بقلم آزاد عيسى
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
حلت ظهيرة ذلك اليوم محمّلة بالمفارقات الثقيلة على الضمير الإنساني، ففي الوقت الذي كانت فيه الإبادة الجماعية تبلغ ذروتها في الوحشية في غزة، وفي ظل تحذير أممي من إمكانية إبادة ما يقرب من 14 ألف طفل رضيع، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باتهام فجّ موجّه إلى جمهورية جنوب أفريقيا، متهماً بلاده بارتكاب “إبادة جماعية ضد البيض”.
لقد وجه ترامب، المعروف بتصريحاته النارية وتجاهله للأعراف الدبلوماسية، طلباً مباشراً إلى الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا يطالبه فيه بتفسير “قتل المزارعين البيض” في بلاده، وقد بدا على رامافوزا التوتر، لكنه حاول التماسك مكتفياً بابتسامة دبلوماسية فاترة ارتسمت على وجهه، بينما كان واضحاً أن الرئيس الأمريكي يسعى لتصعيد إعلامي لا أكثر.
وخلال استعراض مسرحي في اللقاء، أمر ترامب بتخفيض الإضاءة، ثم عرض مقطعاً مصوراً لزعيم المعارضة الجنوب أفريقي، جوليوس ماليما، وهو يطالب بمصادرة الأراضي التابعة للبيض داخل قاعة البرلمان.
تلا ذلك مقطع آخر يظهر فيه ماليما وهو يردّد شعار “اقتلوا البوير”، وهو شعار استخدم تاريخيًا خلال نضال السود ضد نظام الفصل العنصري، لكن تمت إعادة توظيفه هنا بطريقة مغلوطة لإثارة مشاعر العنصرية والتحريض.
استند ترامب كذلك إلى مشاهد لقبور مزعومة قال إنها تخصّ أكثر من ألف مزارع أبيض، لكنها في الحقيقة ليست سوى رموز استخدمت خلال احتجاج عام 2020، ورغم وضوح السياق، أصر ترامب على تسويق هذه الرواية التي تفتقر إلى أي أساس واقعي أو إحصائي.
بين الوقائع والتضليل الإعلامي
والواقع أن الحديث عن “إبادة جماعية للبيض” في جنوب أفريقيا لا يمت للواقع بصلة، فالبيض الذين لا تتجاوز نسبتهم 7% من عدد السكان الكلي مازالوا يهيمنون على 72% من الأراضي الزراعية، ويحظون بأفضل فرص التعليم والرعاية الصحية والوظائف مقارنة بغالبية السكان السود الذين يشكلون أكثر من 80% من الشعب.
وحتى تلك “المقابر” التي أشار إليها ترامب ليست إلا نصبًا رمزية استخدمها متظاهرون لتخليد ذكرى مزارعين قُتلوا في حوادث لا تختلف كثيرًا عن العنف الذي يطال غيرهم من المواطنين بسبب ارتفاع معدلات الجريمة في البلاد.
وبحسب تقارير موثوقة، فإن المزارعين البيض ليسوا أكثر عرضة للعنف من غيرهم، بل على العكس، قد يكونون أقل استهدافاً من عامة السكان.
حسابات سياسية واستغلال ممنهج
ولا يمكن قراءة تصريحات ترامب بمعزل عن أجندته الأيديولوجية، بل إنها أتت ضمن حملة ممنهجة لتشويه سمعة جنوب أفريقيا، لا سيما بعد أن تقدّمت بريتوريا بشكوى ضد دولة الاحتلال إلى محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في غزة.
فقد تفاعل تفاعل اللوبي الصهيوني في واشنطن بشكل سريع مع هذه الشكوى، مُستغلاً الرواية الترامبية لصرف الأنظار عن فظائع الاحتلال غزة وساعياً إلى تحويل الانتباه إلى “انتهاكات مزعومة” تمارسها دولة جنوب إفريقيا.
واللافت أن محاولة تقويض صورة جنوب أفريقيا تزامنت مع عودة ترامب إلى المشهد السياسي الأمريكي، وهو الذي لطالما استثمر في قضايا الهوية البيضاء لجذب قاعدته الانتخابية، وبالأخص أتباع حركة “مجيدا” (اجعل أمريكا عظيمة مجددًا) وأنصار الفكر القومي الأبيض.
أما إيلون ماسك، الذي يملك مصالح اقتصادية في جنوب أفريقيا، وهي وطنه الأصلي، فقد رفض الالتزام بقوانين الملكية العادلة، حيث تنص التشريعات على أن يمتلك الجنوب إفريقيين السود نسبة لا تقل عن 30% من أسهم الشركات، فيما لا يزال مشروع “ستارلينك” معلقًا، ما يشير إلى أن المواجهة لم تعد سياسية فحسب، بل اقتصادية أيضًا.
قانون مصادرة الأراضي: محاولة إصلاح أم ذريعة للتحريض؟
كانت حكومة رامافوزا قد أقرت في مطلع العام الجاري قانونًا يتيح مصادرة الأراضي غير المستغلة بهدف تقليص الفجوة الهائلة في ملكية الأراضي، ورغم التحذيرات من أن القانون قد يمهّد لمصادرة ممتلكات خاصة دون تعويض، فقد أكّد مكتب الرئيس أن الأمر ليس “مخططًا شيوعيًا”، بل آلية قانونية لتصحيح اختلالات عمرها قرون.
وفي هذا السياق، كتبت الأستاذة زسا-زسا بوجنبول من جامعة ستيلينبوش أن القانون، رغم طموحه، لن يحقق تحولاً جذريًا، مشيرة إلى أن تأثيره على حقوق الملكية سيكون محدودًا نسبيًا، لكنه ضروري للعدالة الاجتماعية.
غير أن إدارة ترامب لم تنتظر، فأعلنت في فبراير تجميد المساعدات لجنوب أفريقيا، بذريعة “التمييز ضد البيض”، رغم غياب أي إثبات قانوني على ذلك، وقد سبق لترامب أن طرح هذه المزاعم لأول مرة عام 2018، مستندًا حينها إلى برامج إعلامية أمريكية يمينية متطرفة تتغذى على التضليل والعنصرية.
ما وراء الشعبوية
واللافت أن رواية “إبادة البيض” تروّج لصورة أسطورية عن مجتمع أبيض محاصر من الأغلبية السوداء، في سردية عنصرية تُستخدَم لتبرير السياسات القمعية في الداخل الأمريكي أيضًا.
فقد اعتبر مركز القانون الجنوب إفريقي للفقر أن خطاب ترامب حول “الإبادة الجماعية” يعزز من الخطاب القومي الأبيض، بينما وصفت رابطة مكافحة التشهير (ADL) الادعاء بأنه “كاذب”، مشيرة إلى أن جرائم قتل المزارعين تشمل السود والبيض على حد سواء، والسبب الأساسي فيها هو تفشي العنف في البلاد، لا العنصرية المؤسسية ضد البيض.
ومع ذلك، تجنبت الرابطة ذاتها المعروفة بدعمها القوي للاحتلال إصدار أي إدانة صريحة للمزاعم الأخيرة التي تهدف لتشويه صورة جنوب أفريقيا، مما يعكس ازدواجية في التعامل مع حقوق الإنسان.
الرئيس رامافوزا والمفارقة التاريخية
لا يمكن إعفاء رامافوزا من الانتقادات، إذ لا يزال اسمه مرتبطًا بمجزرة ماريكانا التي قُتل فيها 34 عامل منجم أسود في عام 2012، ورغم أن لجنة التحقيق برأته من المسؤولية المباشرة، إلا أن كثيرين لا يزالون يحملونه جزءًا من وزر تلك الجريمة باعتباره كان يشغل حينها منصبًا إداريًا رفيعًا في شركة التعدين المعنية بالحادثة.
وعلى الرغم من هذا الإرث الثقيل، خرج رامافوزا من اللقاء مع ترامب محتفظًا برباطة جأشه ومكانته، بعد أن أفشل محاولة توريطه في تهمة لا أساس لها، وقد عبّر حينها عن استعداده للاستماع إلى “أصوات أصدقاء ترامب الجنوب أفريقيين” الذين يعرفون الحقيقة، في إشارة ذكية إلى أن هذه الاتهامات لا تحظى حتى بتأييد أبناء جلدته من البيض.
أما الأكثر إيلامًا في هذه القصة فهو أن الرئيس الأسود لدولة خرجت من نير الفصل العنصري، لا يزال يُضطر إلى طمأنة البيض، وتفنيد مزاعم لا وجود لها، في وقتٍ يعاني فيه غالبية شعبه من البطالة والفقر والتمييز المتجذر
فبينما تبلغ نسبة البطالة بين السود نحو 38%، لا تتجاوز النسبة بين البيض 8%، ورغم ذلك، لا تزال مخاوف الأقلية البيضاء تُمنَح الأولوية في النقاشات السياسية الدولية.
وفي لحظة كانت تتطلب تضامنًا عالميًا مع ضحايا الإبادة في غزة، اختار البعض حرف الأنظار نحو قصص مختلقة تخدم أجندات عنصرية وتبرر سياسات استعمارية جديدة، تحت غطاء “حقوق الإنسان الأبيض”، إنها المفارقة الكبرى وربما الأكثر إيلامًا في عصرنا الحديث.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)