سحب فيلم وثائقي عن غزة.. هل تفقد بي بي سي ما تبقى من استقلاليتها؟

بقلم كريس دويل

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في عام 2003، بثت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فيلماً وثائقياً عن البرنامج النووي الإسرائيلي، بعنوان “سلاح إسرائيل السري”، أثار حفيظة قادة الاحتلال الذين حظروا على مسؤولي دولتهم الظهور لدى الهيئة.

كان الفيلم الوثائقي دقيقاً، فقد شعرت دولة الاحتلال بالحرج من كشف ترسانتها النووية عندما تم غزو العراق بسبب مخزون غير موجود من أسلحة الدمار الشامل.

في ذلك الوقت، سألت مسؤولاً كبيراً في هيئة الإذاعة البريطانية عن كيفية تطور العلاقات مع دولة الاحتلال، فكانت إجابته: “بالنسبة لدولة تريد التأثير على التغطية الإخبارية، فإن مقاطعتنا هي طريقة غريبة للقيام بالأشياء”، ولم يبد أي انزعاج من التصرفات الإسرائيلية، وفي النهاية لم تستسلم هيئة الإذاعة البريطانية، وأوقفت إسرائيل مقاطعتها.

وبعد خمسة وعشرين عاماً، فقدت هيئة الإذاعة البريطانية أي قدر من الشجاعة تجاه دولة الاحتلال، ففي الأسبوع الماضي، سحبت الهيئة فيلماً وثائقياً بعنوان “غزة: كيف تنجو من منطقة حرب” من منصة البث عبر الإنترنت، وقالت إنها ستنفذ إجراء “الانتباه الواجب” قبل السماح ببثه مرة أخرى.

كان الفيلم الوثائقي عبارة عن تصوير لمدة تسعة أشهر للحياة في غزة تحت الحصار من خلال عيون وتجارب الأطفال الفلسطينيين.

أما الاعتراض الأساسي على الفيلم فتمثل في أن الطفل عبد الله، الراوي الرئيسي فيه، هو ابن أيمن اليازوري، وكيل وزارة الزراعة في حكومة غزة التي تديرها حماس، حيث كانت هيئة الإذاعة البريطانية قد عدلت البرنامج للاعتراف بهوية الطفل، ولكن الاتهامات اللاحقة لها دفعتها إلى سحب الفيلم.

مشجعو الإبادة الجماعية

كان الهجوم هائلاً وبدا أنه منظم بشكل جيد، لقد استهدف الغوغاء المناهضون للفلسطينيين الرسل، وليس الرسالة، في تكتيك متقن.

أظهر كل من انتقدوا هذا الفيلم الوثائقي تقريباً عدم امتلاكهم لأي ذرة احترام لحياة الفلسطينيين وحقوقهم، من بين هؤلاء العديد من داعمي الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في غزة، بما في ذلك السفير الإسرائيلي، وهو ممثل لدولة أغلقت البث المحلي لقناة الجزيرة وكانت مسؤولة عن مقتل ما لا يقل عن 170 صحفيًا وعاملًا إعلاميًا منذ بدء حرب غزة في 7 أكتوبر 2023.

ومن الصعب العثور على دعاية أكثر سخافة مما قالته السفيرة تسيبي هوتوفلي، لقد ادعت أنه لم تكن هناك أزمة إنسانية في غزة عندما كانت غزة تحت الحصار لسنوات عديدة، وليس فقط خلال آخر 500 يوم.

ويتساءل المرء عن عدد الأشخاص الذين شاهدوا الفيلم الوثائقي قبل سحبه، لم يكن الفيلم الوثائقي وسيلة دعائية لأي طرف، لم يكن بأي حال من الأحوال مؤيدًا لحماس أو مناهضًا لإسرائيل، إلا إذا كنت من أولئك الذين يعتقدون أن إضفاء الطابع الإنساني على الأطفال الفلسطينيين يشكل جريمة، لم يكن سياسيًا على الإطلاق.

هل تفكر هيئة الإذاعة البريطانية ولو للحظة في قتل فيلم وثائقي لأن الراوي أو مشغل الكاميرا كان قريبًا لمستوطن إسرائيلي؟

كان انتقاد حماس من قبل الفلسطينيين في غزة متكررًا، وفي غضون الدقائق الأولى، صاحت امرأة فلسطينية: “لعنة الله عليك يحيى السنوار”، في إشارة إلى زعيم حماس الراحل، وصاح رجل فلسطيني: “لقد قتلوا أطفالنا، وقتلوا نساءنا، بينما يختبئ السنوار تحت الأرض”.

وتذكرت امرأة فلسطينية أخرى كيف احتفل الناس في السابع من أكتوبر، لكنها اعترفت: “لو كنا نعلم أن هذا سيحدث لنا، لما احتفل أحد”، وألقى أحد الرواة الأطفال، زكريا البالغ من العمر 11 عامًا، باللوم على حماس: “لقد تسببوا في كل هذا البؤس”.

كان الفيلم الوثائقي من عيار الحائز على جوائز، وهو ما انعكس في المراجعات الممتازة في صحيفة الغارديان، التي أعطته خمس نجوم، وصحيفة التايمز، التي وصفته بأنه “استثنائي”، وحتى صحيفة التلغراف أعطته أربع نجوم، ويجب أن يكون جوهرة تاج في النظام البيئي الوثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية.

الراوي، عبد الله اليازوري البالغ من العمر 13 عامًا، هو فرد في حد ذاته روى قصته بنفسه، روى تجاربه اليومية وشهادته صحيحة، ولا ينبغي أن يهم من هو والده.

وحتى في ذلك الوقت، كان والده تكنوقراطيًا في غزة، وكيل وزارة الزراعة، ولا يعكس القيادة العليا لحماس، سواء السياسية أو العسكرية، وحماس منظمة إرهابية محظورة في بريطانيا.

التدخل الحكومي

ويتساءل المرء عما إذا كانت هيئة الإذاعة البريطانية قد تواصلت مع الأطفال من الأساس، لقد اعتقدوا أن قصتهم سوف تُذاع، ولكنهم بدلاً من ذلك لابد وأنهم يتساءلون الآن عما أخطأوا فيه، ولماذا أصبحوا ضحايا لهجوم شرس.

ولابد وأن نطرح أسئلة جدية حول سبب تدخل الحكومة البريطانية، وقد تدخلت وزيرة الثقافة ليزا ناندي، حيث صرحت بأنها سوف تناقش الفيلم الوثائقي مع رؤساء هيئة الإذاعة البريطانية.

يعرض هذا الأمر استقلال هيئة الإذاعة البريطانية للخطر ويحمل في طياته تلميحاً إلى تدخل الحكومة في وسائل الإعلام، وكان ينبغي لناندي أن تترك هذا الأمر لإدارة هيئة الإذاعة البريطانية لمراجعته، لكن الأمر يكشف عن مدى ارتباط حكومة حزب العمال هذه بإسرائيل، ونظراً لتواطؤ الحكومة في جرائم الحرب الإسرائيلية، فإن هذا يعني وجود تضارب في المصالح.

ولكن كيف سترد هيئة الإذاعة البريطانية؟ يتعين عليها أن ترفض أي تدخل من هذا القبيل من جانب الحكومة البريطانية والسفير الإسرائيلي.

لكن من المؤكد أنها لن تفعل ذلك، حيث كانت تغطيتها للإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة على مدى الأشهر الستة عشر الماضية بائسة. 

وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقع أكثر من مائة من موظفي هيئة الإذاعة البريطانية، بما في ذلك كبار الصحفيين، على رسالة موجهة إلى قيادة المؤسسة تنتقد التغطية، قائلة: “لقد كانت المبادئ الصحفية الأساسية مفقودة عندما يتعلق الأمر بمحاسبة إسرائيل على أفعالها”.

وإذا ذكر أي شخص تتم مقابلته الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل، فإن مقدمي البرامج في هيئة الإذاعة البريطانية يعربون عن الموقف الإسرائيلي، حيث يؤكد أحدهم: “أنت تعرف ما سأقوله، سأقول إن إسرائيل تنكر ذلك”.

المعايير المزدوجة

وفي بيان لها، قالت هيئة الإذاعة البريطانية: “منذ بث فيلمنا الوثائقي عن غزة، أصبحت هيئة الإذاعة البريطانية على دراية بالروابط العائلية لراوي الفيلم، وهو طفل يدعى عبد الله”.

وأضافت: “لقد وعدنا جمهورنا بأعلى معايير الشفافية، لذا فمن الصواب أن نضيف بعض التفاصيل الإضافية إلى الفيلم قبل إعادة بثه نتيجة لهذه المعلومات الجديدة، نعتذر عن حذف هذه التفاصيل من الفيلم الأصلي”.

وأضافت الهيئة: “يظل الفيلم وجهة نظر قوية من منظور طفل للعواقب المدمرة للحرب في غزة والتي نعتقد أنها شهادة لا تقدر بثمن على تجاربهم، ويجب علينا الوفاء بالتزامنا بالشفافية”.

قارن هذا الضعف الذي أظهرته هيئة الإذاعة البريطانية عند التعامل مع إسرائيل بردها على الجدل حول فيلم وثائقي عام 2023 بعنوان “الهند: مسألة مودي”. 

كانت السلطات الهندية غاضبة من الفيلم لتورط رئيس الوزراء ناريندرا مودي في أعمال شغب مناهضة للمسلمين في ولاية جوجارات عام 2002 وقامت بحظر بث الفيلم في الهند، حتى أنهم حاولوا جرّ هيئة الإذاعة البريطانية إلى المحكمة العليا في دلهي، وعلى عكس إسرائيل، لم تتراجع هيئة الإذاعة البريطانية.

إن هيئة الإذاعة البريطانية قصة نجاح غير عادية، وهي معروفة في مختلف أنحاء العالم، وقد بُنيت هذه السمعة على الصحافة من الدرجة الأولى والالتزام بالنزاهة. 

ولا يزال العديد من صحفيي البي بي سي بين نخبة الدرجة الأولى، ولكن المستويات العليا من الإدارة فشلت في إدارة تغطية الشبكة لأحداث غزة، حيث بدت أكثر حرصاً على استرضاء المنتقدين المناهضين للفلسطينيين من الدفاع عن الصحافة المتميزة.

هل تفكر هيئة الإذاعة البريطانية ولو للحظة واحدة في قتل فيلم وثائقي لأن الراوي أو مشغل الكاميرا كان قريباً لمستوطن إسرائيلي، أو جندياً ربما ارتكب جرائم حرب في غزة، أو سياسياً مذنباً بالتحريض على جرائم الحرب هذه، بل وحتى على الإبادة الجماعية؟

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة