نتنياهو يستغل أسرى الاحتلال في غزة لتمهيد الطريق نحو إبادة جماعية جديدة

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

طوال 15 شهراً، تمكنت دولة الاحتلال من الحفاظ على دعم الغرب لمذبحتها في غزة عبر ترويجها لحملة مكثفة من الأكاذيب التي فبركتها حول ارتكاب حركة حماس لجرائم حرب شنيعة كقطع رؤوس الأطفال والاغتصاب الجماعي.

ولم تقدم دولة الاحتلال أي دليل على ذلك على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، ذهبت إلى التقليل من شأن جرائم الحرب الأكثر خطورة التي ارتكبتها بنفسها رداً على هجوم حماس في السابع من أكتوبر عام 2023.

وفي ظل غياب الدلائل على ارتكاب حماس للجرائم في أكتوبر 2023، وثبوت جرائم الاحتلال التي لا تزال واضحة للغاية للعيان في حجم الدمار الكامل في غزة، وهي ترقى إلى مستوى إبادة جماعية “معقولة” وفقاً لمحكمة العدل الدولية، ظل قادة الاحتلال يتشبثون يائسين بالمسعى لتحويل الانتباه إلى ساحة جديدة للمعركة السردية.

ولهذا السبب، ظل قادة الاحتلال بحاجة إلى مجموعة جديدة من الأكاذيب لتبرير استئناف المذبحة، وكما هو الحال دائماً، فإن وسائل الإعلام الغربية تساعدهم.

تلعب حركة حماس ودولة الاحتلال لعبة دعائية واضحة باستخدام تبادل الأسرى الإسرائيليين والفلسطينيين بشكل منتظم في المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار للاستيلاء على المساحة المتعلقة بالأخلاقية العالية.

ومرة أخرى، تمتلك دولك الاحتلال كافة الأوراق، وتهتم بالدعم الغربي القوي، ولكنها تفشل مجدداً في الفوز بحرب العلاقات العامة، الأمر الذي يفسر نوبات الغضب الجديدة في خطاب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في نهاية الأسبوع، وهذه المرة ألقى باللوم على حماس في تدبير ما سمّاه “مراسم مهينة” و”مذلة” لإطلاق سراح الإسرائيليين.

ويبدو أن دولة الاحتلال وأنصارها شعروا بالغضب بشكل خاص من أحد الأسرى الإسرائيليين، وقد أطلق سراحه يوم السبت، وظهر على المنصة وهو يبتسم ويقبّل بحرارة جبين اثنين من خاطفيه.

وفي أثناء سيره إلى حفل التسليم مع موظفي الصليب الأحمر، وضع الأسير الإسرائيلي ذراعه حول كتفي أحد الخاطفين في مشهد آخر لإبداء المودة الواضحة تجاههم.

كما تم تصوير اثنين آخرين من أسرى الاحتلال، وهما من بين المقرر إطلاق سراحهم في الجولة التالية، وهم يراقبون هذا المشهد من سيارة قريبة، متحمسين لاحتمال الحرية ويتوسلون إلى نتنياهو ألا يعرقل إطلاق سراحهم.

تخريب وقف إطلاق النار

وكما كان متوقعاً، رددت وسائل الإعلام الغربية، بما في ذلك هيئة الإذاعة البريطانية، صدى صوت الاحتلال معتبرةً تلك المشاهد انتهاكات أكثر خطورة بطريقة أو بأخرى من قتل إسرائيل لأكثر من 130 فلسطينياً في هجمات على غزة منذ 19 يناير/كانون الثاني، عندما بدأ وقف إطلاق النار.

كما قدمت وسائل الإعلام تغطية عابرة مشابهة لموجة التدمير الجديدة التي نفذها الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة والتي تم فيها هدم الآلاف من المنازل، وتطهير مجتمعات بأكملها عرقياً.

لقد فشلت المواقع الإعلامية الغربية بشكل واضح في ملاحظة أن جرائم الحرب هذه تشكل أيضاً انتهاكات صارخة لاتفاق وقف إطلاق النار.

والآن يستغل نتنياهو المشاهد الودية الواضحة بين بعض الأسرى الإسرائيليين ومقاتلي حماس كذريعة لتخريب وقف إطلاق النار قبل أن تبدأ المرحلة الثانية الأسبوع المقبل، وهذا هو الوقت الذي من المتوقع أن تنسحب فيه دولة الاحتلال بالكامل من غزة وتسمح بإعادة إعمارها.

لقد اضطرت الحافلات التي كانت تقل مئات الأسرى الفلسطينيين الذين كان من المقرر إطلاق سراحهم يوم السبت إلى العودة أدراجها، وإعادتهم إلى سجونهم، وحتى وفقاً لتقديرات سلطات الاحتلال ذاتها، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء الفلسطينيين لم “يشاركوا في القتال”.

لقد تم أسر على العديد منهم، بمن فيهم عناصر الطواقم الطبية من شوارع غزة في أعقاب هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وتم احتجازهم دون توجيه اتهام إليهم، وتعرضوا للتعذيب وخضعوا لظروف همجية وصفتها منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية بـ “الجحيم”.

شعارات الإبادة الجماعية

من الجيد أن نتصور أن دولة الاحتلال وأنصارها شعروا حقاً بالقلق من أن عرض حماس العلني لأسرى الاحتلال يمثل انتهاكاً لحقوقهم في الكرامة بموجب القانون الإنساني الدولي، ولكن لا تنخدعوا أو تتصرفوا بغباء.

فحتى قبل أن تتراجع دولة الاحتلال عن تبادل الأسرى، كانت قد تعهدت بأن يتعرض الفلسطينيون لأشكال أخرى من المعاملة المهينة، حيث أجبرتهم على ارتداء قمصان تحمل شعارات تدعم ممارسات الإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد أهالي غزة.

وبدا أن أنصار الاحتلال غير مهتمين كثيراً بحساسيات الأسرى الفلسطينيين الستمائة الذين كان من المقرر إطلاق سراحهم يوم السبت قبل أن تعيدهم الحافلات إلى معسكرات التعذيب في إسرائيل في لحظة تنسمهم رائحة الحرية.

ولكن على أية حال، فقد حظيت قضية الأسرى الإسرائيليين بأولويات منخفضة على سلم اهتمام نتنياهو، ولو كانت دولة الاحتلال مهتمةً بهم حقاً، لما قامت بارتكاب القصف السجادي (الشامل) لغزة لمدة 15 شهراً

وبدلاً من ذلك، كان يمكن لدولة الاحتلال أن تغتنم فرصة وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى منذ وقت يسبق الشهر الماضي حين اضطرت إلى توقيع الاتفاق تحت ضغط شديد من الرئيس الأميركي القادم دونالد ترمب، بل منذ مايو/أيار الماضي، عندما عُرض عليها اتفاق على نفس الشروط تماماً.

ولو كانت دولة الاحتلال تهتم كثيراً بالأسرى، لما استخدمت قنابل خارقة للتحصينات زنة 2000 رطل من إنتاج الولايات المتحدة، والتي لم تدمر مساحات شاسعة من غزة عشوائياً فحسب، بل وأغرقت الأنفاق التي كان يحتجز فيها العديد من الأسرى الإسرائيليين بالغازات السامة.

ولو كانت دولة الاحتلال تهتم كثيراً بالأسرى، لما أنشأت “مناطق قتل” غير معلنة في جميع أنحاء غزة، حيث أطلق جنودها النار على أي شخص وأي شيء يتحرك.

ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، أطلق جنود الاحتلال النار على ثلاثة إسرائيليين عراة الصدر يلوحون بأعلام الاستسلام البيضاء في مثل هذه الظروف على وجه التحديد.

يتصرف كما يحلو له

ولكل ذلك، فإن ورقة الأسرى الإسرائيليين مفيدة لنتنياهو ومؤيديه فقط بقدر ما تساعدهم في دعم رواية تبرر الإبادة الجماعية.

فبعد أن حاصره ترمب، بات رئيس وزراء الاحتلال مقتنعاً أن تأمين عودة بعض الأسرى على الأقل هو الثمن الذي كان عليه أن يدفعه لإرضاء الرئيس الأمريكي الجديد وكثير من عامة شعبه، قبل أن يتمكن من استئناف القتل الجماعي لأطفال غزة.

بل إنه أوضح مراراً وتكراراً أنه لا ينوي التحرك نحو وقف إطلاق نار دائم بعد المرحلة الأولى، وهي عمليات تبادل الأسرى الرئيسية.

بالنسبة لنتنياهو، فإن أهمية الأسرى الإسرائيليين تكمن فقط في تزويده بطريق العودة إلى الإبادة الجماعية.

ومن ناحية أخرى، لدى حماس كل الحوافز لاستخدام النافذة الصغيرة التي يوفرها إطلاق سراح الأسرى للإشارة إلى أنها ليست شبحاً يهدد القواعد التي صممتها دولة الاحتلال وفرضها الغرب.

فعلى صعيدها، تأمل حماس أن تظهر عمليات الإفراج التي تديرها بعناية مدى سيطرتها على غزة، على الرغم من الإعصار المدمر الذي نفذته قوات الاحتلال هناك.

كما أن لدى حماس سبب لتنمية علاقات معقولة مع الأسرى الإسرائيليين، ليس أقلها تحسين صورتها أمام الجماهير الأجنبية، بل وجعل عودة نتنياهو إلى الإبادة الجماعية أكثر صعوبةً.

أما دولة الاحتلال، فلا تملك بالطبع مثل تلك الحوافز، وباعتبارها الطرف الأقوى بكثير، والطرف الذي كان، حتى قبل 7 أكتوبر 2023، يحتجز سكان غزة بالكامل كرهائن من خلال حصار دام 17 عاماً للقطاع، فإن بوسعها أن تفعل ما يحلو لها، وهي على يقين من أن ادعاءاتها لن تخضع أبداً للتدقيق اللائق من قبل وسائل الإعلام الغربية.

فببساطة،  تم تجاهل شهادات الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم حول التعذيب والاعتداء الجنسي والاغتصاب، والتي أكدها مراقبو حقوق الإنسان الدوليون.

“متلازمة ستوكهولم”

وعلى الرغم من أن الاحتمالات تصب في صالح دولة الاحتلال، فإن تباين الحقائق بات صارخاً إلى الحد الذي جعلها تخسر حرب الدعاية على الرغم من تفوق إمكاناتها، ولهذا السبب فإن نتنياهو لا يهتم بمواصلة تبادل الأسرى يوماً واحداً أكثر مما هو مطلوب منه.

وبالنسبة لنتنياهو، فإن المشكلة تكمن في أن إطلاق حماس لسراح الأسرى لا يساعد غالباً قضيته بل يعوقها.

وحين بدا عدد من الرهائن الإسرائيليين المفرج عنهم في وقت سابق من هذا الشهر شاحبين ونحالاً إلى حد ما مثل مئات الرهائن الفلسطينيين الذين أطلقت إسرائيل سراحهم، شعر المدافعون عن الإبادة الجماعية في دولة الاحتلال بارتياح قصير الأمد، لقد جددت تلك الصورة ادعاءاتهم وأخذت ترددها وسائل الإعلام الغربية بصخب.

ولقد أثارت حالة هذه المجموعة الصغيرة من الإسرائيليين حالة من الغضب الشديد، في حين لم يبد أحد أي اهتمام بالحالة المزرية التي يعيشها الفلسطينيون المحررون.

ولكن في أغلب الحالات، بدا الإسرائيليون المفرج عنهم في صحة جيدة إلى حد معقول، وخاصة أن دولة الاحتلال كانت ترفض إدخال الغذاء والماء إلى غزة منذ خمسة عشر شهراً، في وقت كان فيه أغلب الأسرى محتجزين في أعماق الأرض لحمايتهم من قصف الاحتلال الذي دمر غزة بالكامل تقريباً.

وما يثير قلق دولة الاحتلال أكثر هو أن الأسرى خرجوا من محابسهم في حالة من الاسترخاء والراحة بين آسريهم.

وفي موقف دفاعي، رفض أنصار الاحتلال هذه المشاهد باعتبارها مفبركة للكاميرات أو زعموا أن الأسرى يعانون من “متلازمة ستوكهولم” الشديدة، وهي حالة نفسية يُقال أن الأسرى يتماهون عبرها مع آسريهم.

وعلى الرغم من أن هذا قد يكون ممكناً، فمن الصعب ألا نتساءل لماذا لم نر أي أسير فلسطيني يبدو عليه نفس القدر من الود تجاه حراس السجن الإسرائيليين.

الوقت المتبقي قليل”

وبغض النظر عن الطريقة التي يزن بها الجمهور الغربي الأدلة أمام أعينه، فإنها لا تقدم سوى القليل من المساعدة لدولة الاحتلال.

ذلك أنه وفي ظل هذه المشاهد يصعب التوفيق بين عناصر الرواية التي لا تزال مهيمنة وخالية من الأدلة والتي تقدمها إسرائيل عن معاملة حماس للأسرى، وهي الرواية التي أعادت المؤسسات الغربية تدويرها عبر الزعم أن مقاتلي حماس همجيون يقطعون رؤوس الأطفال ويرتكبون جرائم اغتصاب جماعي.

فمن خلال تقزيم حالة مقاتلي حماس إلى مجرد وحوش، كان هدف الاحتلال هو نزع الصفة الإنسانية عن سكان غزة بالكامل لتبرير جرائمه بارتكاب الإبادة الجماعية بحقهم

ولكن مشاهد الأسرى وهم يظهرون ارتباطاً إنسانياً بآسريهم من حماس يجعل الحفاظ على هذه الفكرة أكثر صعوبة، فماذا علينا أن نفعل مع ادعاء دولة الاحتلال بالتفوق الأخلاقي عندما أعلن قادتها صراحة عن نيتهم تنفيذ الإبادة الجماعية تجاه أطفال غزة.

وإذا لم تكن حماس شريرة بالصورة التي تم فيها تضليل الرأي العام الغربي، وإذا لم يكن سلوك أعضائها أسوأ أو حتى أفضل من سلوك جنود الاحتلال وحراس سجونه، فماذا يقول هذا عن مصداقية التغطية الإعلامية الغربية للأشهر الخمسة عشر السابقة من الإبادة الجماعية؟

والأمر الأكثر أهمية هو ما الذي يقوله عن همجيتنا الغربية؟ أن يقبل قادتنا المنتخبون بإهمال شديد قتل عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين في غزة انتقاماً لهجوم حماس في عام 2023؟

ولكن ماذا نفعل مع ادعاء دولة الاحتلال بأنها تتمتع بأعلى درجات الأخلاق عندما أعلن قادتها صراحة عن نيتهم الإبادة الجماعية تجاه أطفال غزة، وأخبرونا أن السكان بالكامل متورطون في هجوم حماس وبالتالي فهم أهداف مشروعة؟

أية مرتبة أخلاقية يمكن لدولة الاحتلال أن تكون قد احتلتها وهي تنتهك شروط الاتفاق لأكثر من 250 مرة، حتى أثناء وقف إطلاق النار المفترض، ورفضت وقف إطلاق النار فعليا؟

أية مرتبة أخلاقية تحتلها دولة الاحتلال عندما تسقط إخطارات فوق غزة، كما فعلت الأسبوع الماضي، وتؤكد من جديد على نيتها الإبادة الجماعية إذا رفض الفلسطينيون هناك الخضوع لخطة ترمب لتطهير السكان بالكامل عرقيا؟

إن المنشور الذي أصدرته “وكالة الأمن الإسرائيلية” يحذر: “إذا لم يعد كل سكان غزة موجودين، فلن يشعر أحد بكم، ولن يسأل أحد عنكم، لم يتبق سوى القليل من الوقت، قد انتهت اللعبة تقريباً”.

وينتهي المنشور بدعوة الفلسطينيين إلى التعاون: “كل من يرغب في إنقاذ نفسه قبل فوات الأوان، فنحن هنا، باقون إلى نهاية الزمان”.

حسابات عنصرية

ومن خلال تضليل واسع النطاق، سعت دولة الاحتلال إلى استغلال المشاعر الجياشة بشأن وفاة عائلة بيباس في غزة، وهي عائلة من أم إسرائيلية وطفليها الصغيرين الذين تم احتجازهم كرهائن في 7 أكتوبر.

فبعد إعادة جثثهم في نهاية الأسبوع، ادعت دولة الاحتلال على الفور أنهم قُتلوا على يد من كان يأسرهم، وفي حالة كهذه، تظهر حماس كعصابة إجرامية استولت على العائلة.

وحتى إن كان ذلك قومياً ووحشياً، فقد يكون من المفهوم أن يهتم الإسرائيليون بهذه الوفيات الثلاث أكثر من المذبحة وتشويه عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين في غزة على يد جيشهم، لكن السؤال يبقى لماذا يتبنى الساسة ووسائل الإعلام الغربية نفس الحسابات العنصرية؟

لماذا كانت وفاة ثلاثة أبرياء إسرائيليين أكثر أهمية بكثير، وأكثر قيمة إخبارية، وأكثر إيلاماً من وفاة عشرات الآلاف من الأبرياء الفلسطينيين؟

في الواقع، هناك أسباب وجيهة للغاية للاعتقاد بأن دولة الاحتلال تكذب مرة أخرى، وأن هذا مجرد إعادة انتاج وتحريك لكذبة “الأطفال مقطوعي الرؤوس” التي أثارت في الأصل مزاج الإبادة الجماعية.

فقد تم الإبلاغ على نطاق واسع عن مقتل عائلة بيباس في قصف شامل للاحتلال في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، في وقت مبكر من الإبادة الجماعية الإسرائيلية.

بل إن حماس عرضت إعادة جثثهم إلى جانب الأب الذي لا يزال على قيد الحياة بعد وقت قصير من وفاتهم، لكن دولة الاحتلال، وبسخرية تامة، كما أشار المحلل الفلسطيني محمد شحادة، رفضت العرض حتى تتمكن من “التظاهر عمداً بأنهم ما زالوا على قيد الحياة والاستفادة من رواية “الوحوش” الفلسطينية التي تحتجز طفلًا رهينة”.

والآن تستغل دولة الاحتلال وأنصارها بمساعدة وسائل الإعلام معاناة عائلة بيباس لحشد الدعم للعودة إلى قتل الأطفال الفلسطينيين بدم بارد.

ومن المرجح أن تكون عائلة بيباس، مثلها كمثل آلاف الأسر الفلسطينية، قد تمزقت بفعل القنابل التي زودتها بها الولايات المتحدة، وربما يفسر هذا الخلط الأولي بين أجزاء الجسم، والذي أدى إلى إعادة امرأة فلسطينية بدلاً من شيري بيباس، الأم، إلى دولة الاحتلال قبل أن تتمكن حماس من تصحيح الخطأ.

وفي إشارة إلى مدى ضعف مصداقية مسؤولي الاحتلال في هذا الشأن، منع الناجون من أفراد عائلة بيباس وزراء الحكومة من حضور الجنازات المقررة يوم الثلاثاء، ومجدداً ظهر تواطؤ وسائل الإعلام الغربية في هذه التلاعبات.

فخلال الأسبوع الماضي، كشف تحقيق أجرته مؤسسة Declassified UK عن شهادات موظفين من هيئة الإذاعة البريطانية، وشبكة سكاي نيوز، وشبكة آي تي إن، وصحيفة الغارديان، وصحيفة تايمز، أن دعاية الاحتلال “كانت مهيمنة” في منافذهم الإعلامية.

وقد قام موظفون ساخطون في صحيفة الغارديان بتجميع جدول بيانات يحتوي على “جبل من الأمثلة” على قيام الصحيفة “بتضخيم الدعاية الإسرائيلية أو التعامل مع التصريحات الكاذبة الواضحة التي أدلى بها المتحدثون الإسرائيليون باعتبارها موثوقة”.

وقال صحفي في سكاي إن القناة فرضت مجموعة كاملة من القواعد غير المكتوبة التي تنطبق حصراً على تغطية إسرائيل: “إنها معركة مستمرة لنقل الحقيقة”، وفي كل مرة يتم فيها إضفاء طابع إنساني على الفلسطينيين، أو التدقيق في المتحدثين الإسرائيليين، كانت القناة تواجه “سيلًا من المكالمات الهاتفية والشكاوى”.

لقد كان للتهديدات بمنع وصول سكاي إلى كبار المسؤولين الإسرائيليين أو منع مراسلي القناة من دخول المنطقة التأثير المطلوب، حيث أثرت على “ما قيل وما لم يقل على الهواء”.

أما موظفو هيئة الإذاعة البريطانية فتحدثوا مرة أخرى عن ثقافة في هيئة الإذاعة الحكومية حيث يتم تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم بشكل روتيني، بعكس طريقة التعاطي مع الإسرائيليين.

وأشار أحد صحفيي الهيئة إلى أن “استخدام كلمة الإبادة الجماعية محظور فعلياً فيها، حيث يتم إغلاق حساب اي مساهم يستخدم هذه الكلمة على الفور”.

وهذا هو السياق لفهم قرار هيئة الإذاعة البريطانية في نهاية الأسبوع بإزالة فيلم وثائقي عن غزة كان متاحاً لفترة وجيزة على خدمة البث iplayer.

كان عنوان الفيلم (غزة: كيف تنجو من منطقة حرب)، وقد قدم نظرة طفولية إلى حد كبير عن تدمير غزة، وكان ذلك الفيلم أول محاولة من جانب هيئة الإذاعة الحكومية لإضفاء الطابع الإنساني على الفلسطينيين بشكل صحيح، بعد 16 شهرًا كاملة من بدء الاحتلال الإبادة الجماعية “المعقولة”.

وسائل الإعلام جبانة

كانت الجماعات المؤيدة للاحتلال، والتي بررت بوحشية مذبحة أطفال غزة في كل خطوة من مراحلها ستثير حتماً نوبة غضب، وكان من المتوقع أيضاً أن تستسلم هيئة الإذاعة البريطانية لأدنى مستويات الضغط.

ولكن حتى وفقاً للمعايير التعيسة لجبن وسائل الإعلام الرسمية، فإن هذا الخضوع كان انحداراً، حيث اتهمت جماعات الضغط المؤيدة للاحتلال هيئة الإذاعة البريطانية بدعم الإرهاب وترويج المعلومات المضللة فقط لأن الراوي الرئيسي للفيلم ويدعى عبد الله وهو يبلغ من العمر 14 عاماً، هو ابن وكيل في إحدى وزارات حكومة حماس.

وفي شكوى رسمية إلى هيئة الإذاعة البريطانية كتبها 45 صحفياً ومديراً تنفيذياً لوسائل الإعلام اليهودية وُصِف أيمن اليازوري، والد الطفل عبد الله، بأنه “زعيم إرهابي”.

والحقيقة أن اعتراضات منظمات الضغط هي التضليل الحقيقي، وهذا يتوقف على الفرضية المركزية للتشريع البريطاني القاسي المستوحى من إسرائيل والذي يخلط بين أي علاقة مع حماس، وحكومة غزة، والإرهاب.

لقد أسرت دولة الاحتلال مئات من العاملين في المجال الطبي في غزة، ثم عذبتهم، على أساس أنهم مرتبطون بالإرهاب لأنهم يعملون داخل المستشفيات العامة التي تشرف عليها إدارة حماس.

أما اليازوري، الذي درس الدكتوراه في الكيمياء البيئية في إحدى الجامعات البريطانية ثم عمل في وزارة التعليم في الإمارات العربية المتحدة للمساعدة في وضع مناهج العلوم، فتمت الاستعانة به عند عودته إلى غزة في وزارتي التعليم والزراعة وذلك بسبب مهاراته التخصصية، وليس لأنه عضو في حماس.

ومن المفترض أن ابنه عبد الله، الذي تلقى تعليمه في المدرسة الوحيدة الناطقة باللغة الإنجليزية في غزة، تم اختياره لسبب لا أكثر شراً من أنه كان أحد الأطفال القلائل في غزة الذين يستطيعون سرد القصص بطلاقة لجمهور هيئة الإذاعة البريطانية بلغتهم الأم.

على أية حال، فإن رواية عبد الله ليست ملحوظة على الإطلاق، فهي ببساطة تقدم الشخصيات وهم يكافحون من أجل التغلب على كارثة إنسانية خططت لها دولة الاحتلال ويمكن للجمهور أن يراها بنفسه على الشاشة.

ضغوط غير عادية

لقد تم اختيار الأطفال الذين تم سرد قصصهم في الفيلم وتم حذفها لاحقاً، لأسباب صحفية واضحة: لأنهم يقومون بأشياء مقنعة تحت ضغوط غير عادية، فهم مثلاً أصبحوا طهاة خارقين على تيك توك، على الرغم من الحصار الغذائي الذي فرضه الاحتلال، ومنهم من تطوع في مستشفى لنقل المصابين في عدوان الاحتلال من سيارات الإسعاف إلى الأطباء المنتظرين.

وبخلاف ذلك، فإن إطار الفيلم الوثائقي صديق لإسرائيل تماماً، إنه يُظهر حماس ملعونة من قبل السكان المعذبين أكثر مما هي كذلك من قبل دولة الاحتلال، بل إن الفيلم يصف ما تشك فيه أعلى محكمة في العالم بأنه إبادة جماعية في غزة ببساطة بأنه “حرب”، كما أنه يشير إلى الإسرائيليين الذين أسرتهم حماس، بمن فيهم الجنود، بشكل موحد باسم “الرهائن”.

الفيلم الوثائقي يشكل خطراً على دولة الاحتلال لا بسبب سياساتها، ولكن بسبب إضفاء الطابع الإنساني على أطفال غزة، الذين تم ذبحهم بأعداد هائلة

وبالإضافة إلى الجزء الأخير من الفيلم الذي تظهر فيه مروحيات الأباتشي الإسرائيلية وهي تهاجم طاقم سيارة إسعاف، فإن ما تخشاه منظمات الضغط المؤيدة للاحتلال هو أي صورة للفلسطينيين تتناقض مع الدعاية الإسرائيلية، أي شخص في غزة يتعرض للتمييز.

ففي غزة، يجب أن تظل الرواية مبنية على أنه حتى الأطفال هناك إرهابيون جلبوا الموت والدمار على رؤوسهم.

هذه حجة لا ينبغي أن تلقى صدى إلا لدى المرضى النفسيين، ومع ذلك، فإن محطات البث لدينا تتقبلها دون أدنى شك، كما تفعل حكومة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر.

كما أن هذه الحجة تبرر الإبادة الجماعية لذلك ينبغي للقادة الغربيين ووسائل الإعلام أن يعملوا بجد لتجنبها، لكنهم بدلاً من ذلك، يساعدون في صياغة رواية دعائية تجعل استئناف الإبادة الجماعية أمراً لا مفر منه.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة