بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في العالم الغربي، من الممكن حل بعض الكوارث أحياناً ببث إعلامي، فأقصى ما فعلته بي بي سي مثلاً هو استضافة برنامج “اليوم” من منطقة أوشفيتز، وتخصيص يوم كامل من البث عبر عدة قنوات للذكرى الثمانين لتحرير المنطقة إبان الهولوكوست.
في مناطق أخرى مثل بولندا، يمكن أن تنخفض جودة الخطوط لتصبح على شكل انقطاع لثوانٍ مثلاً، والأسوأ من ذلك هو أن مواضيع أخرى قد تطغى على الحدث نفسه.
في نفس الوقت الذي كان فيه رجال الدولة في معسكر الاعتقال السابق يتجمعون، كان هناك مئات الآلاف من الفلسطينيين، الذين عانوا لمدة 15 شهراً من قصف الإبادة الجماعية والمجاعة والمرض على يد دولة ولدت في أعقاب المحرقة، يسيرون لساعات عائدين إلى شمال غزة.
لقد سجل يوم الاثنين 27 يناير اليوم الأول الذي مارس فيه الفلسطينيون حقهم في العودة إلى الأراضي التي تحاول إسرائيل طردهم منها في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
في المشهد الأول في بولندا، كان هناك اثنان من الغائبين البارزين عن التجمع، فالأول والأكثر وضوحاً كان رئيس الدولة التي حررت قواتها معسكر الموت النازي، فلاديمير بوتين، والغائب الثاني كان رئيس وزراء البلاد الذي بذل قصارى جهده في حياته السياسية الطويلة للاستفادة من الذنب الأوروبي حول المحرقة، وذلك لتبرير محاولات إسرائيل المتكررة لتطهير فلسطين عرقياً من جميع الفلسطينيين.
على صعيد آخر، كانت هناك أسباب عملية لعدم حضور بنيامين نتنياهو في أوشفيتز، فهو خائف من الاعتقال بموجب مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، والثاني هو اضطراره للمثول أمام محكمة إسرائيلية بتهم متعددة بالفساد.
تناقض صارخ
لم تنقل القنوات التلفزيونية الإسرائيلية الحدث من أوشفيتز، وذلك ليس بغريب بالنظر إلى معاملة إسرائيل الرديئة تاريخيا للناجين من المحرقة، فقد واصلوا جداول البرمجة العادية.
ومع ذلك، لم يمر هذا النفاق الذي اتسم به رد الفعل هذا تجاه ذكرى سنوية مهمة في التاريخ اليهودي، والتناقض الصارخ مع ما مثله هذا من استغلال إسرائيل المعتاد لكل فرصة لاتهام منتقديها بـ “معاداة السامية” و”إنكار المحرقة”، دون أن يلاحظه أحد.
لم ينسَ أحد الحيلة المشينة التي قام بها نتنياهو عندما أمر بوضع نجوم صفراء على بدلات وفد إسرائيل إلى الأمم المتحدة بعد 7 أكتوبر عام 2023، وهي الحيلة التي أدانها رئيس متحف ياد فاشيم التذكاري للهولوكوست باعتبارها إهانة لضحايا الإبادة الجماعية ودولة إسرائيل، فيما اكتفت بي بي سي وقتها باعتبار أن “كل ما عليك فعله هو محو الأخبار التي لا تتناسب مع خطك”.
لقد كان هذا أمراً واضحاً من الأعلى، لأن كل محرري فعلوا ذات الشيء، وفي اليوم التالي، خصصت قناة بي بي سي 22 دقيقة لإحياء ذكرى الهولوكوست مقابل 4 دقائق فقط لعودة النازحين في غزة.
لقد تم تأطير إحياء ذكرى الهولوكوست كرسالة إلى عالم اليوم، حيث أكد متحدث تلو الآخر على أن دروس المحرقة لا ينبغي أن تموت مع آخر الناجين المتبقين باعتبار ذلك طريقة لمواجهة معاداة السامية في جميع أنحاء العالم.
لا يختلف أحد على ذلك، ولكن أوجه التشابه بين ما فعله النازيون باليهود وما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة ليست مجرد أوجه تشابه خطابية أو جدلية، ولكنها تشكل أساساً لوجود قانونين.
في برنامج “اليوم” على بي بي سي، قاد فيليب ساندز، الخبير القانوني في جرائم الحرب، المستمعين عبر التاريخ لمحاولات جعل الإبادة الجماعية جريمة حرب، فذكر كلمة “غزة المحظورة”، لكنه حاول القول بأنه مهما كان الاسم الذي يمكن أن يُطلق على أفعال إسرائيل في فلسطين وغزة، فإن تهمة الإبادة الجماعية التي وجهتها جنوب إفريقيا ودول أخرى معروضة حالياً على محكمة العدل الدولية، ولكن لم يتمكن كل من المقدم والضيف على حد سواء، من التعليق على القضية التي لا تزال حية، فلا يمكنهم المساس بهيئة المحلفين، بل يجب عليهم أن يصمتوا لأسباب مختلفة.
تاريخ لا ينسى
ولا تقل المناقشة حول تصرفات إسرائيل في غزة حيوية حتى في إسرائيل نفسها، حيث قام اثنان من مؤرخي المحرقة الإسرائيليين، دانييل بلاتمان وعاموس غولدبرغ، بالحديث عن مقارنات مروعة وخلصا إلى ما يلي: “على الرغم من أن ما يحدث في غزة ليس أوشفيتز، إلا أنه من نفس العائلة، فهو جريمة إبادة جماعية”.
من قبيل المفارقة، فقد كان نتنياهو هو السبب وراء هذا التصادف الزمني بين الحدثين الكبيرين في نفس اليوم، أكبر عودة للفلسطينيين إلى الأرض التي طردوا منها في تاريخ الصراع وذكرى تحرير أوشفيتز، فقراره بمنع الفلسطينيين من العودة يوم السبت كما كان من المقرر هو الذي أخر المسيرة الطويلة شمالاً لمدة يومين.
نهاية الحصار المفروض على شمال غزة سوف يُسجل في التاريخ الفلسطيني مثلما سُجل سقوط حصار لينينغراد، الذي حدث أيضاً في 27 يناير، في التاريخ الروسي خلال الحرب العالمية الثانية
من خلال قيامه بذلك، يكون نتنياهو وزمرة المتعصبين الدينيين المحيطين به هم من رسموا حدثاً جديداً سوف يكتب في التاريخ الإسلامي والعربي من غير قصد منهم، فيوم 27 يناير هذا العام لم يكن يوماً عادياً في التقويم الإسلامي، فقد كان اليوم 27 من شهر رجب، والذي يحتفل فيه المسلمون بليلة الإسراء والمعراج وهي المناسبة التي تربط المسلمين بالأقصى.
هناك حدث آخر مهم في التاريخ الإسلامي في هذا اليوم، وهو اليوم الذي حرر فيه صلاح الدين الأيوبي القدس من الصليبيين عام 1187 منهياً ما يقرب من قرن من الاحتلال الصليبي، والآن أضاف نتنياهو ذكرى ثالثة إلى اليوم 27 من رجب.
بين الفرح والتحدي
لقد سجل يوم الاثنين 27 يناير اليوم الأول الذي مارس فيه الفلسطينيون حقهم في العودة إلى الأراضي التي تحاول إسرائيل طردهم منها في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فالمشاهد التي شهدناها في مسيرتهم الطويلة إلى ديارهم وممتلكاتهم على ظهورهم، هي مشاهد ملحمية وتاريخية، ليس فقط بسبب الصور نفسها، ولكن بسبب الصدى الذي سوف يتركه هذا الحدث على كل جيل سوف يأتي من الفلسطينيين.
إن غزة تثبت لكل فلسطيني وللعالم أجمع أن حق شعبها في العودة ليس ممكناً فحسب، بل هو في متناول أيديهم، وقد عاد الآن ما يقدر بنحو 500.000 فلسطيني إلى الشمال، وهم على علم تام بأن منازلهم عبارة عن شظايا من الطوب والخرسانة، وأنهم قد لا يرون مرة أخرى أفراد عائلاتهم الذين تركوهم وراءهم.
إنهم فرحون ومتحدون ومصممون على الرجوع، فعلى حد قول سيدة غزية وصلت بيت حانون لموقع ميدل إيست آي: “الشمال هو القلب والروح، والشمال هو الأرض التي فقدناها، ونأمل أن نلتف حول أرض بيوتنا وأرض شعبنا الضائع”.
لقد أكد الشعب الفلسطيني وإلى الأبد ارتباطه بهذه الأرض، وهذا هو انتصار الروح الإنسانية على القمع المنظم، وهو ذات الدرس المستفاد من الهولوكوست
لقد عانى شمال غزة من أطول وأصعب فترة احتلال طيلة 471 يوماً من الحرب مقارنة بغزة بأكملها، فقد كان هذا هو المكان الذي حاولت إسرائيل تطهيره مراراً وتكراراً من مقاتلي حماس ومن جميع المواطنين من خلال محاولة تجويعهم، فقد قُتل أو فقد ما لا يقل عن 5000 شخص، وأصيب 9500 آخرون، نتيجة حملة التطهير العرقي التي أطلق عليها اسم “خطة الجنرالات”، والتي بدأت في أوائل أكتوبر عام 2024، حسبما قال مصدر طبي للجزيرة.
رغم ذلك كله، إلا أنه ومن هذا المشهد المدمر، ظهر مقاتلو حماس ورهائنهم، وبات بإمكان ملايين الإسرائيليين الذين أيدوا الحرب أن يروا الآن بأم أعينهم عبث ما فعلوه.
موجودون ليبقوا
إن صور الدمار التي لحقت بغزة سوف تشكل ثقباً كبيراً في رواية إسرائيل عن تأسيس الدولة التي ولدت من رحم الناجين من المحرقة، فنهاية الحصار المفروض على شمال غزة سوف يُسجل في التاريخ الفلسطيني مثلما سُجل سقوط حصار لينينغراد، الذي حدث أيضاً في 27 يناير، في التاريخ الروسي خلال الحرب العالمية الثانية، وهذه ملاحظة مهمة.
في خضم الدمار على نطاق هيروشيما، فإن هذا هو أفضل رد على نتنياهو وعلى المجتمع الدولي، الذي شاهد بصمت وترك ذلك يحدث، وعلى الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب.
لم يكن من قبيل الصدفة أن يصرح ترامب بأنه يجب “تطهير” 1.5 مليون فلسطيني من غزة ونقلهم إلى الأردن ومصر لإفساح المجال لإعادة إعمار القطاع”، خلال عودة هؤلاء الفلسطينيين، بل ويتوافق هذا مع طلب نتنياهو في الأيام الأولى للحرب للنظر في سبل “تخفيف” عدد سكان غزة!
لحسن الحظ، لم تعد هناك فرصة لتحقق خطط ترامب ونتنياهو للتطهير العرقي، والتي أعيد تسميتها الآن “بالعودة الطوعية”، ففي غضون ساعات، أعادت كل من الأردن ومصر التأكيد على رفضهما لأي نقل للسكان، ليس من منطلق تعاطف كبير مع الفلسطينيين بالتأكيد ولكن لأن كلا الدولتين تعلمان أن تدفق أعداد كبيرة من الفلسطينيين أكبر من قدرتهما على التحمل، حيث أن أنظمة البلدين تعتبر هذا خطراً وجودياً عليهما.
في ولايته الأولى، فشل ترامب في تسويق “صفقة القرن”، التي كانت محاولة لدفن الحقوق الفلسطينية في قبر من الصفقات التجارية، وفي فترة ولايته الثانية، فشلت محاولته بالترويج للتطهير العرقي للفلسطينيين لجيرانهم حتى قبل أن تبدأ وهذا أكثر أهمية، لأنه يعني أن الفلسطينيين موجودون ليبقوا بأعداد أكبر من اليهود في فلسطين التاريخية.
لقد أكد الشعب الفلسطيني وإلى الأبد ارتباطه بهذه الأرض، وهذا هو انتصار الروح الإنسانية على القمع المنظم، وهو ذات الدرس المستفاد من الهولوكوست.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)