هل التطبيع مع الاحتلال أصبح ورقة ضغط أميركية جديدة على لبنان؟

بقلم هشام صفي الدين

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

خلال الأيام الأخيرة، لم يتوقف الحديث عن التطبيع بين لبنان ودولة الاحتلال، وبلغت موجة التكهنات ذروتها أواخر الشهر الماضي، عندما أعلن المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أن التطبيع “احتمال وارد”.

كما انضم العديد من السياسيين اللبنانيين إلى هذا التوقع، حيث وصفت النائبة المعروفة كبرلمانية إصلاحية بولا يعقوبيان التطبيع بأنه كان من “المحرمات” التي يجب كسرها، وأعلن النائب الموالي للسعودية، وليد البعريني، الذي تُؤيد دائرته الانتخابية في منطقة عكار القضية الفلسطينية، أن التطبيع قد يُمكّن لبنان من استعادة الأراضي التي احتلتها الدولة العبرية خلال الحرب الحالية واستعادة الاستقرار.

وشهدت هذه الموجة ترويجاً لادعاءات مُكررة حول الفوائد الاقتصادية المزعومة “للسلام” مع دولة الاحتلال، وحاجة لبنان إلى اللحاق بالدول العربية الأخرى التي عبرت هذا الجسر.

غير أن التطمينات المتأخرة من الرئيس اللبناني المنتخب حديثًا جوزيف عون ورئيس الوزراء المعين نواف سلام بأن التطبيع ليس مطروحًا على الطاولة قادت إلى كبح جماح هذه الحملة المحمومة، وفي مواجهة الضغط الشعبي، تراجع البعريني عن طرحه أيضاً.

وعلى الرغم من الحملات الإعلامية، فإن فرص التطبيع في شكل معاهدة “سلام” شاملة في المستقبل القريب تبدو ضئيلة، نظرًا لوجود معارضة واسعة النطاق بين شرائح واسعة من الشعب والقوى السياسية المناهضة للصهيونية، حيث تمكنت انتفاضة شعبية من إلغاء معاهدة “السلام” التي وقّعها لبنان مع دولة الاحتلال تحت قذائف الدبابات التي كانت تقتحم بيروت في العام 1983.

غير أن خطر الدفع التدريجي نحو شكل من أشكال التطبيع أو استخدامه لانتزاع تنازلات، بما في ذلك تحييد جبهة المقاومة اللبنانية على المدى الطويل لم يهدأ اليوم، وهذا مؤشر على تنامي وصاية واشنطن على لبنان وسط تصاعد عدوان الاحتلال.

وتكمن إحدى نقاط الخلاف فيما إذا كان لبنان سيوافق على المطالب الأمريكية بإجراء محادثات دبلوماسية مباشرة مع دولة الاحتلال لحل النزاعات الحدودية.

وبحسب ما ورد، اقترح سلام دبلوماسية مكوكية غير مباشرة كبديل، في إطار ذات النهج الذي اعتمده المبعوث الأمريكي السابق عاموس هوشتاين لترسيم الحدود البحرية والتوسط في اتفاق لوقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين ثاني الماضي.

التطبيع بجرعات صغيرة

في ضوء ذلك، أعلن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب اللبناني، فادي علامة، بأن عون لا يدعم المحادثات المباشرة على المستوى السياسي، وقال إنه يمكن إنجاز المفاوضات بشأن النزاعات الحدودية من خلال تشكيل لجان مشتركة مؤلفة من عسكريين وفنيين، على غرار تلك التي تولت ترسيم الحدود المائية عام 2022.

وفي مقابلة تلفزيونية، نفت نائبة المبعوث الأمريكي الخاص، مورغان أورتاغوس، رفض عون فكرة إنشاء لجان دبلوماسية خلال لقائها به نهاية الأسبوع، ولكن وعلى عكس زيارتها الأولى، حين تجاهلت تصريحاتها جميع قواعد الدبلوماسية وتباهت بانتصار الاحتلال، قالت أورتاغوس إنها “لم تُجرِ أي حديث” حول التطبيع.

وبدا أن أورتاغوس تُولي أهمية متساوية لنزع سلاح حزب الله والإصلاحات الحكومية، مُبقيةً هجومها اللاذع على حزب الله، وواصفةً إياه بـ”السرطان الذي يجب استئصاله”، إلى ما بعد رحيلها.

وحتى في أثناء وجودها في لبنان، التقت أورتاغوس بالرئيس ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، واستدعت عددًا من الوزراء بمن فيهم وزيرا المالية والاقتصاد إلى السفارة الأمريكية لمناقشة خططهم الإصلاحية.

إنّ رفع راية الإصلاح الحمراء دليل على أن نهج إدارة ترامب المتشدد وتركيزها المُفرط على نزع السلاح قد أتى بنتائج عكسية، كما أنه مؤشر على أن استمرار الاحتلال في استخدام القوة الغاشمة، رغم الخسائر الفادحة التي تتسبب بها وآثارها المدمرة، لا يكفي لإخضاع قوى المقاومة بالكامل.

وعبر إعادة تشديد قبضتها على مفاصل السلطة في الدولة والحكومة، لا تزال واشنطن تراهن على الحرب غير العسكرية، بما في ذلك العقوبات المالية والحصار الأمني على موانئ التوريد، لتعزيز القوة النارية وإخماد أي وجود للمقاومة المسلحة أو الدعم الاجتماعي لها.

وقد تُستخدم الأخبار التي تزعم أن حزب الله يستخدم ميناء بيروت لتهريب الأسلحة كذريعة لزيادة الرقابة الأمريكية، على الرغم من أن وزير الأشغال العامة، وهو ليس صديقًا لحزب الله، نفى ذلك نفيًا قاطعًا.

وعلى الصعيد المالي، فإن التعيين الأخير لكريم سعيد محافظاً للبنك المركزي يشكل خطوة أخرى في هذا الاتجاه.

ادعاءات واهية

وقد خلقت الخلافات بين عون وسلام حول تعيين سعيد انقسامًا واضحًا داخل معسكر مناهضي المقاومة، حيث دعمت القوى التقليدية المرتبطة بالأحزاب السياسية ورأس المال المصرفي الراسخ هذا الترشيح.

لكن اختيار سعيد لهذا المنصب، على الرغم من اعتراضات سلام، كشف عن استمرار نفوذ جماعات الضغط المصرفية، حيث تلاشت النشوة الأولية التي سادت المجتمع المدني الليبرالي في أعقاب انتخاب عون وتعيين سلام، وحلت مكانها الحرب الإعلامية

كما قوّض تعيين خبير مالي محافظ مرتبط بنفوذ مصرفي حاكمًا للبنك المركزي ادعاءات واشنطن الوهمية بالإصلاح الحقيقي.

إذ يكتسب موقف سعيد العدواني من المقاومة المسلحة أهمية أكبر بالنسبة لواشنطن، ففي سبتمبر/أيلول الماضي، دعا إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح في لبنان تمتد شمالًا حتى مدينة صيدا الساحلية، ودافع عن الحياد تجاه دولة الاحتلال.

قد لا يكون سعيد قادرًا على فرض رؤيته السياسية كبنك مركزي، لكن سلطته النقدية تمنحه صلاحيات واسعة لمراقبة وإدارة تدفقات رأس المال ووضع اللوائح المصرفية، وقد أعلن بالفعل عن نيته مكافحة غسيل الأموال والإرهاب، وهو تعبير غالبًا ما يتم التلويح به لفرض العقوبات الأمريكية على معارضي واشنطن، وفي هذه الحالة حزب الله.

قد يكون القرض الحسن، وهو مؤسسة مالية تابعة لحزب الله، من بين الأهداف سهلة المنال، فإذا قرر سعيد ملاحقة المؤسسة وحظرها، فسيتعين عليه مواجهة وزير المالية اللبناني، المتحالف مع أقوى حلفاء حزب الله، حركة أمل.

أما حزب الله وأمل فيراهنان على هذه التناقضات الداخلية، بما في ذلك التوترات بين عون وسلام، لتخفيف الضغط السياسي المباشر لنزع سلاحهما، لكنهما قد يركزان على الجوانب الإيجابية ويغفلان عن الجوانب السلبية.

إن استرضاء عون بعدم الاعتراض على التصويت لصالح سعيد دون تحقيق مكاسب واضحة سيعزز، بدلاً من أن يحبط، الخطط الأمريكية لتضييق الخناق المالي على المقاومة اللبنانية، ولم تكن حرب الولايات المتحدة على المقاومة يومًا شاملةً إلى هذا الحد، فكل جبهة لها أهميتها.

 للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة