بقلم أحمد الطيبي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
يعد التأييد الواسع لفكرة نقل سكان غزة إلى بلدان أخرى، إضافة إلى فكرة أنه “لا يوجد أبرياء” في القطاع، إنما يشكل خيانة لكل مبدأ أخلاقي ينبغي أن يكون درساً مستخلصاً للشعب الذي عانى من المحرقة من قبل!
أعتقد أن على كل من يدعم اقتراح “الهجرة الطوعية” أن يفهم أن الشعب الفلسطيني لن يذهب إلى أي مكان
وتكمن الحقيقة المروعة في استطلاعات الرأي التي تظهر التأييد الساحق لفكرة طرد الفلسطينيين من غزة بين اليهود الإسرائيليين، فتلك الفكرة إنما تتطلب محاسبة عميقة للنفس بالنسبة لشعب عانى من وحشية المحرقة والعنصرية والقتل الجماعي، حيث أن استعداد ذلك الشعب اليوم لتبني مفهوم يحمل ذات معنى هذه الفظائع إنما يعكس تشوهاً أخلاقياً خطيراً.
الحقيقة أن فكرة نقل السكان ليست جديدة في إسرائيل، حيث دعا إليها الحاخام مئير كاهانا، الذي عادت إيديولوجيته المتطرفة لتسود داخل إسرائيل، قبل نصف قرن من الزمان، واليوم اكتسب هذا المفهوم زخماً مع انضمام إيتمار بن غفير إلى حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل قبل استقالته مؤخراً.
ولا يتوقف مفهوم التطلع إلى إفراغ فلسطين من سكانها الأصليين عند استمراره لعقود فقط، بل ظل يكتسب الشرعية مع مرور الوقت، فكيف يمكن لأولئك الذين وقفوا يوماً على حافة الإبادة أن يتبنوا الآن نفس الأساليب التي استخدمت لإيذاءهم؟!
إدانة عالمية
بالنسبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإن التطهير العرقي ليس مجرد مصطلح نظري أو موضوع للنقاش الفكري، بل هي فكرة مدعومة بتصريحات رسمية من كبار السياسيين الإسرائيليين الذين دعوا صراحة إلى الطرد القسري أو حتى إسقاط قنبلة ذرية على غزة.
من خلال دعمه لخطة ترامب الواهمة، يدافع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن فكرة تمت إدانتها عالمياً عبر التاريخ، وهي تفاهة شر مستهلكة كامنة في نظرية التطهير العرقي.
لقد قام الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بتطبيع مفهوم الإبادة الجماعية. والآن يحاول ترامب تطبيع مفهوم التطهير العرقي، إلا أن الشعب الفلسطيني لا يستسلم أبداً، بل يعيد النهوض دائماً.
يتصور أن حل المشكلة من الممكن أن يتم من خلال “الاستيلاء” على غزة وإعادة بنائه، ولذلك يحظى بدعم ليس فقط من اليمين المسيحاني في إسرائيل، بل ومن تيار الوسط السياسي وحتى جزء من اليسار، فلا وجود لمعارضة سياسية لهذا تقريباً
من المؤسف أن هذه المشكلة تتجاوز السياسة، فعندما تظهر استطلاعات الرأي أن الأغلبية الساحقة من اليهود الإسرائيليين تدعم اقتراح ترامب، فهذا يعني أن وجهة النظر العنصرية والاستبدادية أصبحت هي القاعدة السائدة.
كيف يمكن لشعب بنيت هويته الوطنية على تجربته الخاصة في الترحيل القسري من أوروبا، أن يرى جريمة الترحيل القسري اليوم بحق سكان غزة حلاً مشروعاً؟!
في الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات في إسرائيل بالقول بأنه “لا يوجد أشخاص غير متورطين في غزة”، تتجلى بوضوح الهاوية الأخلاقية التي انحدر إليها المجتمع الإسرائيلي، والمضي قدماً بهذه السردية لا يشكل خيانة أخلاقية فحسب، بل يعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.
وفي الوقت الذي يقوم فيه النقاد الإسرائيليون بتطبيع وتبرير القتل الجماعي للأطفال، فإنهم يحظون بدعم معظم المشرعين في إسرائيل، فالاستخدام الساخر لذكرى المحرقة بهدف تبرير جرائم مماثلة ضد أشخاص آخرين يشكل واحداً من أخطر أشكال تشويه التاريخ الحديث، فإسرائيل كثيراً ما تُذَكِّر العالم بالتزامه نحو تذكر المحرقة، فيما تقوم هي بمحرقة أخرى!
كيف يمكن للمرء أن يطالب باعتراف دولي بفظائع الماضي، بينما يسعى في الوقت نفسه إلى محو شعب آخر من وطنه؟!
هذا خطاب الاحتلال
ما من شك في أن الفكرة القائمة على أن كل شخص في غزة مذنب تهدف إلى تبرير إيذاء المدنيين الأبرياء، فهذا هو خطاب جيش الاحتلال الذي يتعامل مع كل فلسطيني كعدو يجب إخضاعه أو طرده أو القضاء عليه. لا يزال هناك متسع للتغلب على “تفاهة الشر” المستهلكة في نظرية التطهير العرقي التي قد قدمها ترامب
من هذا المنطلق، يجوز إطلاق النار على سندس شلبي البالغة من العمر 23 عاماً، والتي كانت حاملاً في شهرها الثامن حين قتلها الاحتلال في طولكرم بالضفة الغربية المحتلة، وذلك لأنها “نظرت بريبة إلى الأرض”!
وفي غزة، فإن القصف المتواصل والتجويع المتعمد للسكان وهدم المنازل وقطع إمدادات الكهرباء والمياه، كلها تعبيرات مباشرة عن تلك السياسة التي تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني ودفعه إلى حافة الانهيار.
لا يزال هناك متسع للتغلب على “تفاهة الشر” المستهلكة في نظرية التطهير العرقي التي قد قدمها ترامب
وعلى الجانب الآخر، فالشعب الفلسطيني لم يكن يوماً ضحية سلبية، فقد أثبت التاريخ أن الإرادة الوطنية والرغبة في تحقيق العدالة والتحرر مفاهيم تظل قوية في مواجهة الاحتلال والقمع والتهجير.
لو افترضنا جدلاً أنه تم طرد عشرات الآلاف من الفلسطينيين، فإن هذا لن يشكل حلاً، فقد تم تنفيذ التطهير العرقي في عام 1948 وتدمير حوالي 530 قرية فلسطينية وطرد أو قتل سكانها، ولكن الشعب الفلسطيني ظل يناضل منذ ذلك الوقت.
أعتقد أن الحكمة كانت تقتضي أن ترفض كل من مصر والأردن مقترحات ترامب، الذي يرى في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مسألة عقارية، فهو يتصور أن حل المشكلة من الممكن أن يتم من خلال “الاستيلاء” على غزة وإعادة بنائه، ولذلك يحظى بدعم ليس فقط من اليمين المسيحاني في إسرائيل، بل ومن تيار الوسط السياسي وحتى جزء من اليسار، فلا وجود لمعارضة سياسية لهذا تقريباً!
الحقيقة أنه لا يمكن طرد الشعب الفلسطيني، لا في غزة ولا في الضفة الغربية المحتلة، فالتطهير العرقي جريمة حرب حكم عليها التاريخ مراراً وتكراراً وهذا ما سيحدث هذه المرة أيضاً.
إننا بحاجة إلى موقف موحد وخطة عملية من طرف العالم العربي والإسلامي ومن بقية العالم، الذي يتحمل المسؤولية عن الدمار في غزة بعد إعطائه الضوء الأخضر لجرائم الحرب الإسرائيلية، فلا يزال هناك متسع للتغلب على “تفاهة الشر” المستهلكة في نظرية التطهير العرقي التي قد قدمها ترامب.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)