بقلم ريتشارد فولك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
أخيراً وبعد 6 أشهر، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال رسمية بحق كبار القادة السياسيين الإسرائيليين الذين يديرون هجوم الإبادة الجماعية على غزة، مع العلم بأنها لم تستغرق إلا أياماً فقط لإصدار مذكرة مماثلة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متهمة إياه بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
يدخل هذا الأمر في إطار المعايير المزدوجة التي باتت معروفة، ومع ذلك فإن تحرك المحكمة الجنائية الدولية يظل موضع ترحيب، حيث يأتي قرار الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، في ضوء الأدلة الدامغة على مسؤوليتهما عن جرائم دولية خطيرة، في لحظة ظهر فيها كخبر كبير.
كانت هناك بالفعل إشارات بأن بعض أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين سوف يفرضون عقوبات ضد خان وأعضاء الغرفة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية
تشكل مذكرات الاعتقال ضربة قوية لنهج الإفلات من العقاب الجيوسياسي، فإذا تم تقييم هذا الإجراء الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدولية من خلال قدرتها على التأثير على سلوك إسرائيل على المدى القصير في اتجاهات أكثر انسجاماً مع القانون الدولي، فضلا عن آراء الأغلبية السائدة في الأمم المتحدة، والجنوب العالمي، والرأي العام العالمي، فإن قرار المحكمة الجنائية الدولية هذا يمكن أن يكون كافياً.
أما البعض، فيرى أن التأثير الملموس لأوامر الاعتقال، إن وجدت، فلن يكون أكثر من تغيير في خطط سفر نتنياهو وغالانت المستقبلية قليلاً، حيث يلزم القرار الدول الأعضاء الـ 124 في المحكمة الجنائية الدولية بتنفيذ اعتقالات لهؤلاء الأفراد، إذا دخلوا أراضيها، أما الدول غير الأطراف، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا والصين وإسرائيل، لا تخضع حتى لهذا الالتزام البسيط.
حدود القرار
علينا أن نتذكر أن فلسطين هي طرف في معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي، إذا ما وطئت أقدام نتنياهو أو غالانت الأراضي الفلسطينية المحتلة في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، فإن السلطة في رام الله سوف تكون ملزمة قانوناً باعتقالهما.
في هذه الحالة، سوف تكون شجاعة السلطة الفلسطينية في اختبار حقيقي إذا ما تجرأت على اعتقال زعيم إسرائيلي، ولكن التوقف عند هذا التقييم للأثر الملموس فقط، لن يجعلنا نفهم السبب الذي يجعل هذا تطوراً ذا أهمية تاريخية بالنسبة للنضال الفلسطيني ومصداقية المحكمة الجنائية الدولية على حد سواء.
قبل أن نتكلم عن كون قرار المحكمة خطوة تاريخية مهمة، علينا أن نعترف بأوجه القصور المهمة التي تعيبها أولاً.
أولاً وقبل كل شيء، ورغم أن توصية المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد صدرت في مايو الماضي، أي بعد 8 أشهر من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، إلا أنها لم تدرج “الإبادة الجماعية” ضمن الجرائم المنسوبة إلى هذين الزعيمين، رغم أنها جوهر الإجرام في الهجوم الإسرائيلي وتوصيفاً دقيقاً للتعبير عن دور نتنياهو وغالانت في غزة.
كان ينبغي للولايات المتحدة أن تتعلم هذا الدرس في حرب فيتنام، حيث أنها خسرت الحرب رغم سيطرتها على ساحات القتال الجوية والبحرية والبرية، وانتصر الجانب الأضعف عسكرياً، أي انتصر في حرب الشرعية
ويعد التأخير الطويل في إصدار مذكرات الاعتقال من القيود الملحوظة أيضاً، فالأمر غير مبرر في ظل ظروف الطوارئ القاسية المتمثلة في الدمار والمجاعة والمعاناة السائدة في غزة، والتي تفاقمت بسبب عرقلة إسرائيل للمساعدات الإنسانية التي تقدمها الأونروا وغيرها من منظمات الإغاثة والمنظمات الإنسانية الدولية إلى السكان المدنيين في غزة الذين يحتاجون الغذاء والوقود والكهرباء والمياه الصالحة للشرب والإمدادات الطبية.
من الجدير بالذكر أن قرار المحكمة الجنائية الدولية يخضع أيضاً للطعن القضائي بمجرد الانتهاء من أمر الاعتقال، فقبول الاختصاص القضائي في 20 نوفمبر هو، بالمعنى الرسمي، أمر مؤقت، حيث أن اعتراض إسرائيل على السلطة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية تم قبل الأوان، ولكن يمكن تقديمه دون تحيز في المستقبل بعد أن تحركت المحكمة الجنائية الدولية.
ومن غير المرجح أن يتم تنفيذ الاعتقال، وذلك نظراً لتشريع الكونغرس الأمريكي الذي يجيز استخدام القوة “لتحرير” المتهمين من مواطني الولايات المتحدة أو حلفائها من أسر المحكمة الجنائية الدولية، وقد كانت هناك بالفعل إشارات بأن بعض أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين سوف يفرضون عقوبات ضد خان وأعضاء الغرفة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية.
الأهمية الدائمة للقرار
رغم هذه القيود، إلا أن خطوة استدعاء السلطة الإجرائية للمحكمة الجنائية الدولية تعتبر في حد ذاتها تذكيراً للعالم بأن المساءلة عن الجرائم الدولية ينبغي أن تنطبق على الجميع، وأنه يتم تقييم الأدلة من قبل خبراء موضوعيين ومؤهلين مهنياً تحت رعاية مؤسسة دولية مخولة بموجب معاهدة تم التصديق عليها على نطاق واسع لتحديد مدى الملاءمة القانونية لاتخاذ مثل هذا القرار.
تجدر الإشارة إلى أنه يتم إصدار الأحكام الرسمية للمحكمة الجنائية الدولية دون الخضوع لحق النقض الذي أصاب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالشلل طوال هذه الفترة من الحرب على غزة.
لا يعني هذا أن المحاكمة ستمضي قدماً ويتم تنفيذ الاعتقالات، أو أنه سيكون هناك احترام لنتائج الإدانة المستقبلية، ومع ذلك، فإن المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية متحررتان رسمياً من “أولوية الجغرافيا السياسية” التي غالباً ما تتجاوز أهمية القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة في المحافل الأخرى غير القضائية.
إن النتيجة المستخلصة من إصدار مذكرات الاعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية، هي التطبيق المباشر والموثوق للقانون الدولي، وبهذا المعنى، لا يكون هناك مجال للإتيان بحجج مضادة، بل هناك إدانات فظة للقرار، كما وصفه نتنياهو بأنه “سخيف” ومظهر من مظاهر “معاداة السامية”.
تكمن الأهمية الدائمة لإصدار مذكرات الاعتقال في مساعدة فلسطين على الفوز في “حرب الشرعية” على إسرائيل التي تحاول ادعاء الأخلاق واتباع القانون في الخطاب العام.
يرفض الواقعيون السياسيون، الذين ما زالوا يهيمنون على نخب السياسة الخارجية في الدول المهمة، القانون الدولي والاعتبارات المعيارية في الأمن العالمي والأوضاع الجيوسياسية الملتهبة باعتبارها تضليلاً للتفاعلات التي يتم توجيهها من خلال تفاعل القوة العسكرية.
إن مثل هذا التفكير يتجاهل تجربة كل الحروب المناهضة للاستعمار في القرن السابق والتي انتصر فيها الجانب الأضعف عسكرياً، فقد كان ينبغي للولايات المتحدة أن تتعلم هذا الدرس في حرب فيتنام، حيث أنها خسرت الحرب رغم سيطرتها على ساحات القتال الجوية والبحرية والبرية، وانتصر الجانب الأضعف عسكرياً، أي انتصر في حرب الشرعية، التي سيطرت في أغلب الأحيان على النتائج السياسية منذ عام 1945 في صراعات داخلية على الهوية الوطنية.
تعكس هذه النتائج تراجع الفاعلية التاريخية للنزعة العسكرية، حتى في مواجهة العديد من الابتكارات التكنولوجية التي تبدو اختراقاً في الحرب
لهذا السبب، فقد توصل مراقبون كثيرون عن كثب إلى استنتاج مفاجئ مفاده أن إسرائيل خسرت الحرب بالفعل، وفي هذه العملية، عرضت أمنها وازدهارها المستقبلي، وربما حتى وجودها للخطر.
في النهاية، قد تحقق المقاومة الفلسطينية النصر رغم دفع ثمن لا يوصف نتيجة الإبادة الجماعية، وإذا تحققت هذه النتيجة، فإن أحد العوامل الدولية التي ستحظى بالاهتمام هو قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال ضد نتنياهو وغالانت، مهما بدا مثل هذا الإجراء عقيماً اليوم.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)