بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
عندما جاءت اللحظة الحاسمة، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو الطرف الذي اضطر للتراجع أولاً، فقد أصبح نتنياهو فعلياً هو العقبة الرئيسية أمام وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما تجلى بوضوح قبل أكثر من شهرين مع استقالة وزير دفاعه، يوآف غالانت.
وقتها، قال غالانت، مهندس الإبادة التي استمرت 15 شهراً، بوضوح أنه لم يعد هناك ما يمكن للجيش أن يفعله في غزة، ورغم ذلك أصر نتنياهو على البقاء، كما رفض الاتفاق الذي وقعته حماس بحضور مدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز في مايو الماضي، ومضى في هجومه على رفح بدلاً من ذلك!
الحقيقة العسكرية الواضحة هي أن حماس وبعد مرور15 شهراً، ما تزال قادرة على تجنيد الأفراد وتجديد صفوفهم بسرعة أكبر من قدرة إسرائيل على قتل قادتها أو مقاتليها
وفي سبتمبر الماضي، لجأ نتنياهو إلى خطة الجنرالات من أجل الخلاص، وهي الخطة التي دعت إلى إخلاء شمال غزة استعداداً لإعادة توطين الإسرائيليين، من خلال تجويع وقصف السكان في شمال غزة واعتبار أي شخص لا يغادر طوعاً على أنه إرهابي.
لقد كانت خطة الجنرالات فكرة متطرفة ومتناقضة تماماً مع قواعد الحرب الدولية، حتى أن وزير الدفاع السابق، موشيه يعالون، أدانها باعتبارها جريمة حرب وتطهيراً عرقياً.
لقد كان مفتاح الخطة هو الممر الذي يشكله طريق عسكري وسلسلة من المواقع الاستيطانية التي تقطع وسط قطاع غزة باتجاه البحر، فقد كانت مهمة محور نتساريم الأساسية تخفيض مساحة الأراضي في المنطقة بنحو الثلث فعلياً حتى تصبح حدوداً شمالية جديدة، ولذلك كانت تقتضي عدم السماح لأي فلسطيني تم طرده من شمال غزة بالعودة.
محو خطوط نتنياهو الحمراء
لم يقم أي أحد من إدارة بايدن بإجبار نتنياهو على إعادة التفكير في هذه الخطة، لا الرئيس الأمريكي جو بايدن، الصهيوني بالفطرة والذي استمر في تزويد إسرائيل بالوسائل اللازمة لارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، ولا وزير خارجيته أنتوني بلينكن بالتأكيد، الذي ألقى باللوم على حماس لرفض العروض السابقة في مؤتمر صحفي عقده أثناء وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق وقف إطلاق النار، رغم أن الحقيقة هي عكس ذلك!
لقد أفاد كل صحفي إسرائيلي قام بتغطية المفاوضات بأن نتنياهو هو من رفض جميع الصفقات السابقة، وكان مسؤولاً عن التأخر في التوصل إلى هذه الصفقة، وفي المقابل لم يقتضي الأمر إلا اجتماعاً قصيراً مع المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، ليتوقف نتنياهو عن حربه المستمرة منذ 15 شهراً.
كان اللقاء الواحد مع ويتكوف كفيلاً بمحو الخطوط الحمراء التي رسمها نتنياهو، بل وأعاد رسمها بقوة خلال 15 شهراً، وعلى حد قول الناقد الإسرائيلي إيريل سيغال: “نحن أول من يدفع ثمن انتخاب ترامب، فقد تم فرض الصفقة علينا، لقد ظننا أننا سنسيطر على شمال غزة وأنهم سوف يسمحون لنا بعرقلة المساعدات الإنسانية”.
ويعكس كلام سيغال المزاج السائد في إسرائيل وهو التشكيك في في مزاعم النصر، حيث كتب يوسي يهوشوا في موقع واي نت: “ليست هناك حاجة لتلطيف الواقع، فاتفاق وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن أمر سيئ لإسرائيل، لكن ليس أمامها خيار سوى قبوله”.
إن مسودة اتفاق وقف إطلاق النار المتداولة واضحة في نصها على أن إسرائيل سوف تنسحب من كل من ممر فيلادلفيا وممر نتساريم بحلول نهاية مراحل الاتفاق، وهي شروط رفضها نتنياهو في السابق، كما أن المسودة تشير بوضوح إلى أنه بإمكان الفلسطينيين العودة إلى منازلهم حتى في شمال غزة، ولذلك فقد باءت محاولة تطهيرها بالفشل.
التصدي بالقتال
هناك قائمة طويلة من مواطن الفشل، ولكن قبل أن نذكرها، يجب التأكيد على أن لقاء نتنياهو مع ويتكوف إنما يدلل على مدى اعتماد إسرائيل على واشنطن طوال المذبحة في غزة، فقد اعترف مسؤول كبير في سلاح الجو الإسرائيلي بأن القنابل كانت سوف تنفد من الطائرات في غضون بضعة أشهر لو لم تقم الولايات المتحدة بإعادة تزويدها بالإمدادات.
لقد تغلغلت إلى الرأي العام الإسرائيلي القناعة بأن الحرب تنتهي اليوم دون تحقيق أي من أهداف إسرائيل الرئيسية، فبعد أن شرع نتنياهو والجيش الإسرائيلي في “إسقاط” حماس بعد 7 أكتوبر عام 2023، بات من الواضح أنهم لم يحققوا هذا الهدف.
في غزة، كان تصميم الشعب الفلسطيني على البقاء في أرضه حتى في حين تحولت إلى أنقاض، هو العامل الحاسم في هذه الحرب، وهذا إنجاز مذهل بالنظر إلى أن المنطقة التي تبلغ مساحتها 360 كيلومتراً مربعاً كانت معزولة تماماً عن العالم، ولم يكن هناك من أحد نجح في كسر الحصار عنها ولا هي تملك تضاريس تشكل لها غطاء للبقاء!
من الممكن أن نأخذ بيت حانون في شمال غزة كنموذج مصغر للمعركة التي تصدت بها حماس للقوات الإسرائيلية، فقبل 15 شهراً، كانت بيت حانون تعتبر المدينة الأولى في غزة التي تحتلها القوات الإسرائيلية، بسبب تواجد أضعف كتيبة تابعة لحماس فيها، وبعد أن كان من المفترض أن تؤدي المعارك إلى “تطهير” المدينة من مقاتلي حماس، تبين أن بيت حانون تسببت في واحدة من أكبر خسائر الجيش الإسرائيلي العسكرية.
لقد استمر مقاتلو حماس بالخروج من تحت الأنقاض للتصدي فتحولت بيت حانون إلى حقل ألغام للجنود الإسرائيليين، فمنذ إطلاق العملية العسكرية الأخيرة في شمال غزة، لقي 55 ضابطاً وجندياً إسرائيلياً حتفهم في القطاع، 15 منهم في بيت حانون في أسبوع واحد!
ما من شك في أن الجيش الإسرائيلي أصبح منهكاً ينزف اليوم، فالحقيقة العسكرية الواضحة هي أن حماس وبعد مرور15 شهراً، ما تزال قادرة على تجنيد الأفراد وتجديد صفوفهم بسرعة أكبر من قدرة إسرائيل على قتل قادتها أو مقاتليها.
في تصريحه لصحيفة وول ستريت جورنال، أكد العميد الإسرائيلي المتقاعد أمير أفيفي: “وتيرة إعادة بناء حماس لنفسها أعلى من وتيرة قيام الجيش الإسرائيلي بالقضاء عليها، فمحمد السنوار، الأخ الأصغر لزعيم حماس المقتول يحيى السنوار يدير كل شيء”.
وكل هذا يدل على عدم جدوى قياس النجاح العسكري فقط بعدد القادة الذين قتلوا أو الصواريخ التي دمرت!
عكس التوقعات
عندما يتعلق الأمر بالتحرير، يمكن للضعفاء أن ينجحوا في مواجهة المصاعب العسكرية فهذه الحروب هي معارك الإرادة، وفيها لا تكون المعركة هي ما يهم، بل القدرة على مواصلة القتال، ففي الجزائر وفيتنام، كانت الجيوش الفرنسية والأمريكية تتمتع بتفوق عسكري، ومع ذلك، فقد انسحبت كلتا القوتين بفشل بعد سنوات عديدة.
في فيتنام، كان قد مر أكثر من 6 سنوات على هجوم تيت، الذي كان يُنظر إليه في ذلك الوقت مثلما تم النظر إلى هجوم حماس في 7 أكتوبر عام 2023 على أنه فشل عسكري، لكن الصمود والقتال رغم الحصار أثبت أنه كان العامل الحاسم في الحرب.
وفي فرنسا، لا تزال ندوب الجزائر باقية حتى يومنا هذا، ففي كل حرب تحرير مرت في التاريخ، كان إصرار الضعفاء على المقاومة حاسماً في مواجهة نيران الأقوياء.
وفي غزة، كان تصميم الشعب الفلسطيني على البقاء في أرضه حتى في حين تحولت إلى أنقاض، هو العامل الحاسم في هذه الحرب، وهذا إنجاز مذهل بالنظر إلى أن المنطقة التي تبلغ مساحتها 360 كيلومتراً مربعاً كانت معزولة تماماً عن العالم، ولم يكن هناك من أحد نجح في كسر الحصار عنها ولا هي تملك تضاريس تشكل لها غطاء للبقاء!
لم تتمكن المجاعة ولا انخفاض حرارة الجسم ولا المرض ولا الوحشية والاغتصاب الجماعي من كسر إرادتهم في البقاء على أرضهم، ولم يحدث من قبل أن أظهر المقاتلون والمدنيون الفلسطينيون هذا المستوى من المقاومة في تاريخ الصراع حتى يمكن أن يكون ذلك بمثابة تحول.
لا أبالغ بالقول أن ما خسرته إسرائيل في حملتها لسحق غزة لا يمكن حصره، حيث أهدرت عقوداً من الجهود الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية المتواصلة لترسيخ وجودها كدولة غربية ديمقراطية ليبرالية في نظر الرأي العام العالمي.
ذاكرة الأجيال
لم تخسر إسرائيل الجنوب العالمي، الذي استثمرت فيه في إفريقيا وأمريكا الجنوبية، فحسب، بل فقدت دعم جيل جديد في الغرب، لا ينتمي لجيل بايدن بطبيعة الحال.
لقد اعترف بذلك الرجل الذي رشحه بايدن سفيراً له لدى إسرائيل قبل شهر من هجوم حماس، جاك ليو، ففي مقابلته قبل المغادرة إلى تل أبيب، صرح ليو، وهو يهودي أرثوذكسي، لتايمز أوف إسرائيل بأن الرأي العام في الولايات المتحدة لا يزال مؤيداً لإسرائيل، لكن كلامه تغير لاحقاً.
قال ليو: “ما قلته للناس هنا والذي يجب أن يقلقوا بشأنه عندما تنتهي هذه الحرب هو أن ذاكرة الأجيال لا تعود إلى تأسيس الدولة أو حرب الأيام الستة أو حرب يوم الغفران أو إلى الانتفاضة حتى، بل هي تبدأ من هذه الحرب ولا يمكنك تجاهل تأثير هذه الحرب على صناع السياسات في المستقبل، أي الأشخاص الذين يبلغون من العمر 25 و35 و45 عاماً اليوم والذين سيكونون القادة في المستقبل، فبايدن كان آخر رئيس في جيله يتذكر قصة تأسيس إسرائيل”.
قرر الجيش الإسرائيلي مؤخراً إخفاء هويات جميع الجنود الذين شاركوا في الحملة على غزة، خوفاً من ملاحقتهم أثناء سفرهم إلى الخارج
لقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة في الولايات المتحدة، أن أكثر من ثلث المراهقين اليهود الأمريكيين يتعاطفون مع حماس، فيما يعتقد 42% بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، وهناك 66% ممن يتعاطف مع الشعب الفلسطيني ككل.
ولو عدنا لعامين سابقين، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن ربع اليهود الأمريكيين يتفقون على أن “إسرائيل دولة فصل عنصري”، فيما لم يجد عدد كبير من المشاركين في الاستطلاع أن هذا التصريح معادٍ للسامية.
تدمير عميق
لقد أصبحت الحرب في غزة هي المنظور الذي يرى من خلاله جيل جديد من زعماء العالم في المستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهذه خسارة استراتيجية كبيرة لدولة ظنت أنها وحتى 6 أكتوبر عام 2023 قد أغلقت قضية فلسطين وأن الرأي العالمي أصبح في جيبها، لكن الحال جاء على عكس التوقعات.
إن الاحتجاجات المناهضة للحرب، والتي أدانتها الحكومات الغربية في البداية باعتبارها معاداة للسامية ثم تم اعتبارها إرهاباً، قد خلقت بالفعل جبهة عالمية لتحرير فلسطين، واصبحت حركة مقاطعة إسرائيل أقوى من أي وقت مضى.
لقد باتت إسرائيل الآن في قفص الاتهام أمام العدالة الدولية وهو ما لم يحدث من قبل، ولا يقتصر الأمر على صدور أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب، أو قضية إبادة جماعية مستمرة في محكمة العدل الدولية، ولكن هناك عدداً لا يحصى من القضايا الأخرى والتي على وشك أن تتدفق على المحاكم في كل ديمقراطية غربية كبرى.
لقد تم رفع دعوى قضائية في المملكة المتحدة ضد شركة بريتيش بتروليوم لتزويدها النفط الخام إلى إسرائيل، والذي يُزعم أن الجيش الإسرائيلي يستخدمه من خط أنابيبها من أذربيجان إلى تركيا.
من ناحية أخرى، فقد قرر الجيش الإسرائيلي مؤخراً إخفاء هويات جميع الجنود الذين شاركوا في الحملة على غزة، خوفاً من ملاحقتهم أثناء سفرهم إلى الخارج، في خطوة أشعلت مجموعة ناشطة صغيرة تحمل اسم هند رجب، وهي الطفلة ذات الستة أعوام والتي قتلتها القوات الإسرائيلية في غزة في يناير عام 2024.
لقد قدمت المجموعة التي تتخذ من بلجيكا مقراً لها أدلة ضد 1000 إسرائيلي على ارتكاب جرائم حرب إلى المحكمة الجنائية الدولية، تضمنت مقاطع فيديو وصوت وتقارير الطب الشرعي وغيرها من الوثائق.
وفي ذلك السياق، يشكل وقف إطلاق النار في غزة بداية الكابوس الإسرائيلي، فالتحركات القانونية لن تكتسب إلا زخماً مع كشف حقيقة ما حدث في غزة وتوثيقه بعد انتهاء الحرب.
انقسامات داخلية
في الداخل الإسرائيلي، ينتظر نتنياهو بلداً أكثر انقساماً من أي وقت مضى، فهناك معركة بين الجيش والحريديم الذين يرفضون الخدمة، وهناك معركة بين الصهاينة العلمانيين والصهاينة المتدينين القوميين، ومع انسحاب نتنياهو من غزة، يشعر اليمين الاستيطاني المتطرف بأن فرصة إقامة إسرائيل الكبرى قد انتزعت منهم، كما كانت هناك هجرة جماعية غير مسبوقة لليهود من إسرائيل.
أما على المستوى الإقليمي، فلا تزال لدى إسرائيل قوات في لبنان وسوريا، وسوف يكون من الحماقة اعتبار العمليات في سوريا ولبنان على أنها استعادة للردع الذي فقدته إسرائيل مع هجوم حماس في 7 أكتوبر عام 2023.
من ناحية أخرى، ربما تلقى محور المقاومة الإيراني بعض الضربات المتواصلة بعد القضاء على قيادة حزب الله، وبعد أن وجد نفسه ممتداً بشكل مفرط في سوريا، ولكن مثل حماس، لم يتم القضاء على حزب الله كقوة مقاتلة.
من جهة أخرى، فإن محاولة إسرائيل السافرة لتقسيم سوريا إلى كانتونات تعتبر استفزازية للسوريين من جميع الطوائف والأعراق، كما أن خططها لضم المنطقتين “ب” و”ج” من الضفة الغربية تشكل تهديداً وجوديا للأردن، حيث يمكن التعامل مع الضم في عمان على أنه بمثابة إعلان حرب.
سوف يكون تفادي الصراع عملاً يتطلب عقوداً من إعادة الإعمار، ولكن ترامب ليس رجلاً صبوراً، وربما يبدو صحيحاً بأن حماس وغزة ربما تصبح ثانوية في الفترة القادمة، فمع التكلفة الهائلة في الأرواح تأثرت كل أسرة بالخسارة، ولكن ما حققته غزة سوف يؤدي إلى إحداث تغيير جذري في الصراع.
لقد أظهرت غزة للفلسطينيين والعالم أنها قادرة على الصمود في وجه حرب شاملة، فهي تعلن للعالم اليوم بفخر بأن المحتلين ألقوا علينا كل ما لديهم ولم يتمكنوا من خلق نكبة أخرى
وتؤكد غزة لإسرائيل مجدداً أن الفلسطينيين موجودون، وأنهم لن يهدأوا إلا إذا قبل الإسرائيليون التفاوض معهم على قدم المساواة حول الحقوق المتساوية، ورغم مرور سنوات قبل إدراك إسرائيل لذلك، إلا أن البعض قد بدأ يصرح به بالفعل، كما قال الكاتب في هآرتس، يائير أسولين: “حتى لو غزونا الشرق الأوسط بأكمله، وحتى لو استسلم الجميع لنا، فلن نفوز في هذه الحرب”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)