بقلم يحيى حامد – أتذكر أني كنت قد كتبت عام 2019 ” نظراً للوضع الحالي، قد تواجه مصر إفلاساً وفشلاً في قدرة الدولة على توفير الحاجات الأساسية لمواطنيها”، فاعترض البعض على ذلك معللين ما كان يحصل باعتباره “تطوراً مهماً”، في وقت استمر فيه تدفق التمويل الأجنبي للحكومة المصرية، بالإضافة إلى دعم غير مشروط من صندوق النقد الدولي.
تعتمد مصر على الديون من أجل البقاء، ثم لا تجد طريقاً لسداد تلك الديون إلا بمزيد من الديون!
في الأشهر الثلاثة الأخيرة، تراجع الجنيه المصري بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى عدم توفر العملة الصعبة وارتفاع كبير في تكلفة المعيشة بعد وصول مستوى التضخم إلى 88% تقريباً، كما ارتفع إجمالي الديون بنسبة 93% في السنوات الخمس الأخيرة فقط، ومن المتوقع أن ترتفع خدمة الدين إلى 62% في العام 2023/2024 عن العام 2020/2021، كما شكلت الديون 50% من الإنفاق في العام 2021/2022.
بالنظر إلى هذه النسب، يمكن القول أن مصر تعتمد على الديون من أجل البقاء، ثم لا تجد طريقاً لسداد تلك الديون إلا بمزيد من الديون، فعلى الرغم من تحديد ميزانية البرلمان المصري، تتزايد الديون المتراكمة، الأمر الذي عبر عنه برلماني مصري بقوله ” ليس لدى الحكومة أي رؤية أو توجه لإيقاف القروض، أو الحد منها تدريجياً لسد العجز وزيادة الموارد”.
فرص مهدرة!
السؤال إذن، أين هي مقدرات الاقتصاد الأساسية؟ والإجابة المعروفة هي أن تلك المقدرات قد تم تدميرها بشكل ممنهج خلال السنوات العشر الأخيرة بعد الانقلاب العسكري في البلاد!
تقليدياً، تعد مصادر العملات الأجنبية في مصر محدودة، فقد اقتصرت على واردات قناة السويس والسياحة الخارجية، ولكن هذين المصدرين تعرضا لضربة قاسية بسبب الاضطراب السياسي والاقتصادي من جهة، ووباء كوفيد-19 والآن الحرب الأوكرانية الروسية من جهة أخرى، ويزيدها سوءاً إهدار الحكومة المصرية لفرص كثيرة في التطوير والتحديث وإنماء الاقتصاد.
اختارت الحكومة المصرية تركيز النشاط الاقتصادي في يد المؤسسة العسكرية، بدلاً من تنمية القطاع الخاص، بما فيه من تأثير إيجابي محتمل على الناتج المحلي الإجمالي، حتى أصبحت المؤسسة العسكرية تتحكم بكل قطاعات الاقتصاد المصرية، بما فيها الإعلام والترفيه والأغذية والفندقة والإنشاءات، كل شيء في الحقيقة.
ماذا كانت نتيجة ذلك؟ لم تعد مصر منفتحة على الاستثمار، وأصبح القطاع الخاص في خطر حقيقي بعد تعطيل دوره بشكل كبير، بسبب استحواذ العسكر، تحت الإشراف المباشر والشخصي للرئيس عبد الفتاح السيسي، على المشاريع الكبرى التي لا تعود بالنفع على النمو الاقتصادي، مثل مشروع “العاصمة الإدارية” في الصحراء والذي امتص 55 مليار دولار، والتوسعة غير الضرورية لقناة السويس بتكلفة بلغت 9 مليار دولار ودون أي ارتفاع يذكر في الواردات.
ليس من الصعب تحليل أسباب هذا التدهور الاقتصادي إذا ما وقفنا عند ثلاثة أسباب رئيسية لذلك، أولها أن الحكومة سلكت طريقاً دون أي دراسة أو معرفة اقتصادية تذكر على الصعيدين النقدي والمالي، أما السبب الثاني، فهو اعتماد تلك الحكومة اعتماداً كبيراً على دعم صندوق النقد الدولي، مما أثقل كاهل الاقتصاد المحلي بمزيد من الديون، فيما تأتي صفقات شراء الأسلحة بقيمة بلغت 45 مليار دولار دون وجود حاجة أو خطر جيوسياسي لشرائها في المرتبة الثالثة.
وإنه لمن السخرية أن مصر، البلد المثقل بالديون والذي يعاني من نسبة فقر مرتفعة، أصبح في الأعوام بين 2015-2019 ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم، في وقت بلغ فيه الإنفاق على القطاعات الأساسية مثل الصحة والتعليم أقل من الحدود الدنيا التي كفلها الدستور!
قمع وحشي
كانت للسيسي رؤية واحدة تقف وراء كل هذه القرارات منذ تسلمه للسلطة بعد الانقلاب، تمثلت في قناعته بأن هناك وفرة مالية على الصعيد المحلي والإقليمي ويمكن لمصر الاعتماد عليها، قناعة رافقها قمع وحشي غير مسبوق ومستمر بلا هوادة.
انطلاقاً من قناعات السيسي تلك، تركزت سياسة الحكومة على إيجاد طرق لاستنزاف ثروة المواطنين من خلال عروض السندات العامة التي تصبح عوائدها سلبية عند تحويلها إلى العملة الصعبة، أو عبر ضرائب جديدة كان آخرها ضريبة زواج، اعتقد المصريون أنها نكتة حتى أعلن عنها السيسي بنفسه مؤخراً.
إنه السيسي نفسه صاحب المعتقد الشهير أن دول الخليج “عندهم أموال كالرز”، وهو نفسه الذي عبر عن بغضه للتخطيط عبر تصريحه الشهير الذي افترض فيه أن قيام الحكومة بدراسات الجدوى الاقتصادية كان سيؤدي إلى رفض 75-80% من مشروعات الحكومة!
انفصال كامل!
تساؤل يطرح نفسه هنا، كيف استطاعت حكومة السيسي الاستمرار في عملها بل والحصول على دعم دولي، رغم أن ما صرح به السيسي أو قام بتنفيذه حتى الآن خطوات واضحة نحو الكارثة؟! الجواب محزن ولكنه واضح في الوقت ذاته، فقد اشترت الحكومة المصرية ذمة المجتمع الدولي عبر عدد من التحركات والمناورات.
على سبيل المثال، أبرمت الحكومة المصرية صفقة لشراء أسلحة أمريكية، و”في الحقيقة كانت تشتري موقفاً أمريكياً داعماً، وتحاول التخفيف من الضغط الأمريكي عليها بسبب سجلها المريع في ملف حقوق الإنسان وتردي الديمقراطية وحرية التعبير” وفقاً للباحث في معهد كارنيجي لدراسات الشرق الاوسط، يزيد الصايغ.
كما ساهم ارتفاع أسعار الفائدة على الديون في زيادة الاحتياجات قصيرة المدى لدى شركات الاستثمار، الأمر الذي جعل المانحين مثل دول الخليج يعتبرون أن نجاح النظام العسكري الحاكم في مصر ضرورياً من أجل استمرار مشاريعهم الخاصة في المنطقة.
بالمحصلة، أُهدرت مئات مليارات الدولارات، وانكمش القطاع الخاص، وأصبحت خزينة الدولة مثقلة بالديون وتكلفة المعيشة في ارتفاع مستمر، مما أدى إلى انفصال شبه كامل بين حاجات المواطن ورغباته والسياسة الرسمية، حيث تشير إحصاءات إلى أن 70% من المصريين يرون أن الحكومة “لا تلبي حاجاتهم لمعيشة كريمة”، غير أن ذلك لا يبدو كافياً لإنزال الناس إلى الشوارع للتظاهر بسبب ممارسات النظام القمعية.
يأس يتمدد!
إضافة إلى الأرقام التي تنذر بكارثة اقتصادية وشيكة، باتت مشاعر اليأس والخوف تسيطر على مزاج المصريين بشكل كبير وملموس، خاصة في ظل انعدام الثقة في السيسي وحكومته التي تقود الشارع المصري نحو كارثة اقتصادية حقيقية.
الغضب الموجود في الشارع المصري اليوم يختلف عما كان عليه قبل سنوات، بمعنى أنه قد لا يتحول بالضرورة إلى مظاهرات عارمة قريباً، إلا أنه قد يتصاعد حتى يصل إلى مرحلة يأس تنزل الناس إلى الشارع في مواجهة قمع النظام الوحشي والقاتل ربما، فمع انسداد أفق لأي حل، لا يمكن التنبؤ بالمستقبل.
باتت مشاعر اليأس والخوف تسيطر على مزاج المصريين بشكل كبير وملموس، خاصة في ظل انعدام الثقة في السيسي وحكومته التي تقود الشارع المصري نحو كارثة اقتصادية حقيقية
أما الداعمون الدوليون لنظام السيسي، فمن المرجح أن يستمروا بمحاولة تزويده بحبال نجاة وهمية من المساعدات المالية التي تدفع النظام نحو “الإصلاح”، لكنني أعتقد أن مصر الآن تواجه كارثة، فالحكومة قد تتمكن من تأخير الانهيار لكنها لن تتمكن من منعه، لأنها المتسبب الأول بالكارثة، لقد أصبح ذلك جلياً، لا يوجد طريق للخلاص في مصر إلا برحيل السيسي والمؤسسة العسكرية عن سدة الحكم.
قيل أن “مصر أكبر من أن تفشل”، ولكننا يمكن أن نقول اليوم أن كارثتها قد تصبح أكبر من القدرة على إنقاذها، في ظل غياب انتخابات رئاسية، وتوجه النظام نحو مزيد من القمع الوحشي.