بقلم عمر سليمان
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في خمسينيات القرن الماضي، شنت الولايات المتحدة حملةً شاملةً لاجتثاث من ادعت أنهم شيوعيون وإقصائهم من الحياة العامة، فدُمّرت مساراتٌ مهنية، وانقلبت حياةٌ رأسًا على عقب، وتغلغلت ثقافة الخوف في المشهد السياسي والأكاديمي في تلك الحقبة المكارثية التي تذكر اليوم كفصلٍ مظلمٍ ومخزٍ في التاريخ الأمريكي.
والآن نحن نعيش صدى تلك المرحلة، لكن تحت راية مغايرة هذه المرة، إنها حقبة الصهيونية المكارثية، حملة تطهيرٍ سياسيةٍ جديدةٍ تستهدف كل من يجرؤ على معارضة الفظائع التي ترتكبها دولة الاحتلال أو التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، ومثل الحملة الأولى، فإن هذه الحملة لن تتوقف عند أهدافها الأولية.
ففي الأشهر الأخيرة، شهدنا تصعيدًا مُقلقًا حيث يُحتجز النشطاء المؤيدون للفلسطينيين ويُراقَبون ويُرحَّلون وتشوَّه سمعتهم لمجرد ممارستهم حقوقهم الدستورية، فمحمود خليل، المقيم الدائم القانوني وخريج جامعة كولومبيا، اعتقلته سلطات الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE) من منزله، ونُقل إلى مركز احتجاز في لويزيانا.
ولاحقاً حكمت قاضية فيدرالية مختصة بالهجرة بإمكانية ترحيل محمود خليل، لا بسبب أي فعل إجرامي، بل لأن وزير الخارجية وصف “معتقداته وارتباطاته” بأنها تهديد لمصالح السياسة الخارجية الأمريكية، حتى أن القاضية أقرت بأنها تفتقر إلى سلطة الطعن في قرار الوزير، نعم لقد أصبح الموقف المعارض وحده كافياً الآن لتبرير الترحيل.
الموجة التالية
كما اعتقل عناصر مقنعون من سلطات الهجرة والجمارك الأمريكية رميسة أوزتورك، وهي طالبة دكتوراه تركية في جامعة تافتس، أثناء توجهها لتناول طعام الإفطار في رمضان، ثم نقلتها عبر حدود الولاية قبل أن تُسجن، وكانت جريمتها الواضحة كتابة مقال رأي يدين الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة.
وعلى كل حال فمحمود خليل ورميسة أوزتورك لم يكونا الوحيدين، إذ واجه كلٌ من يونسو تشونغ، ومومودو تال، والدكتورة رشا علوية، وبدر خان سوري، الاعتقال والطرد والتدقيق المُستهدف لأسبابٍ مُتشابهة.
وهذه ليست سوى الموجة الأولى بعد بضعة أشهر من جنون عهد ترامب الثاني، وها قد بدأت الموجة التالية تتشكل بالفعل، حيث كشفت بعض التقارير الصحفية أن إدارة ترامب تُجهّز لتجريد المواطنين المُجنّسين من وضعهم القانوني إذا اعتُبروا غير مُوالين أو “مُتحالفين مع خصوم أجانب”.
وفي حال تطبيق هذا القرار، فإن أول برنامج واسع النطاق لسحب الجنسية سيتم تطبيقه منذ عقود، حيث يُرسل المواطنون الأمريكيون إلى معسكر تعذيب يُشبه غوانتانامو في دولة أجنبية.
وإذا كان التاريخ قد علمنا شيئًا، فهو أن عمليات التطهير السياسي لا تبقى مُقيّدة، ففي خمسينيات القرن الماضي، بدأت عمليات التطهير مع الشيوعيين لكنها طالت بعد ذلك قادة الحقوق المدنية ونشطاء العمال والفنانين.
وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت ما يُسمى بالحرب على الإرهاب بالمسلمين، وسرعان ما انتشرت عبر أروقة قانون باتريوت المُظلم، واليوم، يُعدّ قمع التضامن مع فلسطين مجرد البداية.
فها هي الحملة تتوسع بالفعل لتشمل المهاجرين، إلغاء التأشيرات، ومداهمات دائرة الهجرة والجمارك، ورفض التأشيرات تحدث بمعدلات مثيرة للقلق، لكن من السذاجة الاعتقاد بأن الأمر سينتهي عند هذا الحد، فالمواطنون المجنسون هم التالون، وجنسيتهم التي يعاملها بعض أصحاب السلطة على أنها مشروطة تخضع الآن لإعادة نظر نشطة.
قمع شامل
وبالنسبة للمولودين في الولايات المتحدة، فالطريق مُمهّد بالفعل، فقوانين “الانتماء للإرهاب الأجنبي” الموسعة، وأساليب الإدانة بالارتباط، والضغط على أصحاب العمل والجامعات، تُمهّد الطريق لقمع أوسع.
وتُستخدم سجلات مواقع التواصل الاجتماعي كأدلة، حيث تُحظر الجماعات الطلابية ويُقترح تشريع جديد للتجريم الكامل لفئات من المعارضة.
فإلى من يُشجعون هذه الحملة لأنهم يُعارضون القضية الفلسطينية: احذروا، أنتم تُساهمون في تشكيل البنية التحتية التي ستقمعكم غدًا، هكذا ينتشر الاستبداد، إنه يبدأ بالأكثر ضعفًا ويختبر أدواته على الأقل حماية ويُرسّخ الخوف ثم ينقلب على الجميع
من تعرضوا للعقاب ليسوا مجرمين أو متطرفين، إنهم طلاب وأطباء وعاملون في المجال الإنساني وأساتذة، إنهم من يقفون ضد الإبادة الجماعية والفصل العنصري والتجويع الجماعي ولهذا السبب يُعاقَبون، ليس رغمًا عن مبادئهم بل بسببها.
وفي هذه الأثناء، تستمر آلية العنف الحقيقية دون رادع، ويستمر ذبح الأطفال في غزة بالأسلحة الأمريكية، ويُغتال الصحفيون وتُمحى عائلات بأكملها من السجل المدني، ومن يُدقّ ناقوس الخطر هم من يجري تكميم أفواههم، فالصهيونية المكارثية لا تتعلق بفلسطين فقط، بل بنوع الدولة التي تتحول إليها الولايات المتحدة.
الفصل الأخير
على الأمريكيين أن يختاروا ما إذا كانوا يريدون العيش في مجتمع تُجرّم فيه المعارضة أم لا، حيث يُعامل الاحتجاج السلمي كتهديد للأمن القومي لمجرد أن مجرم حرب أجنبي لا يروق له ذلك، وحيث تُملى حتى السياسة الداخلية لا بمصالح الشعب الأمريكي، بل بالولاء لنظام أجنبي.
ما نشهده ليس ذعرًا من قوى الفساد الحاكمة لأنها لم تعد قادرة على قمع قضيةٍ استطاعت أخيرًا اختراق عقودٍ من التشويه الإعلامي والرقابة السياسية، فحركة التحرير الفلسطينية آخذة في التمدد، ومعها يزداد يأس أولئك الذين استفادوا من تهجير الفلسطينيين.
لكن القمع ليس قوة، بل هو مثالٌ على الضعف وانعدام الأمن، إنه الفعل الأخير لنظامٍ يُدرك أنه يفقد السيطرة على روايته، وكما انهارت المكارثية تحت وطأة جنونها، ستنهار هذه الحملة أيضًا.
لكن السؤال هو: كم من الأرواح ستُزهق قبل أن تنهار هذه المكارثية؟ كم من أصوات الضمير ستُسكِت؟ إلى أي مدى ستمضي أمريكا في هذا الطريق المظلم قبل أن تتمكن من إنقاذ أي مظهر من مظاهر القيم التي تدّعي تقديسها؟
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)