إبراهيم العقاد… خطّ على جدران غزة ودم على ترابها

بقلم غادة عقيل

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

رحل الحبر الذي كان يخطه إبراهيم العقاد، لكن خطوطه الأنيقة مازالت تزين الشوارع ولافتات المحال التجارية في خان يونس ومخيمها للاجئين، فقبل أربعة أشهر فقط، خطّت يده اسم صيدلية زوج أختي: صيدلية العقاد، وسط الدمار.

في وقت سابق من هذا الشهر، استشهد إبراهيم البالغ من العمر 54 عامًا وهو أب لستة أبناء، ارتحل مع زوجته وأطفاله وعائلته الممتدة التي قضى منها 26 نفراً عندما سوّت غارة جوية شنتها مقاتلات الاحتلال الحربية منزلهم المكون من أربعة طوابق بالأرض دون سابق إنذار، لتقضي على ثلاثة أجيال من عائلة العقاد في هجوم واحد.

قصة إبراهيم واحدة من آلاف القصص في غزة، بما في ذلك قصتي، حيث تُباد عائلات بأكملها بشكل ممنهج، وتُقتل بدقة في منازلها وخيامها وعلى الطرقات وفي المستشفيات والمدارس المدمرة التي استُخدمت كملاجئ.

ومن أبناء عائلة العقاد مزارعون ومعلمون وخطاطون وطلاب وأطفال وأجداد كانوا يعتنون بأشجار الزيتون في أرضٍ ورثوها جيلاً عن جيل، وكل ذلك أصبح الآن مجرد ذكريات مدفونة تحت أنقاض خان يونس، المدينة التي تحولت مثل قطاع غزة بأكمله إلى مقبرة للعائلات.

قتل ممنهج

في غزة، يلاحق الموت الناس أينما ذهبوا، لا مكان آمن هناك ولا مهنة توفر الحماية حتى لمن يُفترض أنهم محميون بالقانون الإنساني الدولي.

في كل صباح، تحتضن أختي وزوجها وكلاهما صيدليان يعملان في خان يونس أطفالهما متأهبين لاحتمال أن يكون هذا وداعهم الأخير، ويذهب العاملون في المجال الصحي من أطباء وصيادلة وممرضون ومسعفون إلى عملهم كل يوم وهم يعلمون أنهم قد لا يعودون

ففي 3 أبريل/نيسان، قرر والد إبراهيم، الحاج محمد العقاد، البالغ من العمر 80 عامًا، مع أبنائه وعائلاتهم إخلاء منزلهم في حي المنارة بخان يونس والتوجه إلى المواصي للإقامة في ما يُسمى بالمنطقة الآمنة التي أصبحت فخًا للموت.

وعندما لم يجدوا مكانًا لنصب خيمة، أرسلوا بعض المتعلقات إلى أقاربهم في شرق خان يونس حيث تسكن أختي استعدادًا للانتقال إلى مكان قريب، وفي ذلك الصباح، رأت أختي أطفال العقاد يحملون ممتلكاتهم، دون أن تعلم أنها ستكون آخر مرة تراهم فيها أحياء.

في اليوم التالي، في 4 أبريل/نيسان، أصابت غارة منزلهم المكون من أربعة طوابق، مما أسفر عن استشهاد 25 فردًا من أفراد الأسرة.

كان من بين الشهداء إبراهيم وزوجته سماح (45 عامًا) وأبناؤهم الستة عبد الحميد (18 عامًا)، وعبد الله (16 عامًا)، وعائشة (23 عامًا)، وشيماء (20 عامًا)، وهدى (15 عامًا)، وشمس (13 عامًا).

كما استشهد شقيقه معاذ (51 عامًا)، وزوجته هبة (41 عامًا)، وأطفالهما التسعة: محمد (21 عامًا)، وأسماء (20 عامًا)، والتوأم بنان وبسمة (19 عامًا)، وسعد (18 عامًا)، ومريم (16 عامًا)، وفاطمة (15 عامًا)، وعبد الرحمن (13 عامًا)، وتسنيم (11 عامًا).

فقد أحمد، شقيق إبراهيم الثالث، زوجته رشا (40 عامًا) وأطفالهما الثلاثة: مؤيد (7 أعوام)، ودارين (11 عامًا)، ووتين (5 أعوام)، ولم ينجُ من الهجوم سوى ابنتين صغيرتين، إحداهما فقدت ساقيها، والأخرى أصيبت بجروح خطيرة، وكلاهما تقيمان الآن في مستشفى غزة الأوروبي، أحد آخر المرافق الطبية التي لا تزال تعمل بعد تدمير الاحتلال 34 مستشفى وعيادة.

أصيب والد إبراهيم ويدعى الحاج محمد، وهو مزارع، بجروح خطيرة، كما استشهدت زوجته عائشة (75 عامًا)، وتلقى أحد أبنائه الناجين، الذي يدرس في المملكة العربية السعودية، الخبر وحيدًا محطمًا من هول المسافة والخسارة التي لا تُصدق.

ولا تعد مجزرة عائلة العقاد استثناءً مما يجري في غزة، بل هي جزء من نمط بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فقد كشف مقطع فيديو مروع نُشر مؤخرًا عن الحقيقة المروعة وإنكار هذه الإبادة الجماعية بعدما وثق المقطع اللحظات الأخيرة لخمسة عشر مسعفًا من غزة استشهدوا أثناء محاولتهم إنقاذ الأرواح.

قُتل المسعفون بزيهم الطبي المميز وسيارات الإسعاف المضاءة أثناء استجابتهم لنداءات الطوارئ، حيث يُعد إعدامهم، كما هو الحال مع أكثر من ألف عامل صحي آخر، جريمة حرب أخرى تنكرها مؤسسة الاحتلال.

يؤكد هذا الفيديو ما عرفه شعب غزة منذ زمن طويل: أن تكون فلسطينيًا يعني أن تُستَهدَف من قِبل النظام الصهيوني، أجل حياة الفلسطينيين هي الهدف.

هذه ليست مجرد حرب أو إبادة جماعية، بل هي تفكيك متعمد لجوهر الحياة الفلسطينية، الأسرة، والرعاية، والذاكرة، والأطفال والمستقبل، وبصفتي لاجئًة فلسطينيًة من الجيل الثالث، وُلدتُ ونشأتُ في مخيمات غزة، أستطيع أن أشهد على هذا الواقع.

فحتى مع احتفال العالم باليوم العالمي للطفل في 20 نوفمبر/تشرين ثاني، كانت غزة تدفن أطفالها، وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلنت اليونيسف، وكالة الأمم المتحدة للطفولة، أن “قطاع غزة هو أخطر مكان في العالم على الأطفال”.

وقد ازداد هذا الواقع المرير سوءًا، فمنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، استشهد أكثر من 15,000 طفل فلسطيني، وجُرح أكثر من 34,000، وشُرد ما يقرب من مليون شخص وحُرموا من الخدمات الأساسية بمن فيهم 825 طفلًا دون سن العام الواحد، وقد وُلد وقُتل ما لا يقل عن 274 طفلًا خلال هذه الحرب، بينما تيتم أكثر من 39,000 طفل.

ومنذ 18 مارس/آذار، وهو اليوم الذي شهد مجزرة راح ضحيتها 183 طفلاً في غزة، استشهد ما لا يقل عن 600 طفل وجُرح 1600 آخرون.

أرواحٌ يمكن التضحية بها

يتساءل الفلسطينيون عما إذا كانت كل هذه الأرقام لا تُجبر العالم على التحرك، فما الذي سيحركه؟ نعم فهناك آلاف الأطفال الذين قُتلوا، ومواليد جدد دُفنوا قبل أن يعيشوا، وعشرات الآلاف الذين تيتموا.

وبالنسبة لعائلة العقاد، التي تنقب بين الأنقاض بحثاً عن جثث أطفالها، لطالما كان الجواب واضحاً: لا يرى العالم أن الأطفال الفلسطينيين يستحقون الإنقاذ.

لقد اختفت غزة من عناوين الأخبار، وغطت عليها النقاشات حول المساعدات العسكرية وميزانيات الدفاع، لكن إبراهيم وعائلته مثل آلاف آخرين ممن تم محوهم في هذه الإبادة الجماعية يُمثلون إدانةً لاذعةً لكل دولار يُضخ في ما يُسمى بصناعة الدفاع.

وبدلاً من ذلك، ينبغي تحويل هذه الأموال إلى المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وحلفائه كمجرمي حرب في لاهاي.

في ديسمبر/كانون الأول 2023، دمرت غارات الاحتلال الجوية منزل أختي وصيدليتها، وفي مواجهة تلك الخسارة، قامت هي وجيرانها ببناء كشك لتلبية الاحتياجات الطبية الأساسية، وقد تطوّع إبراهيم لرسم لافتة هذا الكشك التي ماتزال قائمة، أما هو فلا.

ومع ذلك، ها هي غزة تقاوم من وسط الأنقاض، ولا يزال خط إبراهيم يزين الشوارع، وها هي أشجار الزيتون مازالت صامدة في أرض أجداد عائلة العقاد وعلى الأرجح أن الجيران اعتنوا بها بعد استشهاد العائلة.

ولا تزال أختي تذهب إلى العيادة سيرًا على الأقدام كل يوم لإنقاذ الأرواح، نعم يواصل زوجها، خدمة أبناء شعبه فوق أنقاض صيدليتهم.

وبصوت كل مسعف يركض نحو الخطر، وكل أب وأم يجرؤان على الأمل، وكل طفل يحلم، مازالت غزة تقول للعالم: ما زلنا هنا، نتذكر كل شيء، لن ننسى أبدًا.

 للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)  

مقالات ذات صلة