بقلم أحمد نجار
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تفاعل العالم بسيل من التحليلات وآراء الخبراء والتقييمات الجيوسياسية والمناقشات التي لا تنتهي حول جدوى الخطة التي أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عنها للتعامل مع غزة، حيث دارت المناقشات حول ما إذا كان يمكن واقعياً تنفيذ الخطة، وكيف ستؤثر على الاستقرار الإقليمي؟ وما إذا كانت الدول المجاورة، وخاصة مصر والأردن، ستقبل اللاجئين الفلسطينيين؟
وأبدى المحللون هوسهم بما إذا كانت الأردن، التي تعد بالفعل موطنا لعدد كبير من السكان الفلسطينيين، قادرة على تحمل استيعاب المزيد منا، وكأننا نوع غازي وليس شعباً تم حرمانه من ممتلكاته.
وفي كل هذه الثرثرة، برزت حقيقة مروعة: لم يكن العالم غاضباً من فكرة نزوحنا القسري، ولم يتراجع عن اقتراح مفاده أن شعبا بأكمله يمكن إزالته أو محوه أو إعادة ترتيبه ببساطة مثل إحصائية غير مريحة، ولم يكن النقاش يدور أبداً حول الظلم الأساسي المتمثل في اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم.
لقد كان الجدل يدور حول ما إذا كانت لوجستيات التطهير العرقي التي نعتمدها ستنجح، وهل يمكن استيعابنا في مكان آخر؟ أما ما هو أكثر إثارة للرعب فهو هل ينبغي استيعابنا على الإطلاق؟
لقد دفعني الارتباك الشديد إلى الإصابة بالغثيان من تفصيل هذه الخطة التي اقترحت القضاء على وجودنا، وكأننا لسنا أكثر من إزعاج جيوسياسي، وقد كان من المثير للاشمئزاز أن أشهد ذلك.
وبدا الافتراض غير المعلن هو أننا لا ننتمي للمكان، وأن وجودنا يمثل مشكلة جوهرية، وأن العالم سيكون أكثر استقراراً وسلاماً، إذا توقفنا ببساطة عن الوجود كشعب في وطننا.
لسنا بيادق
وهكذا، مرة أخرى، تحولنا إلى سؤال يجب الإجابة عليه، ومعضلة يجب حلها، لسنا بشرًا لديهم تاريخ وثقافة وحقوق، ولا شعبًا تعرض للظلم والوحشية والاحتلال والتشريد لأجيال، ولكن بدلاً من ذلك، أوحت المحادثة بأكملها بأننا كنا بمثابة عقبة في طريق التقدم، قضية يجب مناقشتها من قبل أولئك الذين يرون أنفسهم كمهندسين شرعيين لمصيرنا.
لقد غاب عن كل تحليل تقريباً لخطة ترامب حقيقة بسيطة لا تقبل الجدل مفادها أن الفلسطينيين لديهم القدرة على التصرف.
نحن لسنا مجرد بيادق في لعبة جيوسياسية، يمكن تحريكها حسب الرغبة، نحن لسنا أرقاماً في وثيقة سياسية يمكن إعادة توزيعها، ولسنا عبئاً تتحمله مصر أو الأردن، أو أي جهة أخرى، ومع ذلك، يتم الحديث عنا كما لو كنا كذلك فقط، بل إن الاحتلال وهو المصدر الحقيقي لعدم الاستقرار والعنف والمعاناة لم يعد المشكلة التي تتم مناقشتها، بل نحن.
من الصعب وصف العبء العاطفي لتكرار سماع أنك غير مرغوب فيك، وأنك مشكلة يجب حلها، وأن حتى وطنك ليس ملكك لتطالب به، ومن غير المحتمل أن تعرف أن شعبك لا يُنظر إليه كأمة ذات حقوق، بل كخطأ في التاريخ يجب تصحيحه.
إنني أخشى أن يستيقظ العالم ذات يوم ليجد أننا رحلنا إذا استمر في المشاهدة بصمت، وسوف يسأل نفسه كيف سمح لهذا بأن يحدث، وهذا الإدراك يشكل عبئاً ثقيلاً، حيث إن إخبارك بأنك غير مرغوب فيك حتى في وطنك يشكل مستوى من نزع الإنسانية يصعب التعبير عنه بالكلمات، فهو يجردك من كرامتك، ومن انتماءك، ومن الأساس الذي يقوم عليه معنى أن تكون إنساناً
في كل مرة أسمع فيها شخصاً على شاشة التلفزيون يقول: “انظر، لا أحد يريد أن يأخذ الفلسطينيين، لا مصر ولا الأردن ولا أي مكان آخر”، يتشكل في معدتي ثقل هذه الكلمات ويضغط علي.
تخيل أنك تسمع مراراً وتكراراً أنك مصدر إزعاج، وأن وجودك ذاته شيء لابد من إدارته والتفاوض عليه، ماذا يفعل هذا بالإنسان؟ ماذا يفعل بالشعب؟
إن الحديث عنك بهذه الطريقة، وتقليصك إلى عبء على العالم، ينخر شيئاً أساسياً، إن هذا يجعلك تتساءل عما إذا كنت أنت المشكلة حقًا، إنه يجعلك تشكك في قيمتك، إنه يخلق نوعًا من الشك الذاتي الذي يفسد إحساسك بذاتك حتى تبدأ في التساؤل عما إذا كنت تنتمي حقًا إلى أي مكان.
لقد خذلنا العالم
والآن، لا يسعني إلا أن أفكر في التاريخ، أفكر في الطريقة التي عومل بها اليهود في أوروبا، ليس فقط أثناء الهولوكوست، ولكن في القرون التي سبقت ذلك، كيف تم تشويه سمعتهم وتهميشهم وتصويرهم كوجود غير مرغوب فيه؟ كيف أصبح المجتمع ينظر إليهم على أنهم إزعاج وعائق وتهديد؟ كيف تآكلت إنسانيتهم بمرور الوقت في نظر العالم حتى أصبح ما لا يمكن تصوره ممكنًا حتى أصبح من الممكن تبرير معاناتهم وتبرير إبادتهم.
أفكر في كيف خذلهم العالم، وكيف تم تجاهل صرخاتهم من أجل العدالة، وكيف قوبل اضطهادهم بالصمت، وكيف ترسخت الرواية القائلة بأنهم مشكلة بعمق لدرجة أن وجودهم أصبح لا يطاق بالنسبة لأولئك الذين هم في السلطة.
وأعود لأسأل نفسي: هل يكرر التاريخ نفسه؟ أنا لا أسأل هذا السؤال باستخفاف، بل أسأله لأنني أرى نفس الآليات في الأداء، أرى كيف يتحدث الناس عن الفلسطينيين وكأن نزوحنا أمر لا مفر منه، ومعاناتنا ثمن مقبول لرؤية شخص آخر للسلام، أرى كيف يتم تجريم مقاومتنا، ووجودنا ذاته يُؤطر كتهديد، أرى كيف يتم تبرير موتنا، وتدمير منازلنا، وإسكات أصواتنا، وأرى كيف يراقب العالم ولا يفعل شيئًا.
ذروة انتزاع الصفة الإنسانية عنا
عندما يصل نزع الصفة الإنسانية إلى ذروته فنحن أمام لحظة مرعبة في التاريخ، عندما لا يتم النظر إلى الناس كأفراد يتمتعون بحقوق وكرامة، بل كعبء جماعي، ومشكلة يجب محوها، هذه اللحظة هي دائمًا مقدمة لشيء أسوأ بكثير، لأنه بمجرد النظر إلى الناس على أنه يمكن الاستغناء عنهم، فإن معاناتهم لم تعد مهمة، لم تعد وفاتهم مهمة، لم يعد استئصالهم يصدم ضمير العالم.
هذا ما يرعبني، لأننا هناك بالفعل، لقد كنا هناك لعقود من الزمن، ولا أدري ما الذي قد يتطلبه الأمر حتى يعترف العالم بإنسانيتنا، ولا أدري ما الذي يمكننا أن نفعله لتوضيح أننا لسنا مجرد أرقام، ولسنا إحصاءات، ولسنا ورقة مساومة في لعبة سياسية يخوضها آخرون، فنحن شعب، ولدينا منازل وأسر وذكريات وأحلام، ولنا الحق في الوجود، ليس فقط في المنفى، وليس فقط باعتبارنا مشكلة يتعين علينا إدارتها، بل باعتبارنا شعباً حراً على أرضنا.
هذا ليس محل نقاش، ولا يتعلق الأمر بالأمور اللوجستية، بل يتعلق بالعدالة، ومع ذلك، فنحن هنا، ما زلنا مجبرين على الدفاع عن قضيتنا، وما زلنا مجبرين على إثبات جدارتنا، وما زلنا مجبرين على مشاهدة العالم وهو يناقش مصيرنا وكأننا لسنا حتى في الغرفة.
لا يوجد عنف أعظم من أن يتم محوك وأنت لا تزال على قيد الحياة، وهذا ما يحدث لنا، وأخشى أن يستيقظ العالم ذات يوم إذا استمر في المشاهدة في صمت ليجد أننا رحلنا، وسيسأل نفسه كيف سمح لهذا بأن يحدث، ولكن بحلول ذلك الوقت، سيكون الأوان قد فات.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)