بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
كان خبر وفاة رئيس الولايات المتحدة الأسبق جيمي كارتر قبل أيام في 29 ديسمبر عن عمر يناهز 100 عام، بمثابة لحظة أعادت شريطاً من الذكريات لدى العديد من الأشخاص من أبناء جيلي، من طلاب السبعينيات الذين يتذكرون رئاسته بين الحنين إلى ماضي الصحوة المريرة ونقاط التحول التاريخية في التاريخ الأمريكي والعالمي.
لم يغير كارتر السياسة بشكل كبير، ولكنه ساعد في تغيير المسار التاريخي لبلدي إيران خلال رئاسته المضطربة التي استمرت لفترة واحدة من عام 1977 إلى عام 1981.
خلال تلك الفترة، حدثت الثورة الإيرانية في الفترة 1977-1979 وأزمة الرهائن في إيران في الفترة 1979-1981 تحت إشراف كارتر، وكان ذلك في الفترة التي وصلت فيها إلى الولايات المتحدة.
لقد ولدت ونشأت في جنوب إيران وتخرجت من جامعة طهران عام 1975، وبعد فترة وجيزة حصلت على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة وقبولاً في جامعة بنسلفانيا، حيث حصلت على درجة الدكتوراه في علم اجتماع الثقافة.
في ذلك الوقت، كان كارتر قد استلم منصبه حديثاً، وبدأت ملامح طريق ينجر فيه الرئيس المنتخب حديثاً وإدارته إلى مستنقع السياسة الخارجية الذي قد كلفه خسارة فترة ولاية ثانية
عندما هبطت الطائرة في مطار فيلادلفيا الدولي الصغير في 15 أغسطس عام 1976، كان الأمريكيون يحتفلون بالذكرى المئوية الثانية لتأسيس بلدهم، وقبل ذلك بأسابيع قليلة، كان هناك أول مناظرة متلفزة بين الرئيس جيرالد فورد وكارتر، وأذكر أن لغتي الإنجليزية لم تكن جيدة بما يكفي لمتابعة المناقشة عن كثب، ومع ذلك، فقد أصبح كارتر منذ تلك اللحظة جزءاً لا يتجزأ من تاريخي الشخصي والسياسي.
لقد حدثت مناظرتان أخريان بين المرشحين الرئاسيين في ذلك العام، وفي إحدى المناظرات أهان كارتر فورد بأنه “لا يستطيع مضغ العلكة والتحدث في نفس الوقت” ، في إشارة إلى سلوكه الأخرق إلى حد ما. والموقف الآخر كان بالعكس حين أهان فورد كارتر بأنه كان مزارعاً يزرع الفول السوداني.
بعد عقود من الزمن، يمكن القول أن الرجل الذي ارتحل مؤخراً يكاد يكون الرئيس الأكثر أهمية في جيله، ليس فقط بسبب ما فعله أو لم يفعله، ولكن من خلال العواقب المقصودة وغير المقصودة لأفعاله وتقاعسه عن العمل وتصرفاته، وقبل كل شيء، مغامراته.
خطر مرتقب
في الوقت الذي كنت أتعرف فيه حديثاً على السياسة الأمريكية، كانت هناك بداية الزخم الثوري في الوطن الذي كنت قد غادرته حديثاً آنذاك، إيران، فبين عامي 1977 و1979، نجح آية الله الخميني المسن في الإطاحة بالنظام الملكي البهلوي الحاكم، وسرعان ما حلت محله الجمهورية الإسلامية.
في ذلك الوقت، كان كارتر قد استلم منصبه حديثاً، وبدأت ملامح طريق ينجر فيه الرئيس المنتخب حديثاً وإدارته إلى مستنقع السياسة الخارجية الذي قد كلفه خسارة فترة ولاية ثانية.
لقد أدى الزخم الثوري الذي اكتسبته إيران إلى سقوط النظام الملكي البهلوي، وهو الأمر الذي حمل العديد من الملكيين المتآمرين كارتر المسؤولية عنه حتى يومنا هذا، فهم يشككون في مؤتمر جوادلوب الذي استمر 4 أيام في يناير عام 1979، حيث انضم زعماء بريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية إلى كارتر لمناقشة مختلف القضايا العالمية ومن بينها الثورة الإيرانية، حيث اعتقد الملكيون الإيرانيون أن كارتر كان قد أعطى إشارة مفادها أن الشاه يجب أن يرحل.
إن نظريات المؤامرة هذه منتشرة في الثقافة السياسية الإيرانية، وترتكز على إنكار أي دور للشعب الإيراني نفسه، ولذلك يظل إرث كارتر مرتبطاً بالتطور الثوري الذي لا يزال يؤثر على إيران حتى يومنا هذا إلى الأبد.
بعد شهر واحد فقط من مؤتمر جوادلوب، سقط نظام الشاه في فبراير من ذلك العام، وعاد الخميني إلى إيران، وفي الصيف التالي، كنت قد عدت أنا إلى إيران لأرى بنفسي ما يحدث من تطورات، فكنت جزءاً من الزخم الثوري الذي غير مصير وطني لمدة شهرين تقريباً، حيث كنت أقضي معظم وقتي في حرم جامعة طهران والمناطق المجاورة وأشارك في المناقشات والنقاشات المتعلقة بمشروع الدستور الجديد قبل أن أتوجه إلى وزارة العدل، حيث كانت النساء يتظاهرن ضد الاقتراح بعدم إمكانية توليهن منصب قاضيات في الدستور الجديد.
في أوائل سبتمبر من ذلك العام، عدت إلى دراستي العليا، وهنا امتدت الاضطرابات الموجودة في وطني مرة أخرى إلى جميع أنحاء العالم لتصل إلى حرم جامعة بنسلفانيا، حيث كان النشطاء من الطلاب مشغولون بمناقشة الثورة الإيرانية.
لسوء حظ كارتر، تعرضت المروحيات المرسلة لأعطال ميكانيكية، وكان لا بد من إلغاء العملية، وفي الوقت الذي كانت فيه القوات تنسحب من نقطة الالتقاء، وقع اصطدام في الجو بين طائرة هليكوبتر وطائرة، مما أسفر عن مقتل 8 جنود أمريكيين
خلال ذلك الخريف المشؤوم، تسببت أزمة الرهائن في إيران، والتي تم فيها احتجاز 52 أمريكياً في السفارة الأمريكية في طهران لمدة 444 يومًا من 4 نوفمبر عام 1979 إلى 20 يناير عام 1981، بشلل في إدارته حتى خسر أمام رونالد ريغان هزيمة كارثية، وهنا بدأ التحول إلى السياسة الرجعية في الولايات المتحدة.
كان أول ما فعله كارتر رداً على أزمة الرهائن هو إلغاء تأشيرات الطلاب الإيرانيين، فكان علينا تقديم تقرير إلى خدمات الهجرة لإصدار تأشيرات جديدة، وبقينا عالقين في الولايات المتحدة حتى نهاية الأزمة.
في تلك الأيام، أصبح مذيع الأخبار البارز تيد كوبيل اسماً مألوفاً حيث كان يبث كل ليلة برنامجاً تلفزيونياً على شبكة ABC بعنوان Nightline، يحصي الأيام ويشرح بالتفصيل محن الرهائن الأمريكيين.
لسنوات عديدة، كانت هناك تقارير تفيد بأن حملة ريغان الرئاسية كانت على اتصال مع الثوار الإيرانيين لتأخير وتأجيل إطلاق سراح الرهائن حتى وصوله إلى منصبه، وهذا هو بالضبط ما تطورت إليه الأمور.
أتذكر ذلك اليوم حين خرجت من مكتبة فان بيلت في بنسلفانيا وأنا أسمع عبر راديو ترانزستور أخباراً عن إطلاق سراح الرهائن خلال حفل تنصيب ريغان!
“متلازمة فيتنام”
لعل ما ساهم في هزيمة كارتر بشكل كبير هو المهمة العسكرية الكارثية التي أذن بها لإنقاذ الرهائن، فقد جرت محاولة إطلاق الرهائن في 24 أبريل عام 1980، ضمن ما أطلق عليه عملية “مخلب النسر” أو “عملية تاباس” في إيران.
لسوء حظ كارتر، تعرضت المروحيات المرسلة لأعطال ميكانيكية، وكان لا بد من إلغاء العملية، وفي الوقت الذي كانت فيه القوات تنسحب من نقطة الالتقاء، وقع اصطدام في الجو بين طائرة هليكوبتر وطائرة، مما أسفر عن مقتل 8 جنود أمريكيين.
في ذلك الوقت، ترددت أنباء عن ملياردير تكساس والمرشح الرئاسي المستقبلي روس بيرو، والذي قام بالترتيب لمهمة إنقاذ ناجحة خاصة به، حيث نجح في سحب اثنين من موظفيه من إيران، مستخدماً موارد شركته والعقيد المتقاعد في الجيش الأمريكي، آرثر دي “بول” سيمونز، كما ورد في كتاب كين فوليت الأكثر مبيعاً حول العالم “على أجنحة النسور”.
في ذلك الوقت، ظهر مصطلح “متلازمة فيتنام”، في إشارة إلى الإهانة التي تعرض لها كارتر بسبب فشله العسكري، والذي يعبر عن إحجام الولايات المتحدة عن الانخراط في عمليات عسكرية في أراضٍ بعيدة، ففي السنوات التي تلت ذلك، كانت مهمة ريغان الوحيدة تتلخص في التغلب على تلك المتلازمة من خلال زيادة هائلة في الإنفاق العسكري.
كان الغزو الأمريكي لمنطقة غرينادا في 25 أكتوبر عام 1983 في مؤشراً مهماً على الثقافة العسكرية لعهد ريغان، فقد أعادت العملية التي أطلق عليها اسم “عملية الغضب العاجل” تأكيد التفوق الأمريكي في المنطقة والتي سرعان ما تطورت إلى اشتباكات عسكرية كاملة في جميع أنحاء العالم، كان أبرزها خلال القصف الأمريكي على ليبيا عام 1986.
لقد أدى ما سمي في النهاية بقضية إيران-كونترا إلى تفاقم الاتجاه العسكري لعقيدة ريغان، عندما كان كبار المسؤولين الأمريكيين، بين عامي 1981- 1986، منخرطين سراً وبشكل غير قانوني في بيع الأسلحة لإيران، واستخدام الأرباح لتمويل حركة الكونترا اليمينية في نيكاراغوا.
بقيت ملتصقاً بالتلفاز لعدة أيام في يوليو عام 1987، أستمع لشهادات الملازم أول أوليفر نورث في جلسة استماع بالكونغرس الأمريكي حول دوره في الفضيحة، فكان ذلك بالنسبة لي بمثابة دورة تدريبية مكثفة حول الولايات المتحدة والسياسة العالمية!
تأرجح نحو اليمين
بدأت الأمور تتدحرج وتتأرجح نحو اليمين في السياسة الأمريكية، فقد أدت رئاسة ريغان في النهاية إلى ظهور المحافظين الجدد ومشروع القرن الأمريكي الجديد خلال عهد جورج دبليو بوش، فيما استمر صعود حركة الشاي بين الجمهوريين، ثم حركة ماغا التي حددت رئاسة دونالد ترامب.
لقد أسفرت أحداث 11 سبتمبر في عهد بوش عن عمليتين عسكريتين ضخمتين، الأولى في أفغانستان والثانية في العراق، وبذلك تعافت السياسة الأمريكية بالكامل من “متلازمة فيتنام”
ولم تسلم إيران من هذا التحول إلى السياسة الرجعية، فقد استخدم الإسلاميون الحاكمون أزمة الرهائن الأمريكيين لتدمير خصومهم داخل الدولة، وذهبوا إلى إطالة أمد الحرب الإيرانية العراقية التي بدأها صدام حسين في سبتمبر عام 1980، والتي كان من الممكن أن تنتهي في غضون بضعة أشهر لكنها استمرت لمدة 8 سنوات كاملة!
واليوم، تعد الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة الثمرة الأخيرة لتلك الحقبة، حيث قاد كارتر اتفاقيات كامب ديفيد التي أسفرت عن معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر عام 1979، وقد تم منذ ذلك الحين توثيق الدور المخزي لمصر و تواطئها في تجويع الفلسطينيين.
ربما يبدو من المبالغة إرجاع جذور كل هذه التطورات إلى رئاسة جيمي كارتر، ولكن الحقيقة هي أن حركات الحقوق المدنية والحركات المناهضة للحرب في الستينيات والتي بلغت ذروتها في نهاية حرب فيتنام، بالإضافة إلى التحول اليميني المتطرف في السياسة الأمريكية في عهد ريغان، قد حدثت لأول مرة في زمن أحد مزارعي الفول السوداني الذي تجرأ لأول مرة على وصف معاملة النظام الإسرائيلي للفلسطينيين بالفصل العنصري، والذي أصبح رئيساً للولايات المتحدة في نفس الوقت سافرت أنا فيه للإقامة والدراسة في الولايات المتحدة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)