. 

أما في الولايات المتحدة، والتي لا تعد إحدى الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، فهناك مشروع قانون معروض على الكونغرس للضغط على المحكمة الجنائية الدولية، يقضي بمعاقبة المحكمة بسبب إن أصدرت أوامر الاعتقال، وما ذلك إلا محاولة سياسية فجة لإرباك العملية القضائية.

لقد صوت 42 من الديمقراطيين في مجلس النواب لصالح المشروع، فيما عارضه البيت الأبيض، ولم يوافق عليه مجلس الشيوخ بقيادة الزعيم الديمقراطي المنتهية ولايته تشاك شومر، في حين تعهد السيناتور جون ثون، الذي سيصبح زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ عندما يصبح دونالد ترامب رئيساً مطلع العام المقبل، بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية.

كتب ثون مؤخراً على موقع اكس: “إذا لم تتراجع المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام عن الأفعال الشنيعة وغير القانونية لمتابعة أوامر الاعتقال ضد المسؤولين الإسرائيليين، فيجب على مجلس الشيوخ أن يقر على الفور تشريع العقوبات، كما فعل مجلس النواب بالفعل على أساس الحزبين”. 

وهكذا، أصبح الضغط على القضاة الثلاثة لا يطاق، حتى طلبت القاضية الرومانية يوليا موتوك، مغادرة اللجنة المكونة من 3 قضاة لأسباب صحية الشهر الماضي، وتم استبدالها بقاضية المحكمة الجنائية الدولية السلوفينية بيتي هوهلر.

رغم كل الضغط، إلا أن القضاة الثلاثة أظهروا شجاعة ومضوا قدماً وأصدروا مذكرات الاعتقال، وبذلك فهم يمثلون حقاً نظاماً قائماً على القواعد مبنيًاً على سيادة القانون الدولي.

في المقابل، فالولايات المتحدة تمثل الآن قانون الغاب، وبات التنقل بين الحق والخطأ ألعوبة في يد الأقوياء، وخير ما يمثل ذلك رد السيناتور الديمقراطي جون فيترمانو، الذي كتب على اكس: “لا مكان أو أهمية أو مسار لهذا القرار، تباً لذلك”، مع رمز تعبيري للعلم الإسرائيلي.

أقلية واحدة

يتماشى هذا تماماً مع كون الولايات المتحدة أقلية في قراراتها تجاه ما تقوم به إسرائيل، فقد استخدمت حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد وقف إطلاق النار غير المشروط والفوري في غزة 4 مرات خلال الحرب التي دامت 13 شهراً حتى الآن.

وفي بيان قوي، رد المبعوث الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، ماجد بامية، في خطابه بالقول: “ليس هناك حق في القتل الجماعي للمدنيين، وليس من هناك حق تجويع شعب مدني بأكمله، ولا يوجد هناك حق في تهجير شعب قسراً ولا يوجد حق في الضم، وهذا ما تفعله إسرائيل في غزة، فهذه هي أهدافها من الحرب، وما يسمح لها بالمواصلة هو غياب وقف إطلاق النار”.

لقد زعمت كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا أن لإسرائيل الحق في مواصلة حربها على غزة باسم الدفاع عن النفس، وقادت حملات كبرى محلياً لتجريم الاحتجاج، باعتباره معادياً للسامية وإرهاباً

لقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) رغم تعرضها للإذلال من قبل حليفتها قبل يومين فقط من آخر فيتو فقط، ففي حديثه بعد أسبوعين من فوز ترامب في الانتخابات في 5 تشرين الثاني، انتقد نتنياهو مراراً وتكراراً حكم بايدن في خطاب ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي.

قال نتنياهو: “كان لدى الولايات المتحدة تحفظات واقترحت ألا ندخل غزة، فقد كانت لديها تحفظات حول دخول مدينة غزة وخانيونس، والأهم من ذلك، أنها عارضت بشدة الدخول إلى رفح، فقد أخبرني الرئيس بايدن أننا إذا دخلنا، فسنكون وحدنا، وقال أيضاً أنه سوف يوقف شحنات الأسلحة، وبعد أيام قليلة، كرر بلينكن نفس الكلام، فقلت له (سنقاتل بأظافرنا)”.

هكذا تبدو الأسابيع الأخيرة لما سوف يُصنف كواحدة من أكثر الفترات الرئاسية ضعفاً في تاريخ الولايات المتحدة، فضعف بايدن في محك غزة، جعل أسلافه الجمهوريين، مثل رونالد ريغان وجورج بوش الأب، يبدون وكأنهم أعمدة للأخلاق العالمية مقارنة به!

شريك في الجريمة

كان مستوى العار في أدنى مستوياته على الإطلاق عندما تولى بايدن منصبه قبل 4 سنوات، وذلك بعد رئاسة ترامب التي رتبت كل الظروف للانفجار الذي كان تبع ذلك، ولكن بايدن هذه المرة تفوق على ترامب في الانحدار بسبب طريقة إدارته للحرب الإسرائيلية على غزة.

هناك فقرة في حكم المحكمة الجنائية الدولية توضح بشكل واضح مسؤولية الولايات المتحدة عن المذبحة التي وقعت في غزة، حيث أوضحت الهيئة أنه في الوقت الذي تجاهلت فيه إسرائيل مناشدات مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة والدول والمنظمات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني بشأن الوضع الإنساني في غزة، إلا أنها استجابت للضغوط الأمريكية.

أشارت المحكمة إلى أن “الهيئة لاحظت أيضاً أن القرارات التي تسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة أو زيادتها كانت في كثير من الأحيان مشروطة، ولم يتم تصميمها للوفاء بالتزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي أو لضمان تزويد السكان المدنيين في غزة بما يكفي من السلع التي يحتاجون إليها، بل في الواقع، كانت تلك الإجراءات استجابة لضغوط المجتمع الدولي أو طلبات الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى أية حال، فإن الزيادات في المساعدات الإنسانية لم تكن كافية لتحسين وصول السكان إلى السلع الأساسية”.

بعبارة أخرى، لم يكتف نتنياهو  بربط وقف توريد السلع الأساسية والمساعدات الإنسانية بأهداف الحرب علناً، بل جعل توفير الطعام مشروطاً بالضغوط التي يواجهها.

خلصت الهيئة إلى أن “المحكمة وجدت بالتالي أسباباً معقولة للاعتقاد بأن السيد نتنياهو والسيد غالانت يتحملان المسؤولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كوسيلة من وسائل الحرب”، وهذا الاستنتاج تحديداً هو ما يجعل الولايات المتحدة شريكاً في جرائم نتنياهو.

لا يمكن المبالغة في تقدير أهمية أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، فالمحكمة لا تتمتع بصلاحيات التنفيذ، فهي تعتمد على الدول الأعضاء في اعتقال وتسليم المشتبه بهم.

من هذا المنطلق، فإن هذه الأوامر تشكل تحدياً أمام كل دولة من الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، وعددها 124 دولة، فالسؤال الذي يمكن طرحه على كل دولة، وقد أصبحت الآن ملزمة بموجب القانون الدولي بتنفيذ هذه الأوامر، هو: “هل تؤمن بالقانون الدولي أو قانون الغاب؟”.

تشديد الخناق

لن تجد بعض دول الجنوب العالمي صعوبة في الإجابة على سؤال كهذا، لكن دولاً أخرى ستواجه ذلك، فهو يشكل أكبر التحديات للمملكة المتحدة وجميع الدول الأوروبية التي شكلت العمود الفقري لدعم الهجوم الإسرائيلي على سكان غزة واستخدمت حق النقض باستمرار ضد الدعوات لوقف فوري لإطلاق النار.

لقد زعمت كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا أن لإسرائيل الحق في مواصلة حربها على غزة باسم الدفاع عن النفس، وقادت حملات كبرى محلياً لتجريم الاحتجاج، باعتباره معادياً للسامية وإرهاباً. 

يتعين على ترامب أن يدرك أنه إذا سمح لإسرائيل بمهاجمة إيران وضم الضفة الغربية وإعادة احتلال غزة، فإن عليه أن ينسى كل الصفقات التجارية والعقارية المربحة التي يسيل لعابه من أجلها من خلال مشاريع إعادة إعمار المنطقة

إن التحدي القانوني الذي تواجهه هذه البلدان كبير، فأوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لا تتوقف عند الزعيمين الإسرائيليين المذكورين فقط، فقد تؤدي مذكرات الاعتقال إلى رفع دعاوى محلية ضد مواطنين آخرين في إسرائيل، وخاصة مزدوجي الجنسية في الدول الأوروبية، لأن المحكمة وجدت أن جرائم قد ارتكبت.

في حديثه لموقع ميدل إيست آي، قال المحامي الدولي لحقوق الإنسان الذي يمثل الضحايا الفلسطينيين في المحكمة الجنائية الدولية، تريستينو مارينيللو: “أي شخص آخر متورط في ارتكاب الجرائم قد يتم تقديمه إلى العدالة على المستوى المحلي وعلى المستوى الدولي أيضاً”.

هناك احتمال ضعيف بأن يقوم نتنياهو أو غالانت باختبار إرادة ستارمر السياسية من خلال زيارة للمملكة المتحدة أو أي بلد تم تقديم مذكرات الاعتقال فيه، ولكن السؤال إن كان ستارمر سيسمح بمحاكمة المواطنين البريطانيين مزدوجي الجنسية ممن شاركوا في الجرائم التي أثبتت المحكمة الجنائية الدولية أنها وقعت في غزة؟! فهذا هو الاختبار الأصعب لقياس تصميم المملكة المتحدة على دعم القانون الدولي.

بعيداً عن كل ذلك، فمجرد إصدار أوامر الاعتقال يساهم في تشديد خناق الرأي العام العالمي والقانون الدولي حول عنق إسرائيل، وهذا لا يمكن إلا أن يزيد من عزلتها العالمية.

هناك 50 متهماً آخر مثل نتنياهو وغالانت على قائمة المحكمة، بالنظر إليهم، فنتنياهو وغالانت لم يعودا ينسجمان مع شكل القادة الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم جزءاً من العالم الغربي، فهناك رئيس السودان السابق عمر البشير، والزعيم الأوغندي جوزيف كوني، ووزير الدفاع الروسي السابق سيرجي شويجو، وبالطبع بوتين.

مضاعفة الجرائم

بطبيعة الحال، كان رد فعل الحكومة الائتلافية الإسرائيلية على القرار، هو مضاعفة جهودها، حيث وصف وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، قرار المحكمة بأنه معاد للسامية من البداية إلى النهاية مشيراً إلى أن على إسرائيل الرد على المحكمة الجنائية الدولية بإعلان ضم الضفة الغربية.

ربما تدعم إدارة ترامب القادمة هذا الأمر فعلاً، ولكن بعد القرار أصبح على ترامب نفسه التوقف والتفكير ملياً قبل إطلاق النار، فإذا كان صادقا في كلمته المتمثلة في “وضع أمريكاً أولاً”، فمن الحكمة أن يبدأ ترامب في النأي بنفسه عن التصرفات المتهورة التي ترتكبها دولة منبوذة، وإلا فسوف يكرر نموذج بايدن في السماح لإسرائيل بجر الولايات المتحدة معها إلى الحضيض. 

يتعين على ترامب أن يدرك أنه إذا سمح لإسرائيل بمهاجمة إيران وضم الضفة الغربية وإعادة احتلال غزة، فإن عليه أن ينسى كل الصفقات التجارية والعقارية المربحة التي يسيل لعابه من أجلها من خلال مشاريع إعادة إعمار المنطقة. 

من الآن فصاعداً، ما لم يتم ترويض رغباته بطريقة لم يتمكن بايدن من القيام بها، فسوف تتسبب إسرائيل بمزيد من إضعاف نفوذ واشنطن التجاري والعسكري العالمي، فقد أصبحت إسرائيل رهاناً تجارياً سيئاً لشريكتها الأمريكية خلال الحرب.

ورغم كل التبجح الإنجيلي والأموال القادمة من المليارديرة الإسرائيلية الأمريكية التي كان وراء حملة ترامب الرئاسية، ميريام أديلسون، إلا أنني أشك في أن ترامب العلماني المتشدد لا يمكنه رؤية وإدراك أبعاد قرار المحكمة بالفعل.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة