بقلم سؤدد الصالحي
يواجه العراق تحديات اقتصادية متزايدة بعد حملة قمع للفساد المالي وتهريب الدولار من قبل الاحتياطي الأمريكي منذ ما أسماها مسؤولون عراقيون خلال لقائهم مع ميدل إيست آي “سرقة القرن”.
وترجع الكارثة الاقتصادية، والتي من المتوقع أن تتصاعد في الأسابيع المقبلة، إلى انهيار استخدام الدولار في المعاملات التجارية اليومية بعد إقامة مزاد عملات تحت إدارة البنك المركزي العراقي، مزاد تعتمد عليه الحكومة العراقية من أجل تحويل إيراداتها من النفط إلى الدينار العراقي.
في 2022، بعد أن وصلت مبيعات الحكومة للقطاع الخاص إلى متوسط 200 مليون دولار في اليوم الواحد، تراجعت بشكل حاد في أواخر العام، حتى وصلت إلى متوسط 56 مليون دولار في نهاية ديسمبر، وفقاً لإحصاءات ميدل إيست آي.
“المشكلة التي نواجهها اليوم في العراق هي شح الدينار العراقي وليس الدولار”
مسؤول في البنك المركزي العراقي
وتعاني الحكومة العراقية اليوم من نقص في توفر سيولة من الدينار العراقي، الأمر الذي أثر على قدرتها على دفع أجور القطاع الخاص بالإضافة إلى التزامات أخرى، فقد أشار مسؤول في البنك المركزي العراقي لم يفصح عن اسمه لميدل إيست آي أن “المشكلة التي نواجهها اليوم في العراق هي شح الدينار العراقي وليس الدولار”.
تواجه دول الجوار مثل إيران وسوريا وتركيا، والتي تعتمد بشكل كبير على أسواق صرف العملات في العراق للحصول على الدولار، أزمة سيولة أيضاً وفقاً لمسؤولين عراقيين، خاصة مع امتداد الأزمة لقطاعات اقتصادية متعددة، تزامناً مع ارتفاع سعر صرف الدولار في الأسواق غير الرسمية من 148 دينار عراقي إلى 163 دينار منذ نوفمبر الماضي.
انعكس ذلك على ارتفاع أسعار السلع في السوق، فخلال أسبوع، ارتفع سعر كيلو الأرز من 1.850 دينار (1.25$) إلى 2.350 دينار (1.57$)، بينما ارتفع سعر لتر الزيت النباتي إلى أكثر من الضعف، من 1.250 دينار (0.85$) إلى 3000 دينار (2$).
نفى مسؤولون عراقيون، في حديثهم مع ميدل إيست آي، وجود صلة مباشرة بين الأزمة الحالية وما يسمى “سرقة القرن”، والتي تم فيها سرقة 2.5 مليار دولار من مصلحة الضرائب العراقية من خلال بنك مملوك للدولة في الفترة بين سبتمبر 2021 وأغسطس 2022، غير أنهم أقروا بفرض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ضوابط صارمة على البنوك الخاصة التي تشتري الدولار من خلال المزاد قبل شهرين، أي بعد أسابيع فقط من كشف وزارة المالية العراقية عن تفاصيل السرقة في 10 أكتوبر 2022، حين أعلن رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، أن غالبية المال المسروق تم تهريبه إلى خارج العراق.
في نوفمبر الماضي، أشار رئيس هيئة النزاهة الاتحادية، حيدر حنون، إلى أن العراق حاول استرداد المال المسروق بطلب المساعدة من حكومات صديقة ومنظمات دولية ومن الأمم المتحدة، كما قام مجلس الاحتياطي الفيدرالي بفحص التحويلات الخارجية خلال نوفمبر في محاولة لتتبع المال المسروق، الأمر الذي أدى إلى تأخيرات في التحويلات وتراجع مبيعات الدولار في المزاد، خاصة مع قيام المجلس بالكشف عن شيكات تتضمن مصادر أموال البنوك الخاصة التي تشارك في المزاد، مما أدى إلى انسحاب العديد منها ورفع سعر الصرف غير الرسمي.
تصاعد الأزمة
في أواخر ديسمبر، اجتمع أعضاء من الإطار التنسيقي، أكبر ائتلاف سياسي داعم للحكومة، لبحث تداعيات ارتفاع سعر صرف الدولار على الأسواق العراقية، حيث أشار محافظ البنك المركزي مصطفى غالب في الاجتماع إلى أن الاحتياطي الفيدرالي لديه “دلائل مهمة” على وجود عمليات تهريب لدول مجاورة، متتبعاً خط سيرها من بنكين مصريين في دبي إلى عمان ثم إيران، عن طريق أربعة بنوك خاصة عراقية، تلقت أوامر بوقف التعامل مع البنكين المصريين في نوفمبر، وفقاً لتوجيه الاحتياطي الفيدرالي.
وبحسب مصادر عراقية، أصدر البنك المركزي أمراً أيضاً بوقف التعامل بالدولار مع البنوك العراقية الأربعة “لأغراض التدقيق” في 6 نوفمبر، الأمر الذي قابلته البنوك الأربعة برفع دعوى قضائية، تم رفضها، ضد البنك المركزي.
أكد مستشار مالي عراقي مشارك في التحقيق في قضية “سرقة القرن” في حديثه لـ ميدل إيست آي، على أن الاحتياطي الفيدرالي “كانوا يملكون دليلاً قاطعاً على أن السرقة تمت بأدوات حكومية”، وشكلت “الدافع المطلوب للاحتياطي الفيدرالي لفرض إجراءاته على البنوك العراقية بما فيها البنك المركزي”.
إيرادات النفط
تحتاج الحكومة العراقية إلى 8 مليار دولار (5.5 مليار $) شهرياً على الأقل لتتمكن من دفع رواتب موظفي الحكومة والمتقاعدين والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية ومن ضحايا الإرهاب وغيرهم، وهو مبلغ يتم تأمين غالبيته من مزاد العملات في العادة، والتي تأتي بدورها في الغالب من إيرادات النفط ، والتي يتم تحويلها بالدولار إلى حساب باسم الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نيويورك منذ 2003 .
“الضغوط في تزايد وستزداد الأوضاع سوءاً في حال لم تتخذ الحكومة تدابير حاسمة لاحتواء الأزمة”
مستشار رئيس الوزراء العراقي
من جانبها، تقوم وزارة الخزانة الأمريكية بتحويل 10 مليار دولار من عائدات النفط إلى البنك المركزي العراقي سنوياً، مقسمة إلى 4 دفعات، من أجل الحفاظ على توازن العملة الصعبة داخل العراق، حيث يقوم البنك المركزي بتصريف الدولارات الواردة عبر مزاد العملات الصعبة وقنوات أخرى من أجل توفير سيولة من الدينار في خزينة وزارة المالية، وعليه، يتسبب أي تراجع في سعر الدولار في شح السيولة من الدينار، الأمر الذي يتم تغطيته عادة من مخزونات العملات في البنك المركزي، إما بالقروض الداخلية أو طباعة المزيد من العملات أو أنشطة مالية أخرى.
يذكر أن حجم تداول الدولار في مزاد العملات ظل مستقراً بمعدل 200 مليون دولار في اليوم الواحد خلال عامي 2019-2020، رغم انخفاض أسعار النفط والركود الذي صاحب انتشار وباء كوفيد-19، ولكنه تذبذب خلال 2021 ليعود إلى الاستقرار على 200 مليون دولار لليوم الواحد حتى نوفمبر 2022 حين حصل التراجع الكبير.
“الخيارات محدودة”
حاول البنك المركزي البحث في خيارات جديدة بعد انهيار إيرادات العملات مؤخراً، عن طريق فتح منافذ لبيع الدولار مباشرة إلى المواطنين عبر نظام المزاد أيضاً، في سعي لتوفير سيولة من الدنانير، غير أن أرقام الأسابيع الأخيرة أشارت إلى أن متوسط ما يبيعه البنك في اليوم الواحد لم يتجاوز 90 مليون دولار حتى الآن، وسط تحذير الخبراء من زيادة التدهور خاصة بعد إطلاق البنك المركزي منصة إلكترونية جديدة لتنفيذ المزاد مؤخراً.
من جانبه، أكد البنك المركزي أن إطلاق المنصة جاء “بالتعاون مع جهات دولية بهدف تنظيم البيع والشراء”، حيث تربط المنصة الجديدة جميع البنوك بالبنك المركزي وتتطلب الإفصاح عن تعاملات عملائها المالية، مما يزيد الأمر تعقيداً و”سوف يؤدي إلى تراجع إقبال الناس على المزاد”وفقاً لمستشار رئيس الوزراء في حديث لـ ميدل إيست آي، ثم أضاف “الضغوط في تزايد وستزداد الأوضاع سوءاً في حال لم تتخذ الحكومة تدابير حاسمة لاحتواء الأزمة”.
وتبلغ قيمة المبالغ المخصصة للرواتب والتعويضات في الموازنة المقترحة لعام 2023، والتي تنتظر إقرار البرلمان العراقي، حوالي 100 تريليون دينار (68 مليار دولار)، في الوقت الذي لا يملك فيه البنك المركزي إلا 83 تريليون دينار منها!
لذلك، يرى البنك أن “مزاد العملات الأجنبية هي الوسيلة الأساسية لتوفير سيولة من الدينار العراقي، ما لم ترتفع مبيعات المزاد سيضطر البنك المركزي لإصدار جديد من الدينار” وفقاً لتصريحات مسؤول في البنك خلال حديثه مع موقع ميدل إيست آي، ولكن إصداراً جديداً يعني بالضرورة انخفاضاً جديداً في قيمة الدينار وارتفاعاً في التضخم!
خلال اجتماعهم، رفض أعضاء الإطار التنسيقي مقترح محافظ البنك المركزي لإصدار جديد من العملة المحلية، لأنه “يشكل عبئاً كبيراً على الحكومة والمواطن”، واقترحوا أن يطلب رئيس الوزراء مهلة 6 أشهر من واشنطن قبل البدء بالإجراءات الجديدة، وتخفيف التدقيق من قبل الاحتياطي الفيدرالي وتسريع التحويلات المالية وتشديد الرقابة على بيع الدولار عبر منطقة الحكم الذاتي في كردستان العراق.
يلخص مسؤول عراقي في حديث مع موقع ميدل إيست آي الأمر بقوله “يعرف القادة في بلدنا أن البنوك الخاصة ومزاد العملات يمثلان البنية التحتية لشبكات الفساد الكبرى، لذلك اتفقوا على أن محاربة الفساد لن تتحقق إلا بمعالجة القضية”.