جاري كان أحد الناجين من المحرقة… فأتساءل اليوم ما الذي كان سيفعله مع تجويع إسرائيل لغزة؟

جاري كان أحد الناجين من المحرقة… فأتساءل اليوم ما الذي كان سيفعله مع تجويع إسرائيل لغزة؟

بقلم لبنى مصاروة

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد عشت لمدة 3 سنوات بجوار أحد الناجين من غيتو وارسو، وذلك في منزل فلسطيني قديم جميل في القدس الغربية، وهو المنزل الذي استولى عليه الإسرائيليون في نكبة عام 1948، وتم تقسيمه إلى قسمين، وكنت أنا أعيش في القسم الأمامي من المنزل فيما كان يعيش هو في القسم الخلفي.

كان ينتظرني كل يوم في الحديقة المشتركة على جانبي المنزل، ليحكي لي قصصاً عن الحي اليهودي وعن مشاهد الدمار وكيف تمكن من تهريب الطعام إلى عائلته سراً.

في غزة اليوم، لا يستطيع المال شراء القمح وإن كان ممزوجاً بالرمل والحشرات والذي لم يعد بدوره متوفراً كذلك، فالعالم يشاهد بالفعل مليوني شخص يتضورون جوعاً!

أجلس اليوم في غرفته التي قضى فيها أيامه الأخيرة، وأكتب هذه السطور مع مشاهدتي للصور المروعة عن المجاعة في غزة!

كان على جاري السابق إخفاء هويته اليهودية، والتظاهر بأنه إيرلندي ليتمكن من توفير الطعام لعائلته، فأخبرني بأن “فكرة الجوع والوباء في الغيتو تطاردني ولم أتركها، بينما كنت أقضي أيامي محاطاً بالعشب الأخضر والسماء الزرقاء”.

2 مليون إنسان جائع!

بسبب تجربته، كان جاري حساساً جداً فيما يتعلق بمسألة الطعام، حتى أنه ذات مرة أخطأت عندما أحضرت لزوجته، التي كانت أيضاً ناجية من المحرقة، رغيف خبز خاص طلبته من القدس الشرقية المحتلة، غضب جاري وقال: “هل تعتقدين أننا لا نستطيع إطعام أنفسنا؟”.

كان لا يزال يعاني من جروح الجوع والمجاعة منذ أيام الحي اليهودي بعد عقود، وبذلك أصبحت أنا أيضاً حساسة بالتعامل معه فيما يتعلق بالطعام، وبطبيعة الحال، لم يكن الأمر جديداً بالنسبة لي، فباعتباري ابنة لاثنين من الناجين من النكبة، كنت أعلم أن الطعام يمثل مشكلة في عائلتي. 

رغم أن لدينا ما يكفي في المنزل من الطعام، إلا أن والدتي كانت تسأل نفس السؤال كل يوم: “هل بقي في القدر ما يكفي من الطعام؟”، في محاولة للتأكد من أن الجميع يأكلون، وكانت تأكل أيضاً بقايا الخبز الذي جف لتبقي الخبز الطازج لأطفالها.

ومع ذلك، فلا شيء مما حدث في الماضي يقارن بما يحدث اليوم في غزة، وعلى ذلك يشهد أبي الذي عاش العصرين، حيث يؤكد أنه رغم أن الفلسطينيين مروا بالحرب ونقص الغذاء في نكبة عام 1948، إلا أن الوضع لم يصل إلى هذا المستوى، فيقول: “كنا نحصل على الأقل على القمح ونصنع الخبز، ولا شيء يقارن بالوضع في غزة”.

في غزة اليوم، لا يستطيع المال شراء القمح وإن كان ممزوجاً بالرمل والحشرات والذي لم يعد بدوره متوفراً كذلك، فالعالم يشاهد بالفعل مليوني شخص يتضورون جوعاً!

أتساءل اليوم عما سيقوله أو يفعله جاري الناجي من المحرقة لو كان لا يزال على قيد الحياة؟!

منذ أكثر من شهرين، فرضت إسرائيل حصاراً شاملاً على غزة، فمنعت جميع الإمدادات الغذائية والإنسانية من الدخول إلى قطاع غزة، وفي 16 إبريل، أعلن وزير الدفاع يسرائيل كاتس بأن دخول المواد الغذائية والمساعدات إلى القطاع لن يُستأنف، معترفاً بأن إسرائيل تستخدم المجاعة كوسيلة للحرب.

لم تدفع مشاهد الأطفال والرضع وعظامهم تخترق جلدهم ويموتون من الجوع، أي سياسي إلى الإدلاء ببيان أو دعوة للسماح بوصول المساعدات إلى غزة، بل على العكس، فكلما زادت مقاومة الفلسطينيين من خلال إظهار تصميمهم على البقاء وعدم الرحيل عن أرضهم، كلما أصبحت دعوات الوزراء في الحكومة الإسرائيلية أكثر جنوناً وتطرفاً.

خطاب تحريضي

في أحدث بيان إسرائيلي تحريضي ضد غزة، التي تعاني من الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة، دعا وزير التراث الإسرائيلي، أميحاي إلياهو، إلى قصف مستودعات المواد الغذائية في غزة، فقال: “إنهم بحاجة إلى المجاعة، وإذا كان هناك مدنيون يخشون على حياتهم، فيجب عليهم اتباع خطة الهجرة”. 

من جانبه، دعا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى قصف متاجر المواد الغذائية في غزة، فيما عبرت وزيرة العدل السابقة، أييليت شاكيد، بالقول: “وقف المساعدات الإنسانية والحصار المفروض على غزة، هذا ما يحقق النصر”.

أما المجتمع الدولي، فصامت وكأنه لا يوجد شيء خارج عن المألوف، ففي حديث له مع ميدل إيست آي، عبر عبد الله كورة من غزة والبالغ من العمر 40 عاماً بالقول: “أطفالي يطلبون مني أن أحضر لهم لحماً أو بيضاً، ويجب أن أقول لهم لا يوجد ولا أستطيع، فما هي الجريمة التي ارتكبها أطفالي؟ لماذا يستحقون الموت جوعاً؟ الجوع الذي يُفرض علينا الآن مؤلم”.

وكان قد أخبرني الصحفي في ميدل إيست آي، أحمد درملي، لم يتمكن من العثور على ليمونة لتخفيف الألم الذي كان يعاني منه في حلقه، فيقول: “نحن نمرض دائماً فنحن نشرب المياه المالحة ونمشي مثل الأشباح، الأمر ليس سهلاً خاصة مع الأطفال، فهم يسألونني عن طعم التفاحة أو الطماطم أو البطيخ”.

لن أنسى مشهد صبي صغير من غزة يمسك بعلبة من الفاصوليا، فهو لن يتخلى عنها، لأنه يعلم أنه مهما حدث، فتلك هي بوليصة التأمين الخاصة به.

تجاوز الخط الأحمر

ما الذي بقي اليوم من الدولة التي بنيت على ذكرى المحرقة، على صور الأطفال الجياع في الغيتوات التي كان على جميع مواطني إسرائيل أن يتعلموا عنها منذ أن كنا أطفالاً؟!

يصطف السياسيون الإسرائيليون للتحريض على استمرار المجاعة والموت، فهناك مستوطنون قاموا بإتلاف أكياس القمح في شاحنات كانت تنتظر شهرين على الحدود، وهناك جنود يطلقون النار على مجموعة من الفلسطينيين كانوا يحاولون الاستيلاء على كيس من القمح صورة الدم الممزوج بالقمح الأبيض موجودة على جهاز الهاتف خاصتي.

الحقيقة أن الرأي العام في إسرائيل غافل عن مصير الناس الذين يعيشون إلى جوارهم، حيث تمتلئ المطاعم في تل أبيب وذلك على مسافة ساعة واحدة فقط بالسيارة من غزة.

هناك مقولة شهيرة منسوبة إلى فيلسوف القرن 18، البريطاني الإيرلندي إدموند بيرك، والتي أصبحت راسخة في الوعي الإسرائيلي حول المحرقة، رغم من أنه من غير المرجح أن يكون بيرك قد استخدم الكلمات الفعلية المنسوبة إليه.

هذه الجملة يعرفها كل إسرائيلي، ومثلها مثل عبارة “لن يحدث ذلك مرة أخرى”، فهي تتكرر بلا توقف، ويقول المثل: “كل ما يتطلبه الأمر لكي ينتصر الشر هو أن لا يفعل الطيبون شيئاً”.

طوال مسيرتي المهنية كصحفية، تجنبت بشدة إجراء مقارنة بين المحرقة والنكبة، فأنا أرى أنه من المستحيل تجنب مشاهد الأطفال الذين تظهر عظامهم تحت جلودهم، ولم أكن أتخيل قط أن اليهود الذين عانى أسلافهم من آلام المحرقة يمكن أن يتجاوزوا هذا الخط وهو الخط الذي يصور جوهر إنسانيتهم.  

أتساءل اليوم عما سيقوله أو يفعله جاري الناجي من المحرقة لو كان لا يزال على قيد الحياة؟!

مقالات ذات صلة