لا تبدو المملكة العربية السعودية مبالية بانخفاض أسعار النفط ولا بعزوف المستثمرين الأجانب عن مشاريعها، بل إن رويترز نقلت عن مصادر مطلعة قولها أن المسؤولين السعوديين يثقون بقدرتها على التعايش مع انخفاض أسعار الطاقة.
ويعتقد الخبراء إن أحد أسباب صحة ذلك هو أن المملكة الخليجية تتمتع في الوقت الحالي بوضعٍ يحسدها عليه الكثيرون، إلى حد أنها قادرة إنفاق أموال أكثر بكثير مما تُحققه.
تحاول المملكة العربية السعودية تقليص اعتماد اقتصادها على عائدات الطاقة، وقد حفزت هذه الفكرة إطلاق مشاريع ضخمة مثل نيوم، ولكن في الوقت الحالي، لا يزال النفط يُمثل حوالي 61% من عائدات المملكة وفقًا لميزانيتها لعام 2025.
وتُعدّ السعودية ودول الخليج الأخرى من الدول القليلة في العالم التي ترتبط إيرادات حكوماتها ارتباطًا وثيقًا بأسعار الطاقة، ولذلك، عندما يكتب المحللون والخبراء عن مالية المملكة، فإنهم غالبًا ما يستخدمون مصطلح “نقطة التعادل النفطية”، وهو المستوى الذي تحتاج إليه المملكة لمعايرة ميزانيتها، بحيث لا تسجل عجزًا ولا فائضًا.
وذكرت شركة أوكسفورد أناليتيكا أن السعودية تحتاج إلى سعر نفط يتجاوز 100 دولار للبرميل لتحقيق التوازن في ميزانيتها خلال عام 2025، وذلك عند احتساب إنفاق صندوق الاستثمارات العامة (PIF) التابع للمملكة على المشاريع الضخمة.
لكن هذا الطرح، الذي يُكرر كثيرًا في التحليلات والمقالات الإخبارية، يحتاج إلى تحليل وتوضيح، كما يقول بعض الخبراء.
فقد ذكرت إيلين والد، مؤسسة شركة ترانسفيرسال للاستشارات في مجال الطاقة ومؤلفة كتاب “السعودية المحدودة” أن “المملكة العربية السعودية ليست بحاجة إلى تحقيق التوازن في ميزانيتها”.
وقالت والد لموقع ميدل إيست آي: “فكرة حاجة المملكة العربية السعودية إلى دولار محدد للبرميل لموازنة ميزانيتها لا تُفسر حقًا العقلية السعودية الجديدة فيما يتعلق بتسعير النفط”.
عجز الموازنة
وتتمتع المملكة العربية السعودية بإدارة جيدة لعجز الموازنة، حيث تتوقع عجزًا ماليًا قدره 27 مليار دولار في ميزانية 2025، أي ما يعادل 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
ووفقًا لتقرير نشره معهد دول الخليج العربية في أبريل/نيسان، فقد بلغ متوسط أسعار النفط 65 دولارًا للبرميل في عام 2025، ومن المرجح أن يبلغ العجز حوالي 56 مليار دولار، أي ما يعادل 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يرى المحللون أن هذا ربما يكون مقبولًا لدى الرياض أيضًا في الوقت الحالي.
وانخفضت أسعار النفط بشدة بسبب المخاوف من أن تُحدث رسوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زعزعة للاقتصاد العالمي، كما أن احتمالات التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران قد تحرر النفط الإيراني من العقوبات الأمريكية، وقد تؤثر سلبًا على الأسعار.
وانخفض سعر خام برنت، وهو المعيار الدولي، بنسبة 1.2% يوم الجمعة ليصل إلى 61.40 دولارًا للبرميل.
يمكن للعجز الكبير في الميزانية أن يشكل عبئًا على موازنة أي دولة، فعلى سبيل المثال، تعهد ترامب خلال حملته الانتخابية بخفض العجز الحالي في الميزانية الأمريكية من 6.5% إلى 3%، وفي الأشهر الماضية، أصدر بعض الخبراء تحذيرات شبه كارثية بشأن عجز الميزانية الأمريكية.
لكن الولايات المتحدة فريدة من نوعها في العالم لأن الدولار هو العملة الاحتياطية العالمية، وهو ما يقول المحللون إنه منح الرؤساء من كلا الحزبين السياسيين الأمريكيين صمام أمان للإسراف في الإنفاق.
أما المملكة العربية السعودية فهي ليست الولايات المتحدة، لكن الخبراء يقولون إنها قادرة على تحمل العجز أيضًا.
فقد رفعت وكالة ستاندرد آند بورز العالمية للتصنيف الائتماني هذا الشهر التصنيف الائتماني للمملكة إلى A+، مما يضعها على قدم المساواة مع الصين واليابان.
وتتمتع المملكة العربية السعودية أيضًا بميزانية قوية، إذ تمتلك احتياطيات أجنبية تزيد عن 430 مليار دولار، فيما تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 30% فقط، وهي نسبة أقل بكثير من مثيلتها في الأسواق الناشئة الأخرى.
طوفان الديون السعودية
ولسد احتياجاتها التمويلية قصيرة الأجل، أطلقت المملكة العربية السعودية طوفانًا من الديون حيث تخطت في عام 2024 الصين كأكثر مُصدر للديون الدولية نشاطًا في الأسواق الناشئة، ويتوقع المحللون استمرار هذا التوجه حتى عام 2025.
وقال الباحث الزائر في معهد دول الخليج العربية، تيم كالين أن المملكة أصدرت بالفعل أكثر من 14 مليار دولار من الديون بالدولار واليورو هذا العام، وقد تكون في طريقها لمضاعفة هذا الرقم قبل نهاية العام.
وكتب كالين الشهر الماضي: “نظرًا لأن المملكة العربية السعودية لا تزال تتمتع بمركز مالي قوي، فإن تمويل عجز أكبر لن يُمثل مشكلة، ورغم انخفاض أسعار النفط، فمن المرجح أن يطلب المُقرضون سعر فائدة أعلى لشراء الدين مما كان عليه الحال في وقت سابق من هذا العام”.
“يُفضّل السعوديون عدم الاستدانة التي تثقل كاهل الكثيرين غيرهم فعلاً، لكن المملكة العربية السعودية الجديدة قادرة على الاستدانة” – إيلين والد، مؤلفة كتاب “الشركات السعودية”
هل سيُنقذ المستثمرون الآسيويون المملكة العربية السعودية؟
وتحتاج المملكة العربية السعودية إلى إنفاق ضخم، وصندوق الاستثمارات العامة الذي يقود التحول الاقتصادي في المملكة هو محور هذه الاحتياجات، إذ وقد جمع الصندوق بالفعل حوالي 5 مليارات دولار من الديون هذا العام.
وعلى الرغم من ذلك، اضطرت المملكة بالفعل إلى تقليص مشروع نيوم، الذي وُصف في الأصل بأنه مشروع مدينة عملاقة بقيمة 1.5 تريليون دولار، والذي يزعم المنظمون أنه سيبلغ في نهاية المطاف 33 ضعف مساحة مدينة نيويورك، وسيشمل إقامة مدينة ذات خط مستقيم بطول 170 كيلومترًا.
وبدلاً من 1.5 مليون شخص كان من المفترض أن تستوعبهم المدينة بحلول عام 2030، يتوقع المسؤولون السعوديون الآن أن لا يتجاوز عدد سكانها 300 ألف نسمة وأن يتم الانتهاء من 2.4 كيلومتر فقط من المدينة بحلول عام 2030.
ويوم الاثنين، ذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز أن الرئيس التنفيذي لنيوم قد أطلق “مراجعة شاملة” للمشروع، مشيرًا إلى “محدودية الموارد”.
وقال أندرو فاراند، مدير الشرق الأوسط في هورايزون إنغيج، وهي شركة استشارية للمخاطر السياسية تُركز على الطاقة، إن تخفيضات الميزانية لمشاريع مثل نيوم تُمثل اعترافًا داخل المملكة بأنه على الرغم من قوة الطلب على ديونها، إلا أنه ليس بلا حدود.
وأضاف لموقع ميدل إيست آي: “المملكة العربية السعودية في وضع أفضل بكثير من الأسواق الناشئة الأخرى، لديها مجال طويل قبل أن تجف صنابير الديون”.
وتضررت مالية المملكة من تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية، حيث أثر عدم اليقين الاقتصادي الذي أطلقه على أسعار الطاقة لكنها تتطلع إلى الاستفادة من أسواق الدين العالمية، وقد تستفيد من صفقة ترامب الجديدة.
وقال تيموثي آش، كبير استراتيجيي الأسواق الناشئة السيادية في آر بي سي بلوباي، لموقع ميدل إيست آي: “لطالما نظر المشترون الآسيويون إلى الديون الأمريكية في شكل سندات الخزانة كمعيار ذهبي للاستثمارات الآمنة، لكنهم شعروا بالقلق من حرب ترامب التجارية ووضع الدولار الأمريكي كملاذ آمن”.
وأوضح آش لموقع ميدل إيست آي: “نشهد إقبالاً قوياً في آسيا على الاستثمار في دول الخليج، وستستفيد المملكة العربية السعودية من بيع المستثمرين الآسيويين للديون الأمريكية”.