بقلم جو غيل
سأبدأ مقالتي بالتعبير عن أسفي لأننا لن نشهد مناظرات عن أصل الحضارات البشرية بعد اليوم، ما بين العظيم الراحل ديفيد غريبر والبروفيسور الذي يتم الترويج له بشكل مبالغ فيه يوفال نوح هراري، والذي يمكن لي وصفه ب”موزع خرافات التنوير حول التطور البشري”، والسبب رحيل غريبر، الناشط وعالم الأنثروبولوجيا عام 2020 ، قبل فترة وجيزة من نشر كتابه الأخير “فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية”، وكأن الكتاب كان وصيته الأنسب بعد عمر كرسه في تحدي العقيدة الرأسمالية في العلوم الإنسانية والسياسية، خاصة تجاهلها للمجتمعات المركبة التي أنشأها البشر الأوائل.
بشكل ما للأسف، استطاعت السردية الرأسمالية لتطور البشر النجاة في ظل أدلة تتزايد يوماً بعد يوم على أن الانتقال إلى الزراعة ثم تكوين الدول والامبراطوريات هو أبعد الاحتمالات عن الحقيقة ولكن يتم عكسها في كثير من الأحيان
ويعد الكتاب، الذي شارك في تأليفه عالم الآثار ديفيد وينجرو، رداً مذهلاً وصلباً على وحوش السرديات العريقة لتطور التاريخ البشري، مثل جارد دايموند وستيفن بينكر ويوفال هريري، ويعود الفضل في ذلك إلى عدد من علماء الآثار والإنسان الذين أدى بحثهم في العقود الأخيرة إلى المزيد من الأدلة على أن مجتمعات البشر الأوائل المتنقلين خلفت مواقع أثرية وأقامت مستوطنات كبيرة في عصور ما قبل التاريخ الميلادي.
في المقابل، يرفض رواد نظرية التطور التقليديون الاعتراف بوجود حضارة لدى البشر الأوائل تعود إلى ما قبل 3 آلاف إلى 9 آلاف سنة قبل الميلاد، ويصرون على أن البشر لم يكن لديهم حضارة قبل اكتشاف الزراعة، وإن وجد يكون أمراً “شاذاً عن القاعدة” برأيهم، لأنها وبحسب وصف غريبر ووينجرو في كتابهما كانت تتركز في مناطق جغرافية مثل الأمريكتين وأفريقيا وأوقيانوسيا.
ويعد موقع غوبكلي تبه جنوب تركيا من أشهر المواقع الأثرية الدالة على قدم الحضارة البشرية، ويعتقد أنه يرجع إلى حوالي 9 آلاف عام قبل الميلاد، حيث يحتوي على ما يقال أنه أقدم معبد في العالم، بالإضافة إلى تماثيل ومجسمات، يتجاهلها هريري في كتابه “العاقل”، رغم أنها سبقت العصر الحجري ب7 آلاف عام، كما سبقت ما يعتبرها التقليديون الحضارة البشرية الأولى في منطقة الهلال الخصيب.
موقع غوبكلي تبه هو أحد تلك المواقع الأثرية الدالة على أن الإنسان الأول، الذي كان يصيد ويجمع الطعام، استطاع تأسيس حضارة، وهو أمر يستدعي إعادة التفكير في النظريات التقليدية حول ارتباط نشوء الحضارة بما يسمى “الثورة الزراعية” بلا شك، هذا ما تحدث عنه غريبر في كتابه، مشيراً إلى أن هذه الحضارات القديمة تشكل جزءاً مهماً في القصة التقليدية لتطور حضارة الهلال الخصيب في منطقة الشرق الأوسط قبل 5 آلاف عام.
أما يوفال هريري، فهو يرجع النظرة التقليدية لتطور الإنسان في كتابه “العاقل” إلى العصر الحجري ويعتبره منشأ الإنسان الأول، ويقول ” أهم ما يجب معرفته عن البشر الأوائل هو أنهم كانوا حيوانات لم تؤثر في بيئتها المحيطة بأكثر مما كانت تؤثر به حيوانات الغوريلا أو الحشرات أو قناديل البحر”، معتبراً أن مجيء ما أسماها “الثورة المعرفية” حول البشر من قبائل بدائية إلى مجتمعات زراعية تقتات على القمح وتطورت بدورها إلى دول ثم ممالك وصولاً إلى الحداثة الرأسمالية، في عملية أوصلت البشر في النهاية برأي هريري إلى أفضل تطور على الإطلاق ضمن منظومة “الرأسمالية النيوليبرالية العالمية”.
بشكل ما للأسف، استطاعت السردية الرأسمالية لتطور البشر النجاة في ظل أدلة تتزايد يوماً بعد يوم على أن الانتقال إلى الزراعة ثم تكوين الدول والامبراطوريات هو أبعد الاحتمالات عن الحقيقة ولكن يتم عكسها في كثير من الأحيان.
أسطورة “النبيل والهمجي”
يذكرنا غريبر ووينجرو في كتابهما، أن فكرة “النبيل والهمجي” التي ارتبطت بنظرية التطور التقليدي للحضارات من الزراعة إلى النظام الإقطاعي والحكم بالوراثة ثم استغلال البشر انتهاء بالاستبداد السياسي، لا يوجد ما يدعمها من أدلة، فهي لا تتجاوز كونها نظرية تخمينية من قبل مفكرين أوروبيين في القرن ال18 مثل جان جاك روسو.
فقد أشار غريبر في كتابه “فجر كل شيء” إلى أن اكتشاف الإنسان للزراعة في المنطقة التي تضم الأردن وسوريا والعراق وتركيا اليوم، قبل 11 ألف عام، لم يدفعه إلى تغيير نمط الصيد والتنقل وإنما كان مكملاً لها، فكانوا يستوطنون منطقة ويزرعونها في موسم الزراعة ويتفرقون على شكل مجموعات متنقلة في مواسم الصيد، الأمر الذي يؤكد على أن الاعتماد على الزراعة للمعيشة أخذ قرابة 3 آلاف عام.
على عكس البشر الصيادين الذين كانوا يذهبون إلى المناطق النائية، كان البشر الأوائل الذي يصطادون الأسماك يعيشون قرب الشواطئ ومجاري ومصبات الأنهار، حيث تتوفر الأسماك والحيوانات والمحاصيل البرية التي يسهل الحصول عليها، وذلك من أجل توفير مخزون فائض للمستوطنات والمعابد، كما نرى قرب نهر المسيسيبي في أمريكا الشمالية ومنطقة ستون هنج في إنجلترا.
لم يكن في تلك المجتمعات نظام الطبقية ولم تتطور إلى ممالك تحكمها عائلات بالوراثة، كما حدث لاحقاً، وإنما اقتصرت الطبقية على مناصب دينية أو مقدسة فقط، كما أن الثروة لم تكن متوارثة كما في النظام الإقطاعي، بل كانت ملكية الأرض مجتمعية وغالباً ما يتم التناوب على الاستفادة منها، باستثناء الرومان الذين أشار غريبر إلى أنهم الذين أسسوا لمفهوم الملكية المطلقة الخاصة للممتلكات بدل الإشراف عليها.
إسقاط الرأسمالية بالعكس!
خلاصة القول أن تلك المجتمعات القديمة لم تكن في عجلة من أمرها لبناء دولة أو طبقات اجتماعية، أو نظام ملكية خاصة، فقد ادعت الكتابات التاريخية التقليدية أن تطور الاقتصاد الحديث يرجع إلى وجود عدم مساواة وأنماط لتراكم رأس المال في تلك المجتمعات البدائية، غير أن ذلك في الحقيقة يمثل العصر الحديث، ولا توجد أدلة تثبت ذلك حتى!
بالنسبة لأوروبا، فإن حقبة الزراعة التي وصلت إلى أوروبا قبل 5 آلاف عام، مكثت لعدة مئات من السنين قبل أن يتم القضاء بالقوة على تجمعات المستوطنين المزارعين من قبل القبائل المتنقلة، أمر تدل عليه مقابر جماعية قديمة، تم استحداث الزراعة بعدها من جديد.
” كانت المجالس الشعبية وتجمعات المواطنين سمات مستقرة في حكومة بلاد الرافدين”
كتاب “فجر كل شيء”
ويشير صناع كتاب “فجر كل شيء” أن المدن القديمة في أوكرانيا ومنطقة بلاد الرافدين في الألفية الرابعة قبل الميلاد، كانت تتمتع بالمساواة والنظام دون الحاجة لوجود ملوك أو معابد أو قصور ملكية لحكمها، وإن وجد ملك ما فكان عليه أن يكون حذراً في تصرفاته، يقول غريبر ” كانت المجالس الشعبية وتجمعات المواطنين سمات مستقرة في حكومة بلاد الرافدين”، بالإضافة إلى جيرانهم من الحثيين والفينيقيين والفلسطينيين الكنعانيين، أمر كان سابقاً حتى لمجالس أثينا التي توصف عادة بأنها موطن ولادة الديمقراطية.
ويضيف غريبر أن ” أول حرب ارستقراطية في نهاية الألفية الرابعة ظهرت كمعارضة للمجتمعات المدنية في بلاد الرافدين”، فالصدام بين النخب الارستقراطية والمجتمعات المدنية سمة شائعة عبر التاريخ.
ولعل علامة الاستفهام الأهم التي يثيرها كتاب “فجر كل شيء”، هي التشكيك في نظرية التطور البشري أحادية الاتجاه تجاه الزراعة فالوراثة ثم الدول والممالك وصولاً إلى الرأسمالية، باعتبار أن أهل تلك النظرية وجدوا فيها توجهاً مناسباً لإسقاط الأيديولوجية الرأسمالية كحقبة تاريخية خاصة وهي التي لم يتجاوز عمرها 500 عام من تاريخ طويل من المجتمعات البشرية المتنوعة!
“نقد السكان الأصليين”
في الوقت الذي تنتشر فيه قناعة عامة بين كثير من المؤرخين في الغرب أن الحضارة الغربية هي الأكثر تمثيلاً للقيم الأخلاقية والحضارية إذا ما قورنت بمن يسمونهم الطغاة والبربر قديماً، فإن شعب الويندات، أحد قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، ما زالوا يحملون نظرة قاتمة تجاه المجتمع الأوروبي الذي حاربهم قبل 300 عام، وهذا ما يسميه الكتاب “نقد السكان الأصليين”.
أشهر هؤلاء النقاد الأصليين، كانديارونك، أحد فلاسفة الهنود الحمر، الذي قال في نقد سلوك الفرنسيين المستعمرين، ” أن يعيش المرء في بلد غنياً ويحافظ على روحه يشبه الحفاظ على الروح في قاع بحيرة، فالمال سيد البذخ والفسق والمؤامرات والكذب والخداع والخيانة والنفاق، أسوأ السلوكيات البشرية”.
ربما لا يتفق غريبر وهريري إلا على أمر واحد فقط، وهو إدراك أن قدرة الإنسان على ابتكار القصص والأساطير والنظريات وتغييرها، هو موهبة الإنسان الفريدة التي تؤهله لإحداث التغيير في العالم إذا أراد ذلك.