بقلم أوسكار ريكيت
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لا تفارق مشاهد الرعب في غزة ولا ما يتخللها من صرخات الفلسطينيين هناك مخيلة مي عنان التي تصف ممارسات جيش الاحتلال في وطنها بالقول: “صرخات النساء بعد إعدام الشبان، وهن يتوسلن قائلات للجنود: لا، أرجوكم لا، هذا الصوت لن يفارقني أبداً”.
وتتابع عنان وهي من شمال غزة حديثها قائلة: “هذه الصرخات تطاردني كل ليلة، لا أستطيع النوم، لا أستطيع أن أنسى المذبحة التي عشناها”.
كل ما نستطيع أن نراه خلف عنان هو أكوام من الأنقاض، نحن في غرفة في لندن، عاصمة دولة تساعد في دعم وتسليح إسرائيل، التي تشن حرباً على غزة منذ الهجمات التي قادتها حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
تقود عنان مشروع المساعدة المتبادلة في شمال غزة، وتظهر على شاشة فيديو، وخلفها أنقاض الشمال المدمر لتخبرنا أن عائلتها حوصرت تحت قصف كثيف وإطلاق نار لمدة خمسة أيام، وتقول أن 30 منهم احتموا في حمّام واحد تحت وطأة حصار الاحتلال.
وتتذكر عنان يومًا آخر في وقت سابق من الحرب، لإنه يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2023، قبل عام بالضبط من الآن، وتقول: “جاء الصليب الأحمر واستدعانا، أخبرونا أن الجيش أعدم كل من في المبنى المجاور لنا، وأن الناجي الوحيد كان ابن عمي، الذي أصيب برصاصتين في كتفه، هذه المعلومات قد تبدو أخباراً عاديةً بالنسبة لكم، لكنني عشت أحداثها بنفسي”.
تواطؤ المملكة المتحدة
وخلال الاجتماع الذي استضافته اللجنة البريطانية الفلسطينية (BPC) ومجتمع غزة في المملكة المتحدة (UKGC) في لندن، كانت الغرفة هادئة وكل ما فيها ثقيل، فلم يكن أي مما قيل في المحادثة مع عنان ليبدو عاديًا.
غير أن شعوراً ساد بين الحاضرين بأن السياسيين ووسائل الإعلام في البلدان التي تدعم عدوان الاحتلال ومن بينها بريطانيا كانوا عازمين على جعل الأمر يبدو كذلك.
“هذه أيضًا قضية محلية، المملكة المتحدة تساعد بشكل مباشر وتشارك في هذه الفظائع، وتقدم للاحتلال الدعم المادي في الوقت الذي أصدرت فيه المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق اثنين من قادتها” – سارة حسيني، اللجنة البريطانية الفلسطينية
فقد ألقى كيم روغالي، الذي يبحث في تورط الجيش البريطاني في الحرب على غزة، الضوء على الشحنات العسكرية الأميركية ورحلات طائرات التجسس البريطانية من القواعد الجوية في قبرص، فضلاً عن إرسال مكونات طائرات إف-35 بريطانية الصنع للاحتلال والمشاركة البريطانية في الدفاع عن الدولة العبرية.
وقال روغالي: “لا يتعلق الأمر فقط بتراخيص تصدير الأسلحة، بل يتعلق أيضًا بالتعاون النشط والدعم اللوجستي والإمدادات والمهام الداعمة التي استمرت لمدة 14 شهراً، فهذا يعني أن بريطانيا لا تفشل فقط في الوفاء بالتزاماتها تجاه الأطراف الثالثة بموجب القانون الدولي، بل إنها أيضًا مشاركة نشطة منذ فترة طويلة في الجرائم الموضحة اليوم”.
وأضاف روغالي: “وبالتالي فإن الفلسطينيين من شمال غزة الذين تحدثوا في لندن سواء بحضورهم شخصياً أو عبر الفيديو كانوا يفعلون ذلك وهم يدركون أن إسرائيل تهاجمهم وتهاجم أسرهم بمساعدة بريطانيا، حتى حين تستمر الحكومة البريطانية في الدعوة إلى وقف إطلاق النار.”
النزوح من شمال غزة
ويتشارك أحمد النجار، وهو كاتب فلسطيني من جباليا في شمال غزة الموقف مع روغالي فيقول: “لقد تصورت لفترة طويلة أن الصحافيين والسياسيين في الغرب كانوا يتنازلون عن قيمهم ومبادئهم واحترافهم من أجل حماية إسرائيل، لكنني أصبحت أعلم الآن أن هذه هي هويتهم وما يمثلونه”.
وأوضح النجار: “إنهم يمثلون الاستعمار والقمع والعنصرية والإبادة الجماعية، لذا فلن أطلب اليوم من الزعماء الغربيين أو وسائل الإعلام أن ينظروا إلينا باعتبارنا بشراً، يبدو أن هذا كثير جداً أن نطلبه من أولئك الذين يمولون الإبادة الجماعية ويمكّنون ارتكابها”.
جاءت تعابير النجار هذه عن إدراكاته الجديدة بعدما مر أكثر من شهرين منذ استئناف قوات الاحتلال غزوها البري لشمال غزة، بما في ذلك جباليا، فيما يُعتقد أن جيش الاحتلال ينفذ “خطة الجنرالات” لتطهير الشمال من سكانه الفلسطينيين عرقياً، وتركهم غير قادرين على العودة.
وقال النجار عن ذلك: “في غضون أيام، أصبح من الواضح أن هذه لم تكن مجرد عملية عسكرية جديدة، بل إن الأمر أكثر شراً، فممارسات الاحتلال في غزة ليست مجرد إبادة جماعية، إنها عملية تطهير عرقي، ومحاولة متعمدة لمحو شعب بأكمله”.
“لن أطلب من القادة الغربيين أو وسائل الإعلام أن ينظروا إلينا كبشر، يبدو هذا كثير جدًا على أولئك الذين يمولون الإبادة الجماعية ويمكنون ارتكابها، شمال غزة أصبح الآن شبه فارغ، تم تجريده من إنسانيته وحياته وروحه” – أحمد نجار، كاتب فلسطيني من شمال غزة
وفي أعقاب الغزو، غادرت عائلة النجار الشمال ولم يبق فيه إلا والده البالغ من العمر 80 عامًا، حيث قال ابن أخيه حسين، في الطريق إلى الجنوب تم فصل الرجال عن النساء عند حاجز تفتيش للاحتلال وتم “تجريد الرجال من ملابسهم وإذلالهم وضربهم والصراخ عليهم”.
وجه جندي إسرائيلي مسدسًا إلى سماح، شقيقة أحمد النجار، بعد أن حاولت منع الجندي من أخذ ابنها يوسف بعيدًا عنها، وقال الجندي لها، وفقًا للنجار، “إذا لم تتركيه يذهب، فسأقتله أمامك، ثم سأقتلك”.
أعيد يوسف في النهاية إلى عائلته، لكن جنود الاحتلال احتجزوا شقيق زوجة النجار لمدة ثلاثة أسابيع قبل إطلاقه في جنوب غزة، بعيدًا عن زوجته وأطفاله.
أما والد النجار الذي بقي في المخيم فأخبر عائلته أنه نزح مرات عديدة، حيث قال ابنه أحمد “كانت القنابل قد سقطت قريباً منه، واستشهد أشخاص في مدرسة على بعد مبنى واحد فقط من منزله، وعندما اتصلت به أخيرًا عبر الهاتف، سمعت الخوف في صوته لأول مرة في حياتي”.
وقبل بضعة أسابيع، في الثالث من ديسمبر/كانون الأول، قضت عائلة جودة التي كانت تتألف من أم وأب وأربعة أطفال في غارة جوية للاحتلال، وفي اليوم التالي، لحقت بهم مجد جودة بينما كانت تبحث عن جثثهم تحت الأنقاض.
وفي الخامس من ديسمبر/كانون الأول، تحدث نجار إلى والده، لقد وجده محطم النفس بعد استشهاد العديد من أحبائه، فقال أحمد عن تلك المحادثة: “كان يبكي بشكل لا يمكن السيطرة عليه، لم أسمعه يبكي هكذا منذ عام 1991، عندما حمل جثة أختي أماني الهامدة بعد استشهادها اختناقاً بالغاز المسيل للدموع”.
وبعد ثلاثة أيام، وبعد تدمير منزل والد النجار جزئيًا، أنقذه أحد الجيران، وسار به عبر الدمار في شمال غزة إلى مستشفى كمال عدوان.
وقال أحمد النجار: “بحلول العاشر من ديسمبر/كانون الأول، أُجبر آخر جيراننا على الرحيل، تاركين جباليا بلا حياة وخاوية، فانضم والدي أخيراً إلى والدتي في مدينة غزة، لكن ندوب ما تحمّله لن تتركه أبداً أو تتركنا”.
أطباء في غزة
أما محمد أشرف، وهو طبيب شاب من غزة عمل في شمال القطاع أثناء الحرب، فكان يتحدث إلينا في لندن في نفس اليوم الذي استشهد فيه الدكتور سعيد جودة.
ويُعتقد أن جودة هو آخر جراح عظام كان قد بقي في شمال غزة، واستشهد أخيراً بنيران دبابات الاحتلال أثناء توجهه إلى عمله في مستشفيي كمال عدوان والعودة.
لقد أخبرنا أشرف عن جراح عظام في وسط غزة، يدعى فضل نعيم، كان نعيم يعمل في غرفة العمليات من الساعة الخامسة صباحًا حتى الحادية عشرة مساءً، وينام من منتصف الليل حتى الرابعة صباحًا، ثم يستيقظ ويكرر ذات العمل مرة أخرى.
وأضاف أشرف: “إنه يفعل ذلك منذ أكثر من عام، ليس لديه أي علم بمكان وجود عائلته وزوجته وأطفاله، لقد استشهدت والدته في هذه الإبادة الجماعية، لكنه يواصل القيام بعمله”.
تحدث أشرف عن إجراء عمليات بتر الأطراف السفلية دون أي تخدير، مع حفاظ المريض على وعيه الكامل وشعوره بألم الجراحة.
“لدي صديق هو طبيب طوارئ، اعتقل لثلاثة أشهر ولقد تم تجويعه وتعذيبه وإذلاله وتجريده من ملابسه، والشيء الوحيد الذي سموه به هو الطبيب الذي اختطفناه” – محمد أشرف، طبيب من غزة
وتحدث أشرف عن فتاة فلسطينية تبلغ من العمر تسع سنوات تم نقلها إلى المستشفى وهي مصابة بجروح ناجمة عن الشظايا في جميع أنحاء وجهها، لقد طلبت من أشرف أن يقترب حتى تتمكن من التحدث معه.
يقول الطبيب أشرف عن تلك الفتاة: “لقد سألتني: دكتور، هل أنا في الجنة؟، لقد أخبرتني أمي أننا إذا تعرضنا للهجوم، فسأذهب إلى الجنة مباشرة، والجو هادئ للغاية ولا يوجد ضوضاء هناك، ولكن الآن هنا الكثير من الضوضاء والفوضى، فهل كانت أمي تكذب؟”.
أخبر أشرف الطفلة الصغيرة أن أمها لم تكن تكذب بشأن الجنة، لكنها الآن في المستشفى، وبعد ساعات قليلة استشهدت الطفلة متأثرة بجراحها.
أخذت قصص مثل هذه تتدفق من ذاكرة أشرف، فقد عرض صوراً له ولزملائه في لحظات نادرة من الراحة كانوا فيها يتناولون الغداء في منتصف نوبة عمل مدتها 18 ساعة، ويبتسمون معًا متذكرين أوقات ما قبل الحرب
كما تحدث عن الأطباء الذين استشهدوا في غزة والأطباء الذين اختطفتهم قوات الاحتلال، ففي شهر مارس/آذار، اختطف زميله الطبيب مصعب سمان من مستشفى ناصر في خان يونس، الذي تعرض لحصار إسرائيلي أخرجه عن الخدمة.
وقال أشرف “لا نعرف شيئا عن مصعب، ولا تعرف عائلته شيئا عنه، ولسنا متأكدين ما إذا كان لا يزال في السجن أم أنه قد استشهد في ظل الظروف القاسية التي يعذبونه فيها”.
وأضاف أنه أرسل رسالة نصية إلى سمان يتوسل إليه بمغادرة المستشفى بعد وقت قصير من اختطاف أو إعدام زملاء له في مستشفى الشفاء في الشارع، لكن سمان أبلغ صديقه أنه الطبيب الوحيد المتبقي في قسم الطوارئ وأن جده، الذي كان مشلولا، كان هناك أيضا.
احتجز صديق آخر لأشرف، وهو طبيب طوارئ، في سجن إسرائيلي لمدة ثلاثة أشهر، وقال أشرف “لقد جُوع، وتعرض للتعذيب، وأُهين، وعُرِّي من ملابسه، وكان الشيء الوحيد الذي أطلقوا عليه لقب “الطبيب الذي اختطفناه”.
إجراء عمليات جراحية على أكياس الجثث
وقد وصف آخرون من بينهم الطبيبة ماهيم قريشي، جراحة الأوعية الدموية البريطانية الباكستانية، الأهوال التي شهدها الأطباء في غزة بعدما عادت إلى لندن من هناك.
كما وصفت إجراء عمليات جراحية في المخ دون استخدام الأدوات المناسبة لأطفال لا تتجاوز أعمارهم ثماني سنوات، أصيبوا بالرصاص وأُصيبوا بالشلل.
وقالت قرشي إنها اضطرت إلى إجراء عملية جراحية على أكياس الجثث وتحدثت بمشاعر هائلة عن العديد من المرضى الذين رأتهم والذين كانوا يعانون من أمراض “لو تم اكتشافها في وقت سابق، لكان من الممكن علاجها بالكامل”.
وعندما كانت في غزة في أبريل/نيسان، مع درجات حرارة في العشرينات مئوية، لاحظت أن الجميع كانوا يرتدون طبقات كثيرة من الملابس، لقد كانوا يشعرون بالبرد لأنهم كانوا جائعين للغاية.
وقالت الطبيبة البريطانية إنها لم تكن مستعدة للتعامل مع عدد الأطفال الصغار الذين أصيبوا بالرصاص، لكنها عندما عادت إلى غزة في أكتوبر/تشرين الأول، رأت عددًا أكبر بكثير من ضحايا مسيرات رباعية المراوح والجرحى بالطلقات النارية.
وقالت: “أصبح شعر الأطفال أفتح بسبب نقص البروتين، هذا في جنوب غزة، أما في الشمال فلا أستطيع أن أتخيل الأهوال”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)