بقلم غادة عقيل
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
“لقد كانت جثتيهما متلاصقتين لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، كانت قطعة واحدة وكُفنتا في كفن واحد ودفنا في قبر واحد، إنهما ملاكان صغيران احترقا حتى الموت”.
هكذا وصفت صديقتي العزيزة، أستاذة اللغة الإنجليزية عبير بركات، خسارتها المأساوية لابنة أختها دانيا البالغة من العمر سبع سنوات، وابن أخيها يحيى البالغ من العمر أربع سنوات.
كافحت عبير، التي كانت تدرّس في ما كان يُعرف سابقًا بكلية العلوم التطبيقية الجامعية في غزة، للعثور على الكلمات التي تصف خطورة “الجريمة الشنيعة” التي ارتكبتها قوات الاحتلال، والتي قتلت شقيقها الأصغر طارق وزوجته وطفليهما الصغيرين.
لقد احترقت الأسرة حية في خيمة في قرية الزوايدة بغزة بعد أن قصفت قوات الاحتلال المنطقة في وقت مبكر من الشهر الماضي، حيث أصاب صاروخ خيمتهم مباشرة، فلم يبق لديهم أي فرصة للبقاء على قيد الحياة.
ولا بد وأن تبقى الصورة المروعة لنعيمة، عمة طارق البالغة من العمر 69 عامًا، وهي تصل إلى سيارة الإسعاف للتعرف على جثة طارق المتفحمة تثقل كاهل ضمير العالم إلى الأبد.
فبصوتها المرتجف، أكدت للمسعفين هوية ابن أخيها، وهمست من صدمتها: “لقد استهدفوه، مع طفليه الصغيرين وزوجته، وأحرقوه حياً”.
صرخت نعيمة وضربت وجهها في ألم، وأضافت: “لم يقتلوهم فحسب، بل أحرقوهم، وأحرقوهم، وأحرقوهم”.
حاول المسعفون تهدئة نعيمة وهي تطاردهم، يائسة لإلقاء نظرة أخيرة على أحبائها، ولكن مع وجود أهوال جديدة تنتظرها في ممرات المستشفى، حثها المسعفون على البقاء في مكانها والتماسك بعدما لم يبق أمامها سوى الدمار.
خسارة لا يمكن تصورها
يعرف الجميع في غزة نعيمة، وهي معلمة سابقة في الأونروا، كانت ذات حضور أيقوني مهيمن ذات يوم، لقد كانت أسطورة في غزة، وأمضت عقودًا في تشكيل أجيال من الرياضيين، وكانت شخصيتها الرياضية بمثابة رمز للقوة والمرونة.
كانت نعيمة الدينمو المحرك للاحتفالات والأحداث الرياضية والمهرجانات والمباريات التي جلبت الفخر لغزة ذات يوم، وكانت معروفة بتفانيها الشديد وأناقتها وأسلوبها المثالي.
والآن، بعد مرور عام على هذه الإبادة الجماعية، اختفت هذه الأناقة، وسرقتها خسارة لا يمكن تصورها، لقد حرمها عدوان الاحتلال من كل شيء، حرمها المنزل الذي بنته بتعب حياة كاملة من العمل الشاق، وحرمها إحساسها بالأمان، وسلبها ميدالياتها وصورها الثمينة وتذكارات الإنجازات، بل وحتى الملابس الجميلة التي كانت ترتديها ذات يوم بفخر.
واليوم، تقف نعيمة في ممر المستشفى القاحل، حافية القدمين، مرتدية ملابس النزوح، تواجه ما لا يمكن تصوره، وهي تفحص جثث أفراد أسرتها الأعزاء.
لا يمكن حساب حياة الفلسطينيين إحصائياً فحسب، بل في الأحلام المبددة، والأسر المحطمة، والقدرة على الصمود التي استنفدت إلى أقصى حد
كان الناجي الوحيد من المذبحة هو زياد البالغ من العمر 13 عامًا، والذي كان قد قرر بالصدفة قضاء تلك الليلة مع عمته الكبرى.
أصبح زياد الآن يتيمًا، بعد أن فقد والدته وأبيه وشقيقين، لينضم إلى صفوف ما يقدر بنحو 20 ألف طفل فقدوا أحد والديهم أو كليهما في اعتداءات الاحتلال وهي خسارة لا يمكن تعويضهم عنها أبدًا.
وفي الوقت نفسه، أصبحت أهوال القصف وحرق الناس أحياءً هي القاعدة، لا الاستثناء، في كل ركن من أركان قطاع غزة.
وفي قلب المواصي، وهي منطقة إنسانية آمنة في خان يونس، يستمر الاستهداف الوحشي للعائلات دون هوادة، إن تسمية هذه المنطقة “بالمنطقة الآمنة” ليس مضللاً فحسب، بل إنه مفارقة مأساوية، حيث أصبحت مقبرة لعدد لا يحصى من المدنيين.
كل هذا جزء من سياسة الإبادة الأشمل التي تنتهجها دولة الاحتلال، إبادة جماعية منهجية، حيث فقد جيراننا، الذين يعيشون على بعد أقل من كيلومتر واحد من منزل عائلتي، مؤخرًا ثمانية أفراد من الأسرة في غارة للاحتلال.
وبعد يومين، قصفت مروحية خيامًا في المواصي، مما أدى إلى إصابة 12 شخصًا بجروح خطيرة، بما في ذلك النساء والأطفال، وبعد ساعات، تم استهداف خيمة أخرى في المنطقة وإحراقها، ما أدى إلى استشهاد شخصين، بينهما طفل.
وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، استهدفت غارة إسرائيلية بطائرة بدون طيار مقهى صغيرًا في المواصي، كان بمثابة شريان حياة لأولئك الذين يسعون إلى التواصل مع أحبائهم في غزة وخارجها، فقد كان الناس يتجمعون هناك لشحن هواتفهم، والوصول إلى الإنترنت، وتحميل المحاضرات والدروس الرقمية، في محاولة يائسة للحفاظ على بعض مظاهر الحياة الطبيعية وسط الإبادة الجماعية.
استشهد عشرة أشخاص على الفور في هجوم الطائرة بدون طيار، وأصيب العديد بجروح خطيرة، وبعضهم أصيب بحروق وتشوهات لدرجة أنه لم يعد من الممكن التعرف عليهم، وتم نقل الجرحى على وجه السرعة إلى مستشفى ناصر الذي يعمل بحده الأدنى، حيث احتاج العديد منهم إلى عمليات جراحية بسبب إصاباتهم المهددة للحياة.
كان هذا المقهى أكثر من مجرد مكان للتجمع، لقد كان ضروريًا لعائلتي، حيث كان أبناء وبنات أخي يشحنون هواتفهم هناك بشكل متكرر ويستخدمون الإنترنت، في محاولة لمواصلة دراستهم المتقطعة.
وقبل أيام قليلة من الهجوم، أرسل أخي صورة له وهو يراقب الأطفال في المقهى، وكان يدرك أن تعرضه للقصف سيكون ضربة مروعة، رغم أن أقاربي نجوا بمعجزة ما، بعد أن غادروا المكان قبل ساعات فقط من الهجوم.
وكان هذا بمثابة ثاني حادثة كادت أن تودي بحياتهم، ففي 26 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تركوا هواتفهم لشحنها في متجر ابن عمي، الذي كان يحتوي على محطة شحن مجانية للجيران تعمل بالطاقة الشمسية، وبعد لحظات من مغادرتهم لجلب الماء، قصفت طائرات الاحتلال المتجر، مما أسفر عن استشهاد كل من كان بداخله.
في غزة، لا يشكل استهداف المدنيين استثناءً، بل واقعاً في “المناطق الآمنة” وأماكن أخرى، قبل وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث أن “السلامة” في غزة هي وهم وكلمة بلا معنى في المكان الذي تلاحق الغارات الجوية فيه العائلات حتى إلى المناطق المخصصة للملاجئ.
في غزة، تقتل العائلات في كل مكان قد تلجأ إليه، في المنازل والمستشفيات والمدارس التي حددتها الأمم المتحدة والخيام.
وفي هذه المناطق الآمنة المزعومة، استشهد أكثر من 60 فرداً من عائلتي الممتدة في محو لأفراد يتوزعون على أربعة أجيال في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما استشهد 35 آخرون من عائلة أخت زوجي في المنطقة الآمنة الجنوبية في غزة في نفس الشهر.
اللامبالاة العالمية
لقد أبلغت العالم بهذه الأهوال، لكن غالباً ما يتم التشكيك بالشهادات الحية للفلسطينيين أو رفضها، بل ويتم التعامل مع معاناتنا وقلقنا باللامبالاة، حيث نظل وسط الصمت والشك العالميين نتساءل عما إذا كانت كلماتنا وصراخنا وخسائرنا مهمة لأي شخص خارج حدود غزة المحاصرة.
وبعد أكثر من 430 يومًا من الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال، لا يزال مليوني فلسطيني محاصرين في معسكر اعتقال، رهائن لنظام فاشي يميني عازم على الإبادة تحت ستار الدفاع عن النفس وهو ادعاء لا يدعمه القانون الدولي.
ولعقود من الزمن، رفع الفلسطينيون أصواتهم، ونشروا عن حقائق معاناتهم واحتلالهم والتطهير العرقي الذي يتعرضون له، ولكن يبدو أن العالم لا يبالي بهذه الصرخات.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التقطت صديقتي عبير هذا الإحباط على صفحتها على الفيسبوك، وكتبت: “بعد عام واحد وما زلنا نحصي، فقدنا أصواتنا، لقد سئمنا من إخبار العالم بما يحدث لأن الأفعال تكررت مراراً وتكراراً، نحن ضحايا صمتكم، لا غفر الله لكم جميعاً”.
هذه ليست قصة غزة فحسب، بل إنها المحنة التي لا تنتهي لشعب أجبر على تحمل قرن من المعاناة والعنف الاستعماري الاستيطاني الذي لا ينبغي لأي إنسان أن يواجه مثله.
إن الأسر التي أحرقت حتى الموت ليست أرقاماً بلا وجوه، وإن صمت العالم في مواجهة مثل هذه الأهوال يرقى إلى مستوى التواطؤ، ونحن الآن في حاجة إلى عمل عالمي حاسم لإنهاء الإبادة الجماعية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)