السوريون تحرروا من القفص.. وعليهم أن يحرسوا حريتهم بكل ثمن

بقلم مروة الصابوني

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

كما الطائر الذي طار للتو مغادراً قفصه، يركب أحمد دراجته النارية، ويجوب كل الطرق الصغيرة في حمص، لم تكن الدموع على وجهه بسبب الرياح الباردة فحسب، بل جراء الفرح أيضاً، ليس بسقوط النظام الاستبدادي لعائلة الأسد فحسب، بل بات بوسعه أن يستمتع أخيراً بالتغيير الجديد للمشهد بعد سبع سنوات مما كان يمكن وصفه بالإقامة الجبرية.

ومثل مئات الآلاف من الشبان الذين خضعوا للتجنيد العسكري الإجباري، كانت حركته تقتصر على منطقة تقل مساحتها عن كيلومترين مربعين حول منزل والديه الذي يعيش فيه، لتجنب المرور عن نقطة تفتيش أمنية كان يمكن أن يتم سحبه منها إلى “الخدمة العسكرية”.

وحتى تاريخ الإطاحة ببشار الأسد، كانت الخدمة العسكرية واحدة من أكثر المصائر المروعة التي يمكن أن يواجهها سوري، ففي عهد الأسد، أصبحت دلالات هذه الخدمة تعني أنّ على الشبان أن يعارضوا أقاربهم، وإذا كنت جندياً، فمن المحتمل أن تؤمر بقتل أحد أفراد أسرتك، في أي وقت يقرر فيه رؤسائك بأنه عدو.

وإذا لم تكن منخرطاً في القتال، فقد تؤمر بجمع رسوم تعسفية أو مصادرة الممتلكات بشكل عشوائي وغير عادل، كما تعني كلمة الخدمة العسكرية أن يُحكم عليك بتعليق حياتك وسبل عيشك إلى ما لا نهاية، ويمكن أن يستمر ذلك طالما ظل “يُرى ضرورياً”.

وإذا كنت مجنداً فهذا يعني أيضًا أن عائلتك ستضطر إلى دفع مبالغ مالية باستمرار لرؤسائك في الجيش، اعتمادًا على قدرتها المالية، فقد كانت العائلات تدفع كل ما لديها في ظل الوضع الاقتصادي المنهار كرشاوى لحقوق ولسد احتياجات أبنائها الأساسية، ولم تكن المدفوعات مجرد التكلفة المبالغ فيها لتلك الاحتياجات، بل كانت أيضاً ثمن الوصول إلى تلك الحقوق والضروريات، وهو ما يتحدد وفقاً لمدى جشع الرؤساء.

ومقابل ثمن باهظ، كان بوسع المجند أن “يشتري” طريقه للعودة إلى مهنته، فقد يسمح للنجار مثلاً بالعودة من حين لآخر للعمل في ورشته طالما أنه يدفع مبلغاً شهرياً لرئيسه، وقد تصل قيمة هذا المبلغ إلى 80% من دخل النجار، وكان البديل عن ذلك أن يقضي الشبان الذين هم في مثل ظروف أحمد سنوات شبابهم هاربين متجنبين الوقوع في أسر التجنيد.

“أم الحريات”

بين عشية وضحاها، أصبح كل هؤلاء الشبان أحراراً مرة أخرى كما هو حال الشعب السوري، إنه شعور جديد بالنسبة لمعظم السوريين، بل إنك تشعر بالرعب من تجربة هذه الحرية الجديدة، سواء اخترت الاستماع إلى الأطفال في الشارع وهم يحاولون استخدام عبارات مسيئة جديدة باسم بشار، أو الاستماع إلى لغة المعاملات التجارية التي تجهر بالكلمة التي كانت محظورة “دولار”، فقد كان التجار يستخدمون كلمة “أخضر” أو “بقدونس” في المعاملات التجارية في السوق السوداء لتجنب آذان أجهزة الأمن التي تصغي إليهم، فأنت اليوم تشعر بالرعب من هذه الحرية الجديدة.

إن الحياة في ظل أنظمة قمعية تعني أنك تحت المراقبة وخاضع للتنصت والحكم عليك دائماً، وهذا يعني أيضاً أنه ليس لدى المجتمع مجال للنمو أو التعبير عن الذات أو تنظيم نفسه بشكل صحيح، لكن أم كل الحريات هي حرية أولئك الذين يتم إطلاق سراحهم الآن من سجون الأسد السياسية، مثل صيدنايا، أو “المسلخ”، على بعد 30 كيلومتراً شمال دمشق.

ويُقال إن من صمم هذا السجن كان مجرم الحرب النازي النمساوي ألويس برونر، الذي كان اليد اليمنى لأدولف آيخمان وقائد معسكر الاعتقال في درانسي، والذي ذهب إلى سوريا بعد هزيمة النازيين وأصبح في نهاية المطاف مستشارًا للرئيس حافظ الأسد، والد بشار، والبعثيين ومديرية المخابرات العامة السورية.

لقد وضع التصميم المعماري النازي المروع للسجن، ورموزه السرية المخفية وأبوابه غير المرئية، فرق الإنقاذ التي فرغت للتو من إطلاق الأسرى من الطوابق الواقعة تحت الأرض في سباق محموم مع الزمن في محاولة للوصول إلى المعتقلين قبل أن يموتوا من نقص الهواء أو الماء.

كما تم التقاط مشاهد فوضوية لنهب وتخريب القصر الرئاسي، الذي صممه المهندس المعماري الياباني كينزو تانج، والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه النهب والتخريب للمؤسسات العامة مثل مركز الهجرة ووزارة الدفاع والبنك المركزي والجامعات.

ولا ينبغي أن يكون أي من هذا مفاجئًا، حيث نشأ جيل كامل في الحرب، لم يكن محروماُ فقط من الحرية، بل أيضًا من الأبوة والتعليم.

لقد فُتح باب الصراع بالفعل، ولم تضيع إسرائيل أي وقت في التوغل أكثر في جنوب سوريا بحجة الفراغ الذي خلفته قوات الجيش السوري الهاربة من مواقعها على الحدود، كما واصلت إسرائيل غاراتها الجوية غير المشروعة، حيث نفذت أكثر من 300 غارة في أقل من 48 ساعة، بما في ذلك تدمير 70-80% من الدفاعات الجوية السورية والأساطيل البحرية والمطارات العسكرية، والحجة الزائفة التي يسوقها الإسرائيليون هي نفس الحجة القديمة القائلة بأن “هذه الأسلحة ستقع في اليد الخطأ”.

يجب أن نكون حذرين للغاية ونحن نسير على خط رفيع بين الفوضى والدكتاتورية، فكل ما حولنا أمثلة يجب تجنبها وليس هناك من يمكن اتباعه

 لم يعد الأمر يتطلب الكثير لنرى أن سوريا في الوقت الحالي تشبه ذلك القصر الرئاسي الفارغ متاحًا للاستيلاء عليه، سواء من قبل إسرائيل في الجنوب، أو القوات الأمريكية وشركائها في الشرق، أو تركيا في الشمال، أما روسيا فهي موجودة بالفعل على الساحل الغربي، حتى وإن كان موقفها هشًا.

الأمل الحذر، هو مصطلح استخدمه مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا جير بيدرسون، وهو الأمل الذي يتمسك به السوريون وذلك بالتأكيد ليس بلا أساس، فالسياسة المعلنة لهيئة تحرير الشام هي “لا للانتقام”، و”سوريا لكل السوريين” و”مؤسسات الدولة خطوط حمراء”، وقد خلق هذا جوًا من الارتياح “الحذر” بين الناس من جميع الطوائف والخلفيات.

لقد جعلت حقيقة أن القليل من الدماء سُفكت أثناء العملية الناس ينظرون إلى هذا التحول باعتباره خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكن يجب أن نكون حذرين للغاية ونحن نسير على خط رفيع بين الفوضى والدكتاتورية.

ففي مصر، وبعد فترة انتقالية قصيرة من حكم الإخوان المسلمين المنتخب ديمقراطياً، حلت محل دكتاتورية مبارك دكتاتورية عبد الفتاح السيسي، التي دمرت الاقتصاد وأغرقت البلاد في الديون وزادت من التفتت الاجتماعي بين الطبقات.

كما اختفت ليبيا واليمن عن رادار الأخبار الدولية، وكلاهما الآن منقسم ومتعثر، في حين تكافح العراق ولبنان مع التفتت الطائفي الذي لا نهاية له والصراعات الداخلية المتصاعدة.

فرق تسد

وفي خطاباتهم الأخيرة، تحدث المسؤولون الإسرائيليون بصراحة عن رغبتهم في رؤية سوريا المقسمة كـ “حل” لاستيعاب الأقليات المختلفة، منذ سايكس بيكو في عام 1916، كان تقسيم شعوب هذه المنطقة دائما هدف القوى الاستعمارية.

وكانت حجة “حماية الأقليات” ذريعة لهم منذ الأيام الأخيرة للعثمانيين، متناسين عمدا أن هذه الأراضي كانت دائما متعددة الثقافات وأن “الأقليات” كانت تُمنح “امتيازات”، لكن دعواتهم لم تكن يوماً سوى سياسات فرق تسد.

وفي أعقاب الأيام الأخيرة من حكم العثمانيين، والتي انتهت بالثورة العربية، التي سهلها لورنس العرب سيئ السمعة، كان هناك شعور مماثل بالابتهاج والأمل كما هو الحال اليوم، حيث أصبح العرب بالفعل أحراراً من السلطنة الفاسدة، ولكن أيام حريتهم كانت معدودة، فبينما كانوا يحتفلون، اجتمع الفرنسيون والبريطانيون في سويسرا حول خريطة لتقسيم أراضيهم وسرقتها وإسقاط هويتهم وإنشاء احتلالات.

لقد تركت لنا الدول المستقلة المزعومة، التي تلت رحيل العثمانيين تلك الأنظمة الاستبدادية التي لم تكن أكثر من عملاء وخدم للقوى الاستعمارية، واليوم، سقط أخيرًا أحد آخر الأنظمة وأكثرها وحشية.

ربما لا تزال قوى مثل إسرائيل وروسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة تتجمع حول الخرائط، وتقرر مصيرنا نحن السوريين حتى نقع في التشرذم والمزيد من الصراع، ومع ذلك، فإن الأمل في إعادة البناء في سوريا مفعم، فالناس يريدون أن يكونوا في “الخدمة”، وأن يدافعوا ويعيدوا البناء لأنهم ذاقوا أخيرًا معنى الانتماء.

إنه ارتباط رفيع كخيط العنكبوت، وُلد بالأمس بمكان يمكن أن يكون لنا، ولكن إذا أردنا إعادة بناء مكان وبلد ننتمي إليه وجيل يتمتع بالصحة والوعي فيجب علينا أن ننظم أنفسنا.

فلا بد لنا من أن نستثمر في إعادة بناء الجامعات والمدارس، وإصلاح البنية الأساسية بما في ذلك دفاعاتنا العسكرية واستعادة البيئة ولابد وأن نتذكر أننا لسنا في حاجة إلى معماريين أجانب لبناء السجون والقصور لنا، ولابد أن لا ننتظر الاستثمار الأجنبي والنمو، بل لابد وأن نعمل على استعادة القيمة حيث ضاعت، والنظام حيثما كان ذلك مطلوباً.

واليوم، وفي هذه الساعة الحاسمة من الاحتفالات المبهجة والأمل الحذر، فإن السؤال المطروح هو: هل سيُسمَح بأن ينمو الجناحان لفرخ الحرية الذي فقس حديثاً وبأن يحلق عالياً مثل أحمد، أم أنه سوف يعصر ويسحق على يد القوى المتعدية الشريرة التي تريد أن تعيدنا جميعاً إلى القفص؟

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة