غزة… فيتنام إسرائيل: حرب لا تُنتصر ومعركة تفكك الداخل

بقلم محمد رقيب أوغلو

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد تجاوزت حرب الإبادة الجماعية في غزة الآن 19 شهراً، إلا أن الحملة العسكرية الإسرائيلية فشلت في تحقيق هدفها الاستراتيجي وهو القضاء على المقاومة الفلسطينية خاصة حماس. 

منذ البداية، دعمت القوى الغربية الهجوم الإسرائيلي دون شروط باعتبار ما قامت به إسرائيل من الحرب عملاً مشروعاً “للدفاع عن النفس”، حتى امتد هذا الدعم إلى ما هو أبعد من المساعدات العسكرية ليشمل الحماية الدبلوماسية والمساعدة الاقتصادية والغطاء المؤسسي على المنصات الدولية. 

خلال عامين تقريباً، تحولت حرب غزة إلى حرب فيتنام إسرائيلية، وهي حرب لا يمكن الفوز فيها كما أن فيها الكثير من التجاوزات العسكرية وسوء التقدير الاستراتيجي والتكاليف السياسية المتزايدة

رغم كل هذا الدعم والحصار الشامل المفروض على غزة براً وبحراً وجواً، إلا أن إسرائيل لم تتمكن من كسر العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية.

رغم الدمار شبه الكامل في غزة، إلا أن حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية لا تزال تمارس عملياتها وتطلق الصواريخ وتنفذ عمليات تكتيكية معقدة، مثل الكمين الذي نصب في إبريل الماضي قرب بيت حانون، فبعد الخروج من نفق لإطلاق قذائف آر بي جي على مركبات عسكرية إسرائيلية وإصابة 3 جنود، فجر نشطاء حماس قنبلة عندما وصلت قوات الإنقاذ، مما أسفر عن مقتل ضابط صف. 

لقد كشفت العملية التي نفذتها حماس عن نقاط الضعف في عمليات الانتشار الإسرائيلية في المنطقة العازلة كما قوضت رواية السيطرة الكاملة، بعد أن أكدت إسرائيل مراراً بأنه قد تم تحييد مناطق مثل بيت حانون.

لقد حمل الكمين الأخير رسالة استراتيجية، حيث أظهر أن حماس، حتى في ظل القصف والاحتلال المتواصلين، تظل قادرة على جمع المعلومات الاستخبارية والاستهداف الدقيق، وبالتالي تتفوق في المناورة على واحد من أكثر الجيوش تقدماً تكنولوجياً في العالم. 

وفي هذا المكان، تصبح المقارنة مع فيتنام أكثر وضوحاً، فكما تعلمت الولايات المتحدة ذات يوم بأن القوة العسكرية المتفوقة والدعم الخارجي لا يضمنان النصر على قوة مقاومة راسخة وملتزمة إيديولوجياً. 

خلال عامين تقريباً، تحولت حرب غزة إلى حرب فيتنام إسرائيلية، وهي حرب لا يمكن الفوز فيها كما أن فيها الكثير من التجاوزات العسكرية وسوء التقدير الاستراتيجي والتكاليف السياسية المتزايدة.

تحويل الانتقادات

لا يقتصر فشل إسرائيل في غزة على ساحة المعركة، بل يمتد إلى عمق نظامها السياسي وأجهزتها الاستخباراتية، حيث تواجه حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اضطرابات داخلية متزايدة، منها استقالة كبار المسؤولين وتبادل اللوم داخلياً.

من أجل تجنب الانتقادات حول كارثة غزة، سعى نتنياهو إلى البحث عن كبش فداء، مثل وزير الدفاع السابق يوآف غالانت، مما أدى إلى زيادة التآكل في التماسك السياسي وزيادة تأجيج الديناميكيات الداخلية الهشة بالفعل داخل إسرائيل.

أوجه التشابه مع فيتنام تزداد قوة يوماً بعد يوم، فهي قوة متفوقة تكنولوجياً ولكنها مشحونة أخلاقياً وتخوض حملة مكلفة سياسياً، وبهذا المعنى فإسرائيل محاصرة في حملة لا يمكنها أن تفوز بها فهي تواجه خصماً عنيداً ومعارضة داخلية وعزلة دولية متزايدة

أما الصدع الأكثر دراماتيكية، فهو يكمن في مجال الاستخبارات، حيث كشفت أحداث 7 أكتوبر عام 2023 عن انهيار كامل للبنية الأمنية الإسرائيلية، فقد تسبب فشل كل من جهاز الشاباك والموساد في توقع هذا الهجوم وإحباطه، رغم عمليات المراقبة التي تغلغلت في عمق غزة، في إثارة جدل أوسع حول مدى جدوى العقيدة الأمنية الإسرائيلية. 

على سبيل المثال، فقد حذر رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت في صحيفة هآرتس، بأن إسرائيل الآن باتت “أقرب إلى حرب أهلية من أي وقت مضى”، ومن هذا المنظور، فإن هجوم حماس لم يقتصر على إلحاق خسائر عسكرية، بل أدى إلى تفتيت إسرائيل من الداخل.

لقد امتد الانهيار الداخلي أيضاً إلى صفوف الجيش، حيث أصبح هناك موجة من المعارضة داخل الجيش الإسرائيلي مع تزايد أعداد جنود الاحتياط الذين يرفضون الخدمة وتعبير قدامى المحاربين العسكريين عن خيبة أملهم حول أهداف الحرب وعواقبها الأخلاقية.

هناك ركيزة أخرى لضعف إسرائيل تكمن في الخسائر الاقتصادية الناجمة عن حربها الطويلة على غزة، فقد كانت التكاليف المالية المترتبة على استمرار العمليات العسكرية واستمرار الحصار والاستجابة للتهديدات الإقليمية، سبباً في دفع الاقتصاد الإسرائيلي إلى نقطة الانهيار، حيث تشير التقارير إلى أن الحكومة تنفق ما لا يقل عن 260 مليون دولار يومياً على المجهود الحربي.

على الصعيد المحلي، ظهرت التأثيرات الاقتصادية في مختلف القطاعات الرئيسية، حيث انخفض الاستثمار الأجنبي بشكل حاد كما تراجعت السياحة وسط مخاوف أمنية ناجمة عن الهجمات الصاروخية عبر الحدود، ولم يعد يُنظر إلى إسرائيل كوجهة مستقرة للعمل أو الترفيه. 

لقد تم تعويض جزء كبير من هذا العبء مؤقتاً من خلال دعم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إلا أن هذه المساعدات باتت محل تدقيق وتشكيك خاصة مع وجود ضغوط شعبية في دول الغرب لإنهاء تواطؤها في الحرب.

تزايد الانقسامات

لقد بدأ تزايد الانقسامات يظهر بين إسرائيل وداعميها الرئيسيين، حيث رفض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدعوات لخفض الرسوم الجمركية على الواردات الإسرائيلية، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تقدم بالفعل لإسرائيل مساعدات سنوية بقيمة 4 مليارات دولار، كما أعرب ترامب عن إحباطه من تعامل إسرائيل مع الحرب ودعا إلى إنهاء الصراع. 

من الجدير بالذكر أنه ولعقود من الزمن، فقد تمتعت إسرائيل بنوع من الاستثناء الدولي الذي حماها من المساءلة وسمح لها بالتصرف مع إفلات شبه كامل من العقاب، حتى في مواجهة الادعاءات المتزايدة بارتكاب جرائم حرب، ولكن حملة الإبادة الجماعية الأخيرة في غزة ساهمت في بدء كسر هذا الدرع القائم منذ زمن طويل.

منذ 7 أكتوبر عام 2023، شهد الرأي العام العالمي وخاصة في الغرب تحولاً جذرياً، حيث احتشد الملايين من الناس للمطالبة بوقف إطلاق النار، حيث صعب هذا الضغط المتزايد من قبل المجتمع المدني على الحكومات الغربية الحفاظ على الدعم غير المشروط لإسرائيل، فأصبح الاصطفاف مع إسرائيل عبئاً على سياسة الولايات المتحدة وليس رصيداً.

وفي المجال القانوني، تواجه إسرائيل تدقيقاً غير مسبوق، حيث تدرس محكمة العدل الدولية ما إذا كانت أفعالها في غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ولهذه القضية رمزية وثقل سياسي كبير لأن الحكم بالإدانة لن يضر بمكانة إسرائيل الدولية فحسب، بل قد يؤدي أيضاً إلى تورط قادة رئيسيين بمن فيهم نتنياهو.

داخلياً، تتصاعد المعارضة داخل إسرائيل، حيث وقع ما يقرب من 1000 من أفراد القوات الجوية الإسرائيلية على رسالة احتجاج ضد الحرب وقد يواجهون الطرد، ويشير هذا المستوى من المعارضة داخل دوائر النخبة العسكرية إلى عدم الرغبة في استمرار الحرب. 

في الغرب، قوبلت الاحتجاجات الجامعية برد فعل مؤسسي عنيف، مما كشف عن مدى عمق تغلغل قمع المؤيدين للفلسطينيين في الحياة الأكاديمية والمدنية الغربية.

كل التحولات السابقة توضح كيف أصبحت الحرب الإسرائيلية على غزة غير قابلة للاستمرار،كما أن أوجه التشابه مع فيتنام تزداد قوة يوماً بعد يوم، فهي قوة متفوقة تكنولوجياً ولكنها مشحونة أخلاقياً وتخوض حملة مكلفة سياسياً، وبهذا المعنى فإسرائيل محاصرة في حملة لا يمكنها أن تفوز بها فهي تواجه خصماً عنيداً ومعارضة داخلية وعزلة دولية متزايدة.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة