حين يتحوّل الطب إلى غطاء: مجلة ”نيو إنجلاند” تروّج للتعايش بينما تُقصف مستشفيات غزة

مقال مشترك لــ 

غادة مجدلي، د. جيمس سميث، د. غسان أبو ستة، د. رشا خوري

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

يوم 27 مارس/آذار 2025، نشرت مجلة ”نيو إنجلاند” الطبية (NEJM)مقالًا بعنوان “جسور الرعاية الصحية.. مسارات نحو الثقة في غزة وما بعدها”، وقد كان هذا المقال هو الثاني فقط عن غزة منذ بدء العدوان عليها في أكتوبر/تشرين الأول عام 2023.

كانت هذه المساهمة الرائدة لمجلة ”نيو إنجلاند” الطبية حول فلسطين لافتة للانتباه سيما وأنها جاءت من المجلة المعروفة كإحدى أكثر المجلات الطبية تأثيرًا في العالم، إذ لم يُنشر قبله أي تقرير عن الاستهداف الممنهج لنظام الرعاية الصحية الفلسطيني، ولا أي دعوة للمساءلة أو العدالة لأكثر من 1200 عامل طبي قُتلوا، ولا أي إدانة لاعتقال وتعذيب مئات آخرين، بل إن المجلة تُقدم نداءً محدودًا لبناء الثقة من خلال برامج صحية مشتركة.

إن هذا القرار التحريري هو ذو طابع سياسي بحت، فالمجلة تروج لسردية غير مسيسة للصحة باعتبارها “جسرًا للسلام” على حساب الالتزام الأخلاقي بمواجهة التدمير المستمر لنظام الرعاية الصحية الفلسطيني، ومسؤولية الاحتلال وهياكل سلطته التي تمكن وتدعم مثل هذا العنف وهذه الجرائم، فهذه ليست ظروفًا هامشية، بل هي العائق الرئيسي أمام أي جهد جاد نحو السلام.

تكافؤ زائف

وتتضح الإشكالية في صياغة المقال منذ البداية. فهو يبدأ بروايات متوازية من طبيب في دولة الاحتلال وآخر فلسطيني، يُقدّم كل منهما كضحية للعنف.

والحق أن التجارب العاطفية لكلا الشخصين تستحق الدراسة، إلا أنه يتم تجاهل التباين الهيكلي بينهما تمامًا، فأحدهما يعمل في مركز صدمات مجهز بالكامل في دولة الاحتلال، والآخر هُجّر بسبب العنف، وتُرك كطبيب وحيد لخدمة عشرين ألف شخص في مخيم للاجئين جنوب غزة.

وبعرض سرد الطبيبين جنبًا إلى جنب، يُنشئ المقال تكافؤًا زائفًا يُصوّر كليهما على أنهما متضرران بالتساوي ومسؤولان بشكل مشترك عن انهيار الثقة التي يدّعي المؤلفان ضرورة إعادة بنائها الآن.

ولا يُقرّ الناشران في أي موضع في مقالهما بأن نظام الرعاية الصحية الفلسطيني قد فُكّك بشكل منهجي، بينما لا يزال النظام في دولة الاحتلال على حاله، بل إنه وفي كثير من الحالات، يخدم بفعالية مجهودها الحربي

تعكس هذه المقالة نمطًا أوسع نطاقًا في الطب والمؤسسات الطبية والثقافات التحريرية للمجلات الرائدة نمطًا يُمحى فيه الفلسطينيون ويُجرّد تجربتهم من إنسانيتها ويُهمّش حقوقهم السياسية.

وباعتبارنا عاملين في مجال الرعاية الصحية ومدافعين عن الصحة العامة، تقع على عاتقنا مسؤولية فضح هذه الروايات وتحديها قبل أن تُصبح أساسًا لمزيد من الضرر، ونحن ننضم إلى الآخرين في القيام بذلك هنا.

“عسكرة الطب”

يؤكد مؤلفو مجلة نيو إنجلاند الطبية دون أدلة أو توضيحات أن المستشفيات في غزة “عُسْكَرت” و”سُلِّحَت”، لكنهم يتجاهلون تمامًا وبطريقة تدعى للسخرية، العسكرة العميقة والمتنامية للنظام الصحي في دولة الاحتلال.

فقد دعمت الجمعية الطبية في دولة الاحتلال على نطاق واسع الهجوم على غزة، وضغطت بفاعلية ضد الإدانة الدولية لها في الوقت الذي تُصوّر فيه نفسها كهيئة طبية محايدة ملتزمة بالرعاية.

وشوهد أطباء من دولة الاحتلال يحملون أسلحةً داخل المستشفيات، وساعد أطباء العائلة في تسليح المدنيين المستوطنين، وفرضت المؤسسات الطبية رقابةً ومعاقبةً على العاملين الفلسطينيين في مجال الرعاية الصحية الذين يتحدثون علنًا عن العنف قوات الاحتلال في غزة.

لقد وقّع أكثر من 100 طبيب في دولة الاحتلال رسالةً مفتوحةً تدعم تدمير المستشفيات في غزة ولم يواجه أيٌّ منهم أي عواقب قانونية أو مهنية.

لم يكن ذلك مجرد صمت أو تواطؤ، فقد شاركت المؤسسات الطبية في دولة الاحتلال بلا خجل في الحرب، حيث يتنقل العاملون الصحيون بانتظام بين العمل السريري والخدمة العسكرية، وغالبًا ما يظهرون بزيهم العسكري في المستشفيات، وقد تورط بعضهم بشكل مباشر في الإهمال الطبي وتعذيب المعتقلين الفلسطينيين.

في دولة الاحتلال، لم تُطمس الحدود بين الطب والعسكرة والإفلات من العقاب فحسب، بل إنها انهارت وأصبحت أمرًا طبيعيًا داخل المؤسسة الطبية في البلاد، فكيف يُمكن للطب أن يكون مساحةً للثقة وهو مُتجذّرٌ بعمق في أنظمةٍ تسمح بقتل حياة الفلسطينيين وتُبرّره، بل وتحتفل به؟

غطاء للقمع

بينما يشير مؤلفو مجلة نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن بإيجاز إلى أن مستشفيات غزة قُصفت وأُغلقت أبوابها، إلا أنهم لا يقدمون أي تحليل لعدم التكافؤ أو القصد أو عدم الشرعية.

وبدلاً من ذلك، يُصوَّر الدمار على أنه نتيجة مؤسفة للحرب، وليس جزءًا من حملة ممنهجة للقضاء على قدرة شعب بأكمله على العيش أو التعافي أو البقاء، والنتيجة هي رواية مُنقَّحة تُخفي عنف الدولة وراء ستار من المعاناة والأمل المشتركين.

نعم، إن هذا التطهير يُخفي عنف الدولة كمأساة مشتركة، ويُخفي غايته وبدلاً من التعاطي مع واقع نظام رعاية صحية مُستهدف بالتدمير، ينسحب المؤلفون إلى تجريدات إنسانية.

إنهم يُصوّرون الطب كممارسة محايدة يُمكن من خلالها للفلسطينيين ومن يحتلهم بناء الثقة وتعزيز التفاهم المتبادل كما لو أن هذه الجهود يُمكن أن توجد بشكل معقول بمعزل عن هياكل العنف والهيمنة والإبادة.

وبهذا، يتجاهل صناع المقال التشابك العميق للنظام الصحي مع آلية الاحتلال والفصل العنصري وهو واقع يعود تاريخه إلى ما قبل أكتوبر 2023 بوقت طويل.

ففي الضفة الغربية، تُدير جامعة أرييل كلية طب في قلب مستوطنة غير شرعية وهو مثال واضح على كيفية تداخل الطب مع بنية الهيمنة الاستعمارية الاستيطانية.

أما في غزة، فقد أدى حصارٌ دام 17 عامًا إلى خنق النظام الصحي بشكل منهجي، وحرم المرضى من الحصول على الرعاية الطبية المُنقذة للحياة، بما في ذلك تصاريح الخروج لتلقي العلاج الطبي الأساسي في الخارج.

وفي غضون ذلك، حُرمت المستشفيات من المعدات الطبية بموجب قيود تعسفية على “الاستخدام المزدوج”، وعانت بانتظام من نقص في الأدوية المنقذة للحياة.

وحتى داخل حدود عام 1948، يتجلى إرث الاستعمار والفصل العنصري في النتائج الصحية، حيث يعيش المواطنون الفلسطينيون في دولة الاحتلال أعمارًا أقصر ويواجهون صحة أسوأ من نظرائهم اليهود.

ترديد الدعاية

والأسوأ من ذلك، أن مؤلفي مجلة نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن يتجاوزون الحذف ويرددون بتهور دعاية الاحتلال، بل إنهم يكررون ادعاءات أن مستشفيات غزة “مُعسكرة” و”مُسلحة” – وهي لغة يستخدمها نظام الاحتلال لتبرير تدميرها.

لكن هؤلاء المؤلفين يتجنبون تمامًا الأدلة المتزايدة على أن هجمات الاحتلال على البنية التحتية الصحية كانت ممنهجة ومتعمدة، وفي انتهاك واضح للقانون الدولي في خطاب مخادع يرمي  إلى صرف الانتباه عن المسؤولية الجنائية للاحتلال، وإخفاء تدمير النظام الصحي كجزء من حملة الإبادة الجماعية الأوسع.

يتضح الآن بشكل متزايد أن هذه الادعاءات كانت جزءًا من استراتيجية أوسع نطاقًا لاستغلال القانون الدولي مجددًا متذرعةً بمبدأ التناسب لتبرير استهداف المرافق الصحية.

لقد ساهم هذا التلاعب بالأطر القانونية في إخفاء جرائم الحرب وإضفاء الشرعية على التدمير الشامل للنظام الصحي في غزة بذريعة الضرورة العسكرية، ويجب إدانة مثل هذه الروايات بشكل قاطع، ولا مكان لها بالتأكيد في المجلات الطبية.

إعادة بناء الرعاية الصحية في غزة

لا يمكن لقطاع غزة أن يتعافى في ظل ظروف الاحتلال والفصل العنصري والتبعية المصطنعة لنظام الاحتلال الذي وظف هذه التبعية بشكل منهجي ومكثف طوال الحصار الذي دام 17 عامًا، وتفاقم في مرحلة ما بعد أكتوبر 2023 من الإبادة الجماعية.

وعلى الرغم من هذا الواقع، يُسلّط مؤلفو مجلة نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن الضوء بشكل انتقائي على عدد قليل من الشراكات الصحية الفلسطينية الإسرائيلية محدودة النطاق لتعزيز خطة محددة لإعادة بناء النظام الصحي في غزة.

إذا كان للصحة أن تكون جسرًا، فيجب ألا تؤدي إلى الإفلات من العقاب والإبادة البطيئة، بل إلى العدالة والتحرر الجماعي

إنهم يقترحون سلسلة من الإجراءات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لا يتناول أي منها الهياكل السياسية الأساسية التي تضر بالفلسطينيين.

وبدلاً من ذلك، تعتمد كل مرحلة من مراحل الخطة على استمرار تدخل الاحتلال وما يُفترض أنه إحسان من نظامه مثل نقل المرضى الفلسطينيين إلى المستشفيات الإسرائيلية، وتدريب الأطباء الفلسطينيين في المؤسسات الإسرائيلية، واستيعاب قطاع الصحة في غزة ضمن النظام البيئي التكنولوجي لدولة الاحتلال.

وفي حين أن هذه الإجراءات قد تُقدم إعفاءً مؤقتًا لعدد قليل من الفلسطينيين، إلا أنها في نهاية المطاف تُعيد إنتاج هياكل السيطرة والضعف والعنف ذاتها التي لطالما ميّزت نهج الاحتلال تجاه الصحة الفلسطينية.

هذه ليست حلولاً تقنية محايدة، بل هي تدخلات سياسية تُحافظ على دور الاحتلال كحارس على الحياة والموت والتنقل.

إن اقتراح مثل هذه التدابير الجزئية الآن وفي ظل تدمير النظام الصحي في غزة وتفاقم الإبادة الجماعية أمرٌ يدعو إلى السخرية الشديدة، فهذه ليست مقترحات جديدة أو مبتكرة، إنها تُمثل الحد الأدنى من التزامات القوة المحتلة. 

وفي أحسن الأحوال، تُقدّم هذه الحلول عودةً سريعةً إلى الوضع الراهن العنيف الذي كان قائمًا قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023.

يجب أن يبدأ أي جهد حقيقي لإعادة بناء النظام الصحي في غزة بالامتثال الكامل من جانب الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار، يليه التفكيك التدريجي للاحتلال والفصل العنصري ومشروع الاستعمار الاستيطاني الأوسع. 

عندها فقط، يُمكن للفلسطينيين تحديد كيفية إعادة بناء نظام صحي قائم على الكرامة والسيادة السياسية والعدالة وتحديد الجهة التي يفعلون معها ذلك.

إن الدعوات إلى الثقة والشراكة والتعاون، لا سيما عندما تُشرّعها جهات طبية ومجلات أكاديمية بارزة، تمثل شكلاً جوهرياً من أشكال التلاعب المعرفي، حيث يُشوّه الطب أكثر لخدمة الأجندة الأوسع لنظام الاحتلال، مُغلّفًا بلغة إنسانية تُخفي التواطؤ وتبطن العنف المُتشعّب للإبادة الجماعية والاحتلال والفصل العنصري.

وإذا كان من المفترض أن تكون الصحة بمثابة جسر، فلا ينبغي أن تؤدي إلى الإفلات من العقاب والإبادة البطيئة، بل إلى العدالة والتحرر الجماعي.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة