بقلم هانا ديفيس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
على مشارف قرية يارون الحدودية في جنوب لبنان، وقف السكان فوق حاجز ترابي، ينظرون إلى منازلهم وبساتين الزيتون، وفي الأسفل كان جنود الاحتلال يترقبون، وكان قناصتهم على أهبة الاستعداد للتعامل مع كل من يجرؤ على العبور.
نزلت امرأة مسنة تدعى فاطمة جعفر بجرأة من الحاجز، وسرعان ما تبعها شاب يلوح بعلم حزب الله، وبعد ثوانٍ، دوت طلقات نارية من بنادق الاحتلال، فاندفع الاثنان إلى الوراء، ونجيا بأعجوبة من النيران.
وقرية يارون واحدة من عدة قرى بقيت قوات الاحتلال متمركزة فيها بعد انقضاء الموعد النهائي للانسحاب في 26 يناير/كانون الثاني الذي حدده اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الولايات المتحدة.
واتهمت دولة الاحتلال لبنان بعدم تطبيق بنود الاتفاق بالكامل، في حين أعلنت الولايات المتحدة أن الاتفاق سيظل ساري المفعول حتى 18 فبراير/شباط.
وعلى الرغم من الوجود المستمر لقوات الاحتلال، فإن العديد من سكان القرى في جنوب لبنان عازمون على العودة في تحد لأوامر المحتلين.
وعندما زارت ميدل إيست آي منطقة المتاريس في يارون يوم الثلاثاء وجدت مجموعة من الأهالي المخيمين بجوار نار مشتعلة والذين قالوا إنهم يتواجدون هناك منذ ثلاثة أيام.
كان من بينهم امرأة تبلغ من العمر 51 عامًا طلبت الإشارة إليها باسم أم حسن، والتي قالت: “لدي منزلي في يارون، وقد كان لدي دجاج وماعز، وكنت أعيش حياة سعيدة للغاية”.
وأضافت: “هذه أرضنا، وعندما أموت، سيأتي أبنائي وأحفادي إليها، ولا يمكن لأحد أن يترك أرضه، وخاصة عندما تكون بجوار هذا الجار الذي يريد الاستيلاء عليها”.
ومثل العديد من سكان يارون، تحمل أم حسن الجنسية الأمريكية وتتحدث بلهجة أمريكية واضحة، وتقول إن قلبها في يارون، قرية أسلافها والمكان الذي عاشت فيه معظم حياتها.
وتصف أم حسن أراضي قريتها الزراعية الوفيرة وغاباتها “السماوية” من أشجار البلوط القديمة، حيث كانت غالبًا ما تجلب ماعزها للرعي والتنزه مع أصدقائها قائلة: “يارون مكان خاص جدًا، وذو طبيعة خاصة جدًا”.
لكنها تؤكد أن الكثير من تلك الأرض قد اختفى الآن، “إنهم يحاولون تحويل المكان إلى صحراء، لجعله غير صالح للسكن“.
“الناس ليسوا خائفين”
وخلال الحديث مع أم حسن، كانت طائرة إسرائيلية بدون طيار تحلق فوق رأسها، وقد قالت السيدة أن الطائرة كانت تطلق النار على الحشود، مشيرة إلى بقع سوداء على الأرض حيث ضربت.
وفي وقت لاحق من يوم الثلاثاء، أصابت نيران القناصة الإسرائيليين ستة مدنيين حاولوا دخول يارون، بالإضافة إلى جندي لبناني، وفقًا لمحمد سلمان، وهو طبيب يبلغ من العمر 28 عامًا.
وقال سلمان من موقع الحادث لميدل إيست آي أن بعض ضحايا هجوم الطائرة كانوا من كبار السن وكانت جراح بعضهم حرجة، حيث أصيبوا بطلقات نارية في الوجه والصدر والظهر، وأضاف أن أحدهم كان مواطنًا أمريكيًا، أي مواطناً في البلد الذي يعد أكبر داعم لإسرائيل.
ووقف ناصر أبو عليوي، وهو رجل دين مسن بثبات حاملاً عصاه أمام قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة المتمركزة في مكان قريب.
وقال عليوي: “أهل هذه البلدة مصممون، تريد العائلات العثور على أحبائها ودفنهم، العديد من الشهداء ما زالوا تحت الأنقاض”.
وقد أدت غارات الاحتلال على المواطنين الذين يحاولون دخول قراهم إلى استشهاد أكثر من 24 شخصًا وإصابة أكثر من 150 آخرين، بينهم 9 أطفال ومسعف، وفقًا لوزارة الصحة اللبنانية.
“إسرائيل بره بره”
وتحفل القرى الأخرى على طول حدود لبنان الجنوبية بمشاهد مماثلة لما هو في يارون، ففي عيترون، على بعد حوالي 15 دقيقة بالسيارة من يارون، كانت مجموعة من النساء يهتفن “إسرائيل بره بره”.
في الواقع، كانت النسوة يقفن خلف صف من الجنود اللبنانيين عند حاجز ترابي آخر، حيث بقيت قوات الاحتلال متمركزة في قريتهن.
وبين تلك النسوة كانت الطفلة فاطمة داو، البالغة من العمر 10 سنوات، ترتدي وشاحاً باللونين الأصفر والأخضر الذين يمثلا علم حزب الله وتقف مع أشقائها الثلاثة الأصغر سناً، حاملين صورًا كبيرة لوالدهم، الذي كان مقاتلاً في حزب الله استشهد في المعركة ومازالوا ينتظرون استعادة جثته.
وفي 26 يناير/كانون الثاني، استشهد خمسة أشخاص أثناء محاولتهم دخول عيترون، حسبما أفادت وزارة الصحة اللبنانية.
وأثناء جلوسه مع أصدقائه بالقرب من حاجز عيترون، قال محمد حمد (18 عامًا) لموقع ميدل إيست آي أن أحد الشهداء الخمسة هو موسى عليوة الذي استشهد قُتل بالرصاص أمام طفليه الصغيرين.
وأوضح حمد الذي يعمل في محطة وقود في عيترون أن جنود الاحتلال قتلوا أيضًا امرأة تدعى أمل، وهي معلمة لغة عربية عندما حاولت الدخول إلى قريتها، مضيفاً: “أطلقوا النار على رأسها فماتت على الفور”.
وسجل لبنان ما لا يقل عن 823 انتهاكًا لوقف إطلاق النار من قبل الاحتلال منذ دخول الاتفاق حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني.
وقالت دولة الاحتلال أن هجماتها استهدفت البنية التحتية العسكرية لحزب الله و”التهديدات” التي قالت إنها ظلت “دون معالجة”، لكن حمد يؤكد “الآن، تم تدمير كل شيء”.
“سنصمد حتى يرحلوا”
أما في قرية مارون الراس المجاورة لعيترون، فقد تجمعت الحشود خارج سياج من الأسلاك الشائكة دون أن يزعزهم تواجد جندي من قوات الاحتلال كان يوجه إليهم السلاح عن بعد أمتار معدودة.
وقالت هدى جباهي البالغة من العمر 51 عامًا، والتي جاءت مع ابنتها من قرية عيتيت الجنوبية لدعم سكان مارون الراس: “نحن لسنا خائفين منهم”.
أما ابنتها نورا البالغة من العمر 29 عاماً فقالت: “هذا حقنا وهذه أرضنا، ولكن منذ يوم الأحد، بدأوا يطلقون النار علينا بدباباتهم وبنادقهم”.
وأوضحت نورا أن الإسرائيليين “أصبحوا أكثر عدوانية” في الأيام الأخيرة، ودفعوا الأهالي بعيدًا عن القرية، حيث أخرجت هاتفها لتُظهر مقطع فيديو التقطته يوم الأحد، ظهرت فيه دبابة إسرائيلية وهي تتجه نحوها ونحو الحشود من حولها.
وأفادت صحيفة لوريان توداي اللبنانية اليومية أن قوات الاحتلال اعتقلت أربعة أشخاص من مارون الراس يوم الأربعاء.
وقالت نورا التي كانت هناك أن المعتقلين كانوا من السكان المسنين الذين دخلوا القرية عبر طريق كانت قوات الاحتلال تتخفى فيه، موضحة أن رجلاً يبلغ من العمر 28 عامًا مازال محتجزاً حتى الآن.
وأضافت: “سنبقى على أرضنا حتى يرحلوا، حتى لو دفعوا اتفاق وقف إطلاق النار إلى فبراير أو حتى العام المقبل”.
وكان مسؤولون أمنيون لبنانيون قد أعربوا عن مخاوفهم من مخططات إسرائيلية لاحتلال خمس مناطق جبلية استراتيجية في جنوب لبنان بعد 18 فبراير/شباط، وهو القلق الذي تصاعد بعد أن قامت قوات الاحتلال بتركيب معدات مراقبة ثقيلة في هذه المناطق، حسبما ذكرت صحيفة “ذا ناشيونال” الخميس.
“عادت تمشي”
وبالعودة إلى يارون، وبينما كانت طائرة إسرائيلية بدون طيار تحلق فوقهم، شارك المتجمعون أمام الحاجز قصة نجوى، وهي امرأة مسنة في منتصف السبعينيات من عمرها رفضت مغادرة منزلها أثناء الحرب.
كان سلمان وفريقه من عمال الإنقاذ يتفقدون هذه السيدة بشكل دوري، ويحضرون لها الطعام والماء، وفي مرحلة ما، أقنعوها بالمغادرة من أجل الحفاظ على سلامتها، لكنها عادت بعد فترة وجيزة.
وبعد بدء وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، قال سلمان إنه في كل مرة حاولوا فيها الوصول إلى يارون للاطمئنان على نجوى، كان جنود الاحتلال يطلقون عليهم النار، مما أدى إلى منع دخولهم للقرية مدة 30 يومًا.
وعندما دخلوا أخيرًا في 27 ديسمبر/كانون الأول، وجد سلمان نجوى ميتة، وقال إنها أصيبت بثلاث رصاصات في صدرها، وأن جسدها كان مغطى بالكدمات وكأنها تعرضت للضرب أو الدوس عليها، مضيفاً “كنت أعرفها جيداً، أقسم بالله أنها كانت تمشي على قدميها”.
وأشارت أم حسن إلى أن نجوى كانت مواطنة أمريكية، مبينة أن “وفاتها مؤلمة للغاية بالنسبة لنا لأنها كانت سيدة عجوز، تخيل لو كانت والدتك، إنه أمر لا يصدق، لقد قتلت فقط لأنها لم ترغب في مغادرة منزلها”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)