بين الدمار والأمل: كيف يقود الفلسطينيون أنفسهم لإغاثة غزة بعد تخلّي العالم؟

بقلم كاثرين هيرست

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

تقود مجموعة فلسطينية جهوداً شعبية لكسر الحصار المفروض منذ أشهر على قطاع غزة، حيث بات الحصول على كيس من الدقيق أمراً شبه مستحيل.

فقد أمضت الناشطة الفلسطينية المقيمة في لندن هالة صباح أسابيع وهي تحاول إيصال دقيق نظيف إلى الأهالي في غزة، دون جدوى، حيث تقول: “لا نجد دقيقاً، أو على الأقل دقيقاً نظيفاً، كله ملوث أو مخلوط بالرمل”.

تنشط صباح مع مجموعة مساعدة متبادلة يقودها فلسطينيون وتنسق مع متطوعين على الأرض يشترون الإمدادات الغذائية ويوزعونها من التبرعات التي يتم جمعها عبر مبادرتهم الشعبية “مشروع سمير”، الذي أُطلق قبل أكثر من عام تخليداً لذكرى عم صباح، الذي استشهد على يد جيش الاحتلال في غزة.

ومع استمرار حصار الاحتلال الشامل منذ 2 مارس/آذار، وقطع كافة طرق المساعدات تقريباً، بات عمل المجموعة أكثر صعوبة، خاصة بعد أن توقفت العديد من المنظمات غير الحكومية عن تقديم خدماتها في القطاع.

ومع ندرة الطحين، تحولت المجموعة لتوزيع الأرز، غير أن أن صباح لا تزال تصر على مواصلة البحث عن الدقيق، موضحةً: “الناس في غزة يفضلون الخبز حقاً، وإذا أعطيتهم طبق أرز أو قطعة خبز، فإنهم يختارون الخبز دائماً”.

وفي مشهد دموي جديد، أطلق جيش الاحتلال يوم الأحد النار على فلسطينيين جائعين تجمعوا في مراكز توزيع مساعدات تديرها مؤسسة أمريكية تُدعى “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF)، ما أسفر عن استشهاد ما لا يقل عن 35 شخصاً. 

وتُعد هذه المجزرة حلقة جديدة في سلسلة هجمات متكررة على طالبي المساعدات في نقاط توزيع تشرف عليها المؤسسة.

فقد اندلعت فوضى مماثلة قبل عدة أيام حين قتلت قوات الاحتلال ثلاثة فلسطينيين وجرحت ما لا يقل عن 46 آخرين أثناء توزيع أول شحنة مساعدات غذائية للمؤسسة ذاتها.

ورغم إعلان GHF أن وجباتها تحتوي على 1750 سعرة حرارية فقط، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى الذي حددته منظمة الصحة العالمية للطوارئ (2100 سعرة يومياً)، وصفت صباح محتوى الطرود بأنه “مسيء”، قائلة: “لم يكن هناك خضروات ولا لحوم ولا فواكه ولا شيء طازج”.

“نحن نتحرك، لا ننتظر”

ويختلف مشروع “سمير” في آليات عمله جوهرياً عن المنصات الدولية الأخرى، فإلى جانب صباح، يضم الفريق لينا دجاني المقيمة في كاليفورنيا، والتي تنسق الجانب الطبي، وناشطاً مجهول الهوية يدير صفحة “ترجمة فلسطين” على إنستغرام.

ومن خلال استخدام تطبيقات بسيطة مثل واتساب، تمكن الفريق من جمع ملايين الدولارات وتنسيق عمليات إيصال الطعام والدواء والمساعدات العاجلة للفلسطينيين في غزة، في وقت تنهار فيه كبرى المنظمات أمام صلابة الحصار وتعقيد الوضع الأمني.

وتقول صباح: “أكبر تحد لنا هو توفير الغذاء في الوقت الحالي، إذ تبلغ تكلفة طبق من الأرز حوالي 8.5 دولارات، وعند احتساب العمولة فإن سعره يتجاوز 10 دولارات، هذا طبق من الأرز يكفي بالكاد لشخصين”.

كما يواجه المشروع تحديات إضافية من جماعات مسلحة تستولي على بعض المساعدات المارة عبر المعابر، في ظل حماية مباشرة من جيش الاحتلال، بحسب تقارير محلية.

غير أن طبيعة المشروع الشعبية ومرونته تتيح شراء الإمدادات من باعة متجولين وتجار محليين دون الحاجة لإدخال المساعدات من الخارج، خلافاً للمنظمات الكبيرة التي تواجه عراقيل بيروقراطية خانقة.

وتقول صباح: “المنظمات الدولية التي تعمل في إطار غربي تعاني من إجراءات بيروقراطية مقيدة للغاية، إنها غير مرنة ولا تسمح بأي استثناءات وتنفق الكثير على النفقات العامة، أما نحن فإننا نصدر فواتيرنا الخاصة، ونجد طريقة لجعل الأمور تسير دون تأخير”.

الماء أولاً: معركة البقاء

وبالإضافة إلى الغذاء، تدير المجموعة مشروعاً حيوياً لتوزيع المياه في شمال غزة، حيث تم تدمير معظم البنية التحتية بفعل قصف الاحتلال.

وتعمل المبادرة على استئجار شاحنتين تنقلان نحو 100,000 لتر من المياه يومياً من محطات التحلية القليلة التي لا تزال تعمل في القطاع، بكلفة تبلغ 46 دولاراً لكل ألف لتر.

وتشرح صباح الوضع في شمال غزة بعد وقف إطلاق النار المؤقت الذي أبرم في يناير/كانون الثاني فتقول: “انتقل فجأة ما يقرب من مليون شخص إلى الشمال في غضون أسبوع، وحلوا في أماكن مثل جباليا وبيت لاهيا، حيث لا توجد أي بنية تحتية على الإطلاق”. 

وتضيف: “حرصنا على توصيل المياه إلى تلك الأماكن التي لا يمكن لمنظمات الإغاثة الوصول إليها”.

وأدت أزمة المياه إلى مآسٍ إنسانية متكررة، كان آخرها إصابة طفل بتمزق في فخذه نتيجة حمله قارورة مياه ثقيلة لمسافة طويلة، حيث وتقول صباح: “على رجال الأسرة الذهاب للبحث عن الطعام أو محاولة كسب المال مما يترك الأطفال ليذهبوا لجلب المياه”.

وتُعد هذه الجهود جزءاً من عمل أوسع، حيث تؤكد صباح: “هدفنا النهائي هو التحرير وضمان بقاء الجميع على أراضيهم، لذا، فإن جزءًا من طريقتنا يتمثل في دعم الناس للعودة إلى ديارهم، حتى لو كانت مدمرة، وذلك عبر ضمان حصولهم على الماء والغذاء على الأقل”.

سدّ فجوات النظام الصحي المنهار

ومع تدمير النظام الصحي في غزة جرّاء العدوان المستمر، تحوّل مشروع “سمير” إلى طوق نجاة للآلاف من المرضى والمصابين، إذ تتلقى المنسقة الطبية للمجموعة، لينا دجاني، قرابة 25 حالة طبية يومياً عبر إنستغرام وواتساب، تُحوَّل لاحقاً إلى مركز طبي أنشأه المشروع في وسط غزة لتخفيف الضغط عن المستشفيات المنهارة.

وتقول دجاني: “بالنسبة لمريض واحد، علينا الاتصال بـ10 صيدليات تقريباً للعثور على دواء بسيط، ثم نعطيه كمية تكفيه لمدة شهر واحد فقط، لأننا بالطبع نضطر إلى توزيع هذه الكمية على جميع المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية فورية”.

وبسبب شحّ الأدوية وارتفاع أسعارها بشكل جنوني فإن عدد الحالات التي كان يمكن علاجها بسهولة أخذ يتفاقم، فعلى سبيل المثال، لا يستطيع مرضى الصرع شراء أدوية لعلاج النوبات، مما يؤدي إلى نوبات متكررة وخطيرة.

أما حالات سوء التغذية بين الأطفال، فقد وصلت إلى أرقام كارثية، حيث أبلغ المشروع عن وفاة أكثر من 60 طفلاً منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. 

ورغم صعوبة الوصول إلى حليب الأطفال، تمكّنت المجموعة من تأمين مكملات غذائية بقيمة 51 ألف دولار.

وفي ظل توقف جهود الأونروا ومنظمة الصحة العالمية بفعل التصعيد العسكري، أصبحت مهمة التصدي لتفشي الأمراض الجلدية والفيروسية والبكتيرية مسؤولية المبادرة، التي تعالج يومياً ما بين 300 إلى 500 مريض. 

ومن بين الأمراض المنتشرة الجرب والطفح الجلدي والتهابات العين والتهابات الجهاز التنفسي والهضمي.

وتوضح دجاني: “هناك صعوبات كبيرة جداً أيضاً فيما يتعلق بكريمات معالجة الجرب، فيجب أن يتم استخدامه على مدى فترة طويلة، ونحن نحاول إطفاء حريق بقطرة ماء”.

وتشير دجاني إلى حالة طفل شرب منظفاً منزلياً ظناً منه أنه ماء، بسبب العطش الشديد، مما استدعى نقله الفوري إلى المستشفى لغسل معدته.

أدوات طبية “تُصنّف كسلاح”

ولم تقتصر تعقيدات الحصار على توفير الأدوية، بل إن الحصول على أدوات طبية أساسية كالكراسي المتحركة والعكازات وزراعة القوقعة أصبح مستحيلاً، لأن سلطات الاحتلال تصنّفها كأدوات “مزدوجة الاستخدام” وتمنع دخولها إلى غزة بحجة إمكانية توظيفها في “أغراض عسكرية”.

وتقول دجاني: “كان علينا انتظار وفاة شخص حتى نتمكن من شراء كرسي متحرك من مورد طبي، الكرسي يكلف 550 دولاراً، ويجب دفع المبلغ نقداً، وهذا صعب جداً في غزة، حيث تصل عمولات صرف النقود إلى 35%”.

وتؤكد أن المنظومة الصحية في غزة باتت تعتمد بشكل شبه كامل على مجموعات صغيرة مثل “مشروع سمير”، مضيفة: “نحن نتحرك، ولا ننتظر الضوء الأخضر من أحد، بينما تتعثر المنظمات الكبرى خلف الإجراءات البيروقراطية، نحن نوصل الأدوية بأنفسنا”.

نموذج دولي فاقد للوعي الثقافي

وبالنسبة لهالة صباح، لم يكن فشل GHF مفاجئاً، وتقول: “هذه الفوضى تعكس مشاكل المساعدات الدولية في غزة، فالكثير منهم يحضرون مع أجنداتهم الخاصة، ولديهم الكثير من الإجراءات البيروقراطية، وهناك الكثير من الأشياء التي لا يمكنهم القيام بها”.

وأشارت إلى أن المنظمات الدولية تفتقر إلى الحساسية الثقافية وفهم الواقع المحلي، فقد رفض مشروع سمير التعاون مع مجموعة أمريكية أرادت بناء “مراحيض طويلة” على الطريقة الغربية، دون فهم أن هذه البُنى لا تتناسب مع نمط الحياة والمجتمع الغزّي.

وتقول صباح: “هناك دائماً هذه الفرضيات من قبل المنظمات الغربية، التي تفرض ما تسميه معايير دولية، والتي في الواقع كتبها أشخاص من الغرب لم يختبروا أبداً إبادة جماعية أو حصاراً دام 19 شهراً”.

وتضيف: “تركيزنا في مجموعتنا، إلى جانب مجموعتين نثق بهما، ينصب بالكامل على سكان غزة، نحن لسنا هنا لإدارة المبادرة، نحن هنا لتسهيل الأمور والتأكد من أن الأموال تصل إلى الأيدي الصحيحة”.

حالة غزة: استثناء إنساني لا يشبه شيئاً

وتختتم صباح حديثها بكلمات تجسّد حجم المأساة وتعقيدها قائلة: “لا توجد حالة مشابهة لغزة، لقد حدثت إبادة جماعية على مدى فترات طويلة في أماكن مختلفة، ولكن هنا لدينا حصار ومجاعة متعمدة تحدث في نفس الوقت، دون أن يتمكن أحد من المغادرة”.

وتتابع: “بعد أكثر من 12 عاماً من العمل في المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية، أعتقد أن حتى الأمم المتحدة كانت ستواجه تحديات هائلة لإنجاح هذا العمل، فما بالك بمنظمة مثل GHF التي يديرها مجموعة من القناصة والمرتزقة”.

ورغم كل شيء، فإن مشروع “سمير” يستمر، بإرادة من الصلب وإيمان لا يهتز بأن بقاء الإنسان الفلسطيني على أرضه، هو في حد ذاته فعل مقاومة.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة