بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في الحلقة الأخيرة من برنامج الألعاب التلفزيوني “البيت الأبيض على أوبر: كيف تشتري رئيسًا أمريكيًا مسبقًا”، بدا للحظة وكأن المُقدّم يقرأ نصاً جاداً.
ففي المملكة العربية السعودية، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن التدخل الليبرالي كارثة وهذا صحيح، وقال إنه لا يمكن تدمير الدول وإعادة بنائها والشواهد على ذلك كثيرة ومنها روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي وأفغانستان والعراق وليبيا واليمن.
لقد أوقف ترامب قصف اليمن، ورفع عقوبات استمرت لعقود على سوريا، ليمنع بهاتين الخطوتين طريقين رئيسيين لهيمنة الاحتلال الإقليمية عبر تقسيم سوريا وبدء حرب مع إيران.
وأنا اعتبر أن ذلك تم “بشكل عابر” لأن ما يعد به الرئيس الأميركي وما يقدمه أمران مختلفان تماما، مثلما حدث مع إيران مرات عديدة من قبل في المفاوضات بشأن برنامجها النووي.
في الواقع، لم يكن مسؤولو وزارة الخزانة الأمريكية أقلّ من فاجأهم إعلان ترامب وقف العقوبات على سوريا، فقد تبين أن إلغاء العقوبات متعددة الطبقات التي فرضت على سوريا منذ أن أدرجتها الولايات المتحدة لأول مرة على قائمتها للدول الراعية للإرهاب في عام 1979 لم يكن بالأمر السهل، ولن يكون سريعاً أو شاملاً.
فهناك قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا الذي يلزم أن يلغيه الكونغرس الآن كي يتم تطبيق رفع العقوبات، ورغم أن ترامب قد يُعلق أجزاءً منه لأسباب تتعلق بالأمن القومي إلا أن العقوبات نفسها قد تستمر أشهراً حتى يتم رفعها تماماً وذلك لأنها مزيج من الأوامر التنفيذية والقوانين، بل إن هناك مجال لمزيد من عمليات الكبح المفاجئ في مسار رفع العقوبات.
لقد كلّفت هذه الحلقة تحديدًا مبالغ طائلة من رعاة البرنامج وهم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، فقد دفعوا مجتمعين أكثر من 3 تريليونات دولار وهو مبلغ مرتفع حتى بمعايير الخليج، وما زالت المدفوعات في ازدياد.
مهمة مميتة
من بين المدفوعات 600 مليار دولار قدمتها المملكة العربية السعودية، وصفقات بقيمة 1.2 تريليون دولار مع قطر، وطائرة 747 شخصية لاستخدام الرئيس، وبرج لإريك ابن ترامب في دبي، والمزيد في المستقبل، بما في ذلك صفقات العملات المشفرة مع شركة عائلة ترامب، “وورلد ليبرتي فاينانشال”.
لقد كان أثرياء العرب يتنافسون فيما بينهم لتقديم الجزية عند قدمي إمبراطور واشنطن الأخير في استعراض باذخ للثروة في الرياض والدوحة، فيما كانت دولة الاحتلال تُحيي ذكرى نكبة عام 1948 بقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في غزة.
فقد كان يوم الأربعاء من أكثر الأيام دموية في غزة منذ نسف الاحتلال لوقف إطلاق النار من جانب واحد، فقد استشهد ما يقرب من 100 فلسطيني، وألقيت قنابل خارقة للتحصينات بالقرب من المستشفى الأوروبي في خان يونس، في غارة استهدفت محمد السنوار، القائد الفعلي لحركة حماس في غزة دون أن يُؤكد استشهاده بعد.
ومثل اغتيال رئيس حماس الراحل إسماعيل هنية في طهران، استهدفت قوات الاحتلال مفاوضًا رئيسيًا في وقت كانت تدّعي فيه التفاوض.
وقد أبلغتني مصادري أنه قبيل استئناف قوات الاحتلال هجماتها في 18 مارس/آذار، وافقت القيادة السياسية لحماس في الخارج على صفقة مع الأمريكيين كانت ستؤدي إلى إطلاق سراح المزيد من الرهائن مقابل تمديد وقف إطلاق النار، ولكن دون ضمانات بإنهاء الحرب غير أن السنوار رفضها، وبالتالي لم تُمضِ قدمًا.
فإذا كان السنوار قد لقي حتفه بالفعل، فسيستغرق الأمر وقتًا لإعادة بناء اتصالات آمنة داخل حماس مع أحد الرجال الكثر الذين قد يحلون محله.
إن محاولة قتله أو حتى قتله دليل، إن لزم الأمر، على أن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو لا ينوي إعادة الرهائن المتبقين إلى ديارهم أحياء، فصفقة الرهائن تتطلب احتفاظ قوات حماس بالقيادة والسيطرة، أما حرب العصابات فلا تحتاج إلى أيٍّ منهما.
لقد أصبحت مهمة نتنياهو في غزة، المتمثلة في تجويع وقصف أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة واضحة جليّةً، لدرجة أن ما يسمى خطاً بالمجتمع الدولي لم يعد يستطيع تجاهلها الآن.
فقد صرح توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، لمجلس الأمن: “ما الذي تحتاجونه بعد الآن من أدلة؟ هل ستتحركون بحزم لمنع الإبادة الجماعية وضمان احترام القانون الإنساني الدولي؟”.
ووصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سياسة الاحتلال في غزة بأنها “مخزية”، كما وصف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز دولة الاحتلال أثناء حديثه في البرلمان بأنها “دولة إبادة جماعية”، مشيرًا إلى أن مدريد “لا تتعامل تجاريًا” مع دولة كهذه.
خيانة عظمى
أما محمد بن سلمان، ولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، وكذلك رئيس الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، فلم يوجه أي منهم إلى ترامب كلمة إدانة علنية واحدة لسلوك الاحتلال في غزة.
لقد كانت هذه المسرحية الهزلية في الخليج خيانة عظمى للفلسطينيين، ولكن كما يعلمون جيدًا، فإن للحكام العرب سجلًا حافلًا بالتخلي عنهم.
ففي الماضي، انتظر الفلسطينيون بضعة أشهر أو سنوات بعد الهزيمة العسكرية ليدركوا ذلك، حيث استغرق الأمر بعض الوقت بعد حرب 1967 حتى يتحدث القادة العرب عن حل سلمي للضفة الغربية وغزة المحتلتين، أما اليوم، فها هم يتخلون عن أبطال العالم العربي الحقيقيين الذين يُجوّعون ويُقصفون حتى الموت.
لقد ضعفت حماس وحزب الله بشدة، مع أنني أتساءل إن كانت الضربات التي تلقّاها الطرفان قاتلة، لكن حماس لا تزال تقاتل على الأرض، كما يتضح من حصيلة القتلى العسكريين من جيش الاحتلال في غزة، والتي لم تُعلن عنها بشكل كافٍ، لم يُسلم أي حارس رهينته لإنقاذ حياته.
نعم، لم تُهزم روح المقاومة في غزة، بل إن أوجه التشابه مع هزيمة تاريخية أخرى لقوى الاستعمار، الفرنسيين والأمريكيين، قد ازدادت قوة.
وبمعنى ما، لا مجال للمقارنة بين غزة وحرب فيتنام، فالقوة التي تستخدمها دولة الاحتلال اليوم في غزة تُقزم تلك التي استخدمها جون كينيدي، وليندون جونسون، وريتشارد نيكسون، الرؤساء الأمريكيون الثلاثة الذين حُكم على فترات حكمهم بالفناء.
ففي غضون ثماني سنوات، أسقطت الولايات المتحدة أكثر من خمسة ملايين طن من القنابل على فيتنام، مما جعلها أكثر الأماكن تعرضًا للقصف على وجه الأرض، وبحلول يناير/كانون ثاني من هذا العام، كانت دولة الاحتلال قد أسقطت ما لا يقل عن 100 ألف طن من القنابل على غزة.
بمعنى آخر، ألقت الولايات المتحدة حوالي 15 طنًا من المتفجرات لكل كيلومتر مربع من فيتنام، بينما ألقت دولة الاحتلال 275 طنًا لكل كيلومتر مربع من غزة وهو رقم أعلى بـ 18 ضعفًا مما كان عليه في فيتنام.
ومع ذلك، تبرز نقاط مقارنة أخرى بين حرب لا تزال تُخلّف ندوبًا في الولايات المتحدة حتى اليوم والحرب الحالية في غزة، والتي يُخطط نتنياهو لتعميقها بمحاولته إعادة احتلال القطاع بشكل دائم.
تجربة مُكررة مُذهلة
لا يُمكن للجيل الحالي من مُتابعي الحرب إلا أن يُعايشوا تجربة مُكررة مُذهلة عندما يشاهدون الرواية الكاملة المُتأنية للصراع في المسلسل القصير الجديد “نقطة تحول: حرب فيتنام”.
إن عبثية الحملة العسكرية الأمريكية المُعترف بها منذ ذلك الحين ضد الفيت كونغ تنعكس وتُضخّم في محاولات جيش الاحتلال لمحو حماس من على الخريطة
فمع اتساع انخراط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، واضطرار واشنطن إلى التخلي عن ادعائها بأن أكثر من 16 ألف جندي وطيارين كانوا “يقدمون المشورة” للجيش الفيتنامي الجنوبي، أصبح من الواضح لكل من واشنطن وسايغون أنهما سيضطران إلى طرد الفيتكونغ من الريف واستعادة سيطرة الحكومة على حوالي 12 ألف قرية.
ولعلّ ما أثار حفيظة القرويين في جنوب فيتنام ضد الولايات المتحدة وحكومتهم في سايغون كان أسرع من “برنامج القرى الاستراتيجية”، لقد كانت هذه مستوطنات محصنة حيث سيُجبر القرويون الذين طردتهم القوات الأمريكية من أراضي أجدادهم على إعادة التوطن، وبمصطلحات نشرات الأخبار آنذاك، يمكن للقرويين بدء حياة جديدة بعد تطهيرهم من الشيوعيين.
وكما قال توماس باس، مؤلف كتاب “فيتنام أمريكا: الحرب تعود إلى الوطن”، فإن “هناك مناطق بأكملها ستُعلن مناطق مفتوحة للهجوم”، لقد كان هذا افتراض آخر لبرنامج “التهدئة” الأمريكي، وهو أساس مكافحة التمرد اليوم.
وقد نشأ هذا الافتراض من المشاكل التي واجهها الجنود الأمريكيون في التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وكان الحل يكمن في معاملة أي فيتنامي يُصادفونه في “منطقة إطلاق نار حرة” مُعلنة كعدو، وإطلاق النار عليه دون الرجوع إلى التسلسل القيادي.
وقال جندي مشاة بحرية أمريكي سابق: “لقد تعلمنا أن جميع الفيتناميين أحرار في المغادرة، وأن جميع الفيتناميين الذين بقوا كانوا جزءًا من البنية التحتية للفيت كونغ، ما عليك سوى مطاردة الناس وقتلهم، ويمكنك قتلهم كما تشاء”.
وكان من المتوقع أن يعود القادة بعدد كبير من القتلى، وعومل جميع القتلى، بمن فيهم النساء والأطفال، كقتلى شيوعيين: “قيل لي إنه إذا قتلنا 10 فيتناميين مقابل كل أمريكي، فسننتصر”، كما قال جندي سابق في فيتنام.
لقد عانى القرويون من الجوع في معسكراتهم الخالية من الفيت كونغ لانعدام إمكانية الوصول إلى حقول الأرز، إلا أن الهدف الرئيسي لم يكن إطعامهم، بل تطهير الريف، وكانت النتيجة فرار القرويين، واقتراب الفيت كونغ من المدن أكثر فأكثر.
وفي مرحلة ما، بلغت نسبة النساء بين القرويين الذين تطوعوا للانضمام إلى الفيت كونغ 70%، حيث قالت تران ثي ين نغوك من جبهة التحرير الوطني: “كانوا يطلقون علينا اسم الفيت كونغ، لكننا كنا جيش التحرير، كنا جميعًا رفاقًا ونعتبر أنفسنا عائلة واحدة، وعندما يسقط شخص، يتقدم خمسة إلى سبعة آخرون”.
“فوضى عارمة”
هناك وجهان آخران للتشابه بين اليوم وعام 1968 يكمنان في الاحتجاجات ومستويات القمع الوحشية في الجامعات الأمريكية، ومدى شعور الجيشين الأمريكي والصهيوني بضرورة نزع الصفة الإنسانية عن عدوهما قبل ارتكاب الفظائع.
فبعد مذبحة ماي لاي عام 1968، التي قُتل فيها نحو 500 مدني أعزل وبريء في غضون ساعات قليلة، قال القائد الأمريكي الجنرال ويليام ويستمورلاند إن الحياة رخيصة بالنسبة للفيتناميين: “الشرقيون لا يدفعون ثمنًا باهظًا للحياة كما يفعل الغربيون”، في حين يذهب قادة الاحتلال إلى أبعد مما ذهب إليه ويستمورلاند بكثير، إنهم لا يصفون الفلسطينيين بالبشر.
في الواقع، يبدو كل هذا التاريخ الذي يعود إلى عقود مضت وثيق الصلة بشكل غريب بواقع غزة والضفة الغربية المحتلة اليوم.
ففي مقابلة أجريت معه في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد أسابيع فقط من بدء الحرب، قال جيورا إيلاند، وهو لواء احتياط متقاعد، أن على دولة الاحتلال ألا تسمح بدخول المساعدات إلى القطاع: “إن انهيارنا أمام المساعدات الإنسانية لغزة خطأ فادح، يجب تدمير غزة بالكامل، فوضى عارمة، وأزمة إنسانية خانقة، وصرخات استغاثة”.
ثم استنتج لاحقًا: “ستجوع غزة بأكملها، وعندما تجوع غزة، سيغضب مئات الآلاف من الفلسطينيين، والجياع هم من سيُدبّرون انقلابًا ضد يحيى السنوار، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يُقلقه”.
لم يحدث شيء من هذا القبيل، لكن منطق آيلاند عُرف باسم “خطة الجنرالات”، التي طُبّقت في البداية على شمال غزة، حيث بقي 400 ألف فلسطيني.
فشلت خطة إخلاء شمال غزة، حيث تدفّق مئات الآلاف عائدين إلى منازلهم خلال وقف إطلاق النار الأخير، رغم أنه لم يبقَ منها شيء.
تذكرة ذهاب فقط
لكن أسلوب التجويع والتطهير عاد للحياة من جديد في عملية الاحتلال العسكرية الحالية، المسماة “عربات جدعون”. فيما وصفه نتنياهو مرارًا وتكرارًا بـ “المرحلة الأخيرة” من الحرب، حيث تهدف الخطة إلى إجبار أكثر من مليوني فلسطيني على الانتقال إلى “منطقة معزولة” جديدة حول رفح.
ولن يُسمح للفلسطينيين بالدخول لهذه المنطقة إلا بعد تفتيشهم من قبل قوات الاحتلال، إنها تذكرة ذهاب فقط: لن يتمكنوا أبدًا من العودة إلى منازلهم، التي ستُهدم بالكامل.
وقال موقع Ynet أن جيش الاحتلال بالتعاون مع جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، سيقيم “نقاط تفتيش على الطرق الرئيسية المؤدية إلى المناطق التي سيُؤوى فيها المدنيون الغزيون في منطقة رفح”.
وصرح نتنياهو يوم الثلاثاء أنه قد يقبل بوقف إطلاق نار مؤقت في غزة، لكنه لن يلتزم بإنهاء الحرب على القطاع الفلسطيني.
ما فعلته فيتنام بجونسون ونيكسون، ستفعله غزة بنتنياهو وخليفته في رئاسة الوزراء، وربما نفتالي بينيت، فمرض نتنياهو بالسرطان وصل إلى مراحل أكثر تقدماً مما يُصرّح به علنًا، وفقًا لمصادر بريطانية تزوره بانتظام.
لقد انتهت حرب فيتنام بعاملين، ومعها أكثر من قرن من النضال لتخليص البلاد من سيد استعماري وهما إصرار الفيتناميين والرأي العام الأمريكي.
وسيقود العاملان نفسهما الشعب الفلسطيني إلى دولته، فإصرار الفلسطينيين على البقاء والموت على أرضهم، والرأي العام في الغرب، الذي يتحول بسرعة ضد الاحتلال سيقلبان المشهد، راقبوا هذا الوضع بعناية، إنه يتسرب إلى اليمين ويرسخ بقوة في اليسار.
ولن يُجدي وصف الانتقادات المشروعة للإبادة الجماعية بأنها معادية للسامية نفعًا بعد الآن، لقد أُطلقت هذه الرصاصة بالفعل
فهذه الحرب تخاض في فلسطين وفي قلوب وعقول الغرب التي نشأ منها المشروع الصهيوني، والتي يعتمد عليها بقوة، قد تفوز دولة الاحتلال في كل معركة، كما فعل الأميركيون في فيتنام، ولكنها في النهاية سوف تخسر الحرب.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)